التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها

          ░21▒ بَابُ التَّحْرِيضِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالشَّفَاعَةِ فِيهَا.
          1431- 1432- 1433- ذَكَرَ فيه ثلاثةَ أحاديثَ:
          أحدُها: حديثُ ابنُ عبَّاسٍ: (خَرَجَ النَّبِيُّ صلعم يَوْمَ الْعِيدِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ) / الحديثُ (وَأَمَرَهُنَّ أَنْ يَتَصَدَّقْنَ، فَجَعَلَتِ المَرْأَةُ تُلْقِي القُلْبَ وَالْخُرْصَ).
          ثانيها: حديثُ أبي موسَى: كَانَ ◙ إِذَا جَاءَهُ السَّائِلُ أَوْ طُلِبَتْ إِلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ: (اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ).
          ثالثُها: حديثُ أسماءَ: (لَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ) وفي لفظٍ: (لَا تُحْصِي فَيُحْصِيَ اللهُ عَلَيْكِ).
          الشَّرحُ: حديثُ ابنِ عبَّاسٍ سلَفَ في بابِ الخُطبةِ بعدَ العيدِ بشرْحهِ واضحًا [خ¦962] وَأَمَّا حديثُ أبي مُوسى فلا شكَّ أَنَّ الشَّفَاعةَ في الصَّدَقَةِ وسائرِ أفعالِ البِرِّ مُرغَّبٌ فيها مندوبٌ إلَيْهَا، فندبَ أُمَّتَهُ إلى السَّعيِ في حوائجِ النَّاسِ وشَرَطَ الأجْرَ على ذلك.
          ودَلَّ قولُهُ صلعم: (وَيَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ) أَنَّ السَّاعيَ مأجورٌ على كلِّ حالٍ وإنْ خابَ سعيُهُ ولم تنجح طلبتُه لهذِهِ الآية، فإِنَّهُ قال: {مَنْ يَشْفَعْ} [النساء:85] ولم يقُلْ: مَنْ يُشَفَّعْ، بِضَمِّ أوَّلِهِ وتشديدِ ثالثِهِ، والمرادُ بـِ (يَقْضِي اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ) يُيَسِّرُه لِمَا يَأمُرُ بهِ مِنَ العطاء، وقد قالَ صلعم: ((واللهُ في عونِ العَبْدِ مَا كَانَ العبدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)) ولأبي الحسن: <شفعوا> بحذْفِ الألِفِ، وَإِنَّمَا أمرهم بالشَّفَاعةِ لِمَا فيه مِنَ الأجْرِ ولقولِه تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} الآية [النِّساء:85] ولأَنَّهُمْ إذا شَفَعُوا واجتمعتْ عليه المسألةُ كانَ أنجح. ولا يتأبَّى كبيرٌ أنْ يشفعَ عندَ صغيرٍ، فإنْ شَفَعَ عندَه ولمْ يقضِها لا ينبغي له أن يتأذَّى الشَّافع، فقد شفعَ الشَّارعُ عندَ بَريرةَ أَنْ تردَّ زوجَها فأبتْ.
          وقد احتجَّ أبو حنيفةَ والثَّورِيُّ بحديثِ ابن عبَّاسٍ السَّالِفِ وأوجبا الزَّكَاةَ في الحُلِيِّ المتَّخَذِ للنِّسَاء، وقال مالكٌ: لا زكاة فيهِ، وهو مذهبُ ابنِ عمرَ وابنِ عبَّاسٍ وجابرٍ وأنسٍ وعائشةَ وأسماءَ، وهو أظهرُ قولَيِ الشَّافعيِّ. ولا حُجَّةَ في الحديثِ الأوَّلِ لأَنَّهُ صلعم إِنَّمَا حضَّهُنَّ على صدقةِ التَّطوُّعِ فقال: ((تَصَدَّقْنَ)) ولو كان ذلك واجبًا لما قالَ: ((وَلَو مِنْ حُلِيِّكُنَّ)) وممَّا يردُّ قولَهُ أَنْ لو كانَ ذلكَ مِن بابِ الزَّكَاةِ لأَعْطَيْنَهُ بوزنٍ ومِقدارٍ فدلَّ أَنَّهُ تطوُّعٌ، وأيضًا هو كالأثاثِ وليسَ كالرِّقَةِ، وهذا إجماعُ أهلِ المدينة. وذَكَرَ مالكٌ عن عائشةَ أَنَّهَا كانتْ تحلِّي بناتِ أخيها يتامى كُنَّ في حِجرِها لهنَّ الحُلِيَّ ولا تُخرِجُ منهُ الزَّكَاة، وكانَ يفعلُهُ ابنُ عمرَ.
          وأمَّا حديث أسماء _وقد أخرجهُ مسلمٌ أيضًا_ فَإِنَّما سألَتْهُ عن الصَّدقةِ وقالت: يا رسولَ الله ما لي إِلَّا ما أَدْخَلَ عليَّ الزُّبَيْر أفأتصدَّقُ؟ قال ((تصدَّقي ولا تُوكِي فَيُوكِيَ اللهُ عَلَيْكِ)) والمعنى لا تُوكِي مالَكِ عن الصَّدقةِ ولا تتصدَّقينَ خشيةَ نَفَادِه وتدَّخريهِ فيوكِي اللهُ عليكِ أي يمنعُكِ ويقطعُ مادَّةَ الرِّزْقِ عنكِ.
          و(تُوكِي) بالتَّاءِ لأَنَّهُ خطابٌ للمؤنَّثِ، فسقطتِ النُونُ للنَّهيِ. فدلَّ الحديثُ على أَنَّ الصَّدقةَ تُنَمِّي المالَ وتكونُ سببًا إلى البركةَ والزِّيادةَ فيه، وأنَّ مَنْ شحَّ ولم يتصدَّقْ فإنَّ الله يوكِي عليهِ ويمنعُه مِنَ البَركةِ في مالِه والنَّماءِ فيهِ، والإيكاءُ شدُّ رأْسِ الوِعاء بالوِكاءِ وهو الرِّباطُ الَّذِي يُربط بهِ، قال ابنُ فارسٍ: وهو البُخْلُ، وهذا محمولٌ على ما إذا أعطاهُ صاحبُ البيتِ نصيبًا لها، وقيل: إِنَّ صاحبَ البيتِ إذا دخلَ بالشَّيء بيتَهُ كان ذلك في العرفِ مفوَّضًا إلى ربَّةِ المنزلِ فهي تنفقُ منه بقدرِ الحاجةِ في الوقتِ، فكأنَّهُ قال: إذا كان الشَّيءُ مفوَّضًا إِلَيْكِ فاقتصرِي على قدرِ الحاجةِ للنَّفقةِ وتصدَّقي بالباقي منهُ.
          وقولُهُ: (وَلَاَ تُحْصِي) الإحصاءُ للشَّيءِ معرفةُ قدْرِه أو وزنِه أو عددِه، وهذا مقابلةُ اللَّفظِ باللَّفظِ وتجنيسُ الكلامِ بمثلِهِ في جوابِهِ، أي يمنعُكِ كما مَنعْتِ، كقولِه تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ} [آل عمران:54] وقيل: معناه لا تُحصِي ما تعطينَ فتستكثريهِ فيكونُ سببًا لانقطاعِهِ، ويحتمل أَنْ يُرادَ بالإحصاءِ ونحوِه عَدَدُهُ خَوْفَ أنْ تزولَ البركةُ منهُ كما قالتْ عائشةُ: حَتَّى كِلناهُ فَفَنِيَ، ورجَّحهُ بعضُهم، وقيل: عدَّدَتْ ما أنفَقَتْهُ فنَهَاها عن ذلك، وجاءَ أيضًا النَّفْحُ وهو العطاءُ ويجوزُ أن يكونَ مِنْ نَفْحِ الطِّيبِ إذا تحرَّكَتْ رائحتُهُ إذِ العطيَّةُ تسُتطابُ كما تُستطابُ الرَّائحةُ الطَّيِّبَةُ، أو مِنْ نَفَحَتِ الرِّيْحُ إذا هبَّتْ باردةً.