التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب لا يقبل الله صدقةً من غلول ولا يقبل إلا من كسب طيب

          ░7▒ بَابٌ لَا يَقْبَلُ اللهُ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ، وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ.
          لِقَوْلِهِ:{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة:263].
          ░8▒ بَابُ الصَّدَقَةِ مِنْ كَسْبٍ طيِّبٍ.
          لِقَوْلِهِ: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} الآية إلى {يَحْزَنُونَ} [البقرة:276-277].
          1410- ثُمَّ ذَكَرَ حديثَ أبي هُريرة: (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ) الحديث، تَابَعَهُ سُلَيْمانُ عَنِ ابنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقال وَرْقَاءُ: عَنِ ابن دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلعم، وَرَوَاهُ مُسْلِمُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَسُهَيْلٌ عَنْ أَبِي صَالِحٍ به.
          وله في التَّوحيد ولم يصلْهُ: ((وَلَا يَصْعَدُ إِلَى اللهِ إِلَّا طَيِّبٌ)) [خ¦7430].
          الشَّرح: في بعضِ النُّسَخِ حذْفُ قولِه: (وَلَا يَقْبَلُ اللهُ...) إلى آخرِه وَلَمْ يذكر فيهِ شيئًا. وهذِهِ التَّرجمةُ هي حديثٌ ذَكَرَ المصنِّفُ بعضَهُ في الطَّهارة فقالَ: باب لا يقبل الله صلاةً بغيرِ طُهور، وهذا آخِرُه: ((وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ)) وَقد تكلَّمْنَا عليه هناك، واعترضَ الدَّاوُديُّ فقال: لو نزع هذا بقولِه تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] وقال في الَّذي قبلَه: {كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ} [البقرة:264] فقد قال كذلك.
          وقال ابن المُنيِّر: إن قَلتَ: ما وجهُ الجمع بين التَّرجمةِ والآية؟ وهلَّا ذَكَرَ قولَه تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} قلتُ: جرى على عادتِه في إيثارِ الاستنباطِ الخفيِّ والاتِّكالِ في الاستدلالِ الجَلِيِّ على سَبْقِ الأَفهامِ له، ووجهُ الاستنباطِ يحتمل أنَّ الآيةَ فيها إثباتُ الصَّدَقَةِ، غيرَ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَمَّا تبِعَها سيِّئَةُ الأذى بَطَلَتْ، فالغُلول غَصْبٌ إذنْ فيقارِنُ الصَّدَقةَ فَتَبْطُلُ بطريقِ الأَوْلَى، أو لأَنَّهُ جَعَلَ المعصيةَ اللَّاحقةَ للطَّاعةِ بعْدَ تَقَرُّرِها _وهي الأَذَى_ تُبطِلُ الطَّاعةَ، فكيفَ إذا كانت الصَّدقةُ عَيْنَ المعصيةِ لأنَّ الغالَّ في دفْعِه المالَ للفقيرِ غاصِبٌ متصرِّفٌ في مِلكِ الغيرِ، فكيف تقع المعصيةُ مِن أوَّلِ أمرِها طاعةً معتبرةً وقد أَبطَلَتِ المعصيةُ المحقَّقةُ مِن أَوَّلِ أمرِها في الصَّدَقَةِ المتيقَّنَةِ بالأذى، وهذا مِن لطيفِ الاستنباطِ.
          وقولُه تعالى: {وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] قال الضَّحَّاك: يقولُ: أن تُمْسِكَ مالَك خيرٌ مِن أنْ تنفقَه ثُمَّ تُتبعَهُ منًّا وأذًى {وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} أي غنيٌّ عن خَلْقِه في سلطانِه، حليمٌ عن سيِّئِ فِعالِهم.
          وقولُه: {وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276] أي كَفَّارٍ بقليلِ الحلالِ لا يقنعُ، وأثيمٍ في أخْذِ الحرامِ.
          والغُلُولُ الخيانةُ قال ابنُ سِيدَهْ: غَلَّ يَغُلُّ غُلولًا وأَغلَّ خانَ، قال: وخَصَّ بعضُهم الخونَ في الفيءِ، والإغلالُ السَّرقةُ، قال ابن السِّكِّيت: لم يُسمع في المغنم إِلَّا غلَّ غُلولًا، وقال الجوهريُّ: يُقال مِن الخيانةِ أَغلَّ يُغِلُّ، ومِنَ الحقدِ غلَّ يَغِلُّ، ومِنَ الغُلولِ غَلَّ يَغُلُّ.
          واستدلَّ البُخاريُّ في البابِ الأَوَّلِ بقولِه: {وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] لَمَّا كان حرمانُ السَّائلِ وقَوْلُ المعروفِ والاستغفارُ {خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] وثَبَتَ أَنَّ الصَّدَقَةَ إذا كانتْ مِن غُلولٍ غيرُ متقبَّلَةٍ لأَنَّ الأذى في الغُلولِ للمسلمين أشدُّ مِن أذى المتصدَّق عليهِ وحدَهُ. وأَوْلَى مِن الاستدلالِ بها قولُه تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}.
          وحديثُ أبي هُريرةَ مطابقٌ للتَّبويبينِ، ومتابعةُ سليمانَ _وهو ابنُ بلالٍ_ أخرجَهَا في التَّوْحيدِ بلفظ: وقال خالد بن مَخْلدٍ عن سليمان بن بلالٍ / عن عبدِ الله بن دينارٍ [خ¦7430] وقد أسندَها مسلمٌ عن أحمدَ بن عثمانَ بن حكيمٍ عن خالد بن مَخلدٍ به، وتعليقُ ورقاءَ عن سعيدِ بن يَسارٍ أخرجهُ التِّرمِذيُّ لكن مِن حديثِ سعيدٍ المَقْبُرِيِّ ويحيى بن سعيدٍ وابنِ عَجْلان عن سعيدِ بن يسارٍ به، ثُمَّ قال: حسنٌ صحيحٌ.
          وقال الدَّاوُديُّ: تتابُعُ الرُّوَاةِ عن أبي صالحٍ عن أبي هريرة دالٌّ على أَنَّ ورقاء أوهَمَ في قولهِ: عن سعيد بن يسارٍ، ولفظُ ابنِ خُزَيمةَ: ((مُهْرَهُ أو فَصيلَه)) زاد: ((وَإِنَّ الرَّجُلَ ليتصدَّقُ باللُّقمةِ فتَربُو في كفِّ اللهِ ╡ حَتَّى تكونَ مثلَ الجبلِ، فتصدَّقُوا)) وفي روايةٍ له: ((فَلُوَّهُ أو قَلُوصَهُ)) وفي أُخرَى: ((فَلُوَّهُ قَلُوصَهُ أو فَصِيلَهُ)) وهي في مسلمٍ: ((فَلُوَّهُ أو قَلُوصَهُ)) وروايةُ سُهيلٍ أخرجها البزَّارُ مِن حديثِ خالدِ بنِ عبدِ اللهِ الواسِطِيِّ عنهُ عن أبيه عن أبي هُريرةَ، وفي «علل ابن أبي حاتمٍ» رواه موسى بن عُبيدة عن عبدِ الله بن دينارٍ عن ابنِ عمرَ مرفوعًا، وهو خطأٌ إِنَّمَا هو عن ابنِ دينارٍ عن أبي صالحٍ عن أبي هُريرةَ، فمنهم مَن يوقِفُه ومنهم مَن يُسنِدُهُ، ويحتملُ صحَّةُ رَفْعِهِ.
          وفي «الرَّقائق» لعبدِ الله بن المبارك مِن حديثِ ابنِ مَسعودٍ قال: ما تصدَّق رجلٌ بصدقةٍ إِلَّا وقعتْ في يدِ الرَّبِّ قبلَ أَنْ تقعَ في يدِ السَّائِلِ، وهو يضعُها في يدِ السَّائِل. قال: وهو في القرآنِ العظيمِ، فقرأَ: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة:104].
          وقولُه: (مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ) أي بقيمتِها، وذلك أَنَّ جماعاتٍ مِن أهلِ اللُّغة كما نقلَه عنهم ابنُ التِّين قالوا: العَدْلُ بفتْحِ العينِ المِثْلُ، قال تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة:95] وبكسْرِها الحِمْلُ، وهذا عكسُ قولِ ثعلبٍ. وقال الكِسائيُّ: هما بمعنًى واحدٍ. وقال القزَّاز: عَدْلُ الشَّيءِ مِثلُهُ مِن غيرِ جنسِهِ، وبالكسرِ مِثْلُه مِن جنسِه، وأنكرها البصريُّونَ وقالوا: هما المِثْلُ مُطلقًا، كما أَنَّ المِثْلَ لا يختلِفُ، وقيل: بالفتْحِ مِثْلُه مِن القيمةِ، وبالكسْرِ مِثلُه في المنظرِ، وهذا مِثْلُ قول الفرَّاء. وقال ابن قُتيبة: هو بالكسْرِ القيمةُ، وعبارةُ «المحكم» العَدلُ والعديلُ والعِدلُ: النَّظيرُ والمِثْلُ، وقيل: هو المِثْلُ وليس بالنَّظيرِ عينِهِ.
          وقولُه: (مِنْ كسْبٍ طَيِّبٍ) أي مِن حلالٍ، وَإِنَّمَا لا يقبلُ اللهُ غيرَهُ لأَنَّهُ غيرُ مملوكٍ للمتصدِّقِ لأَنَّهُ ممنوعٌ مِن التَّصرُّفِ فيهِ، فلو قُبِلَتْ لَزِمَ أن يكون مأمورًا به منهيًّا عنهُ مِن وجهٍ واحدٍ وهو مُحالٌ.
          وقولُه: (بِيَمِينِهِ) ذِكْرُ اليمين هنا قيل: يُرادُ بها سرعةُ القَبول وهو مجازٌ، وقيل: حُسْنُ القَبولِ وهو متقاربٌ مع الأوَّل؛ لأَنَّ عُرفَ النَّاسِ أَنَّ أيمانَهم مُرْصَدةٌ لما عَزَّ وشمائلَهم لما هانَ، والجارحةُ على الرَّبِّ جلَّ جلالُهُ مُحالَةٌ تقدَّس عنها، ولَمَّا كانت الشِّمَالُ عادةً تنقُصُ عن اليمينِ بطْشًا وقوَّةً عرَّفَنا الشَّارِعُ بقولِه: (وَكِلْتا يَدَيْهِ يَمِيْنٌ) فانتفى النَّقصُ تعالى عنهُ.
          والفَلُوُّ: هو المُهرُ كَمَا سلفَ عن روايةِ ابنِ خُزيمةَ وهو ولَدُ الفَرَسِ، وولدُ الحمارِ جحشٌ وعِفْوٌ وكذلك البغلُ الصَّغِيرُ. وهو بفتْحِ الفاءِ وتشديدِ الواو، والأنثى فَلُوَّةٌ مِثَالُ عَدُوَّةٍ، والجمعُ أَفْلاءٌ مِثلُ أعداءٍ، وسُمِّي بذلك لأَنَّهُ يُفتلَى أي يُفطَمُ، وقال الدَّاوُديُّ: يُقال للمُهرِ فَلُوٌّ وللجحشِ ولَدِ الحمارةِ فِلُوَّةٌ وهو بكسْرِ الفاءِ _ويُقالُ بفتْحِها_ والتَّشديدِ، وأنكرَ بعضُهم كسْرَ الفاءِ. وقال الجوهريُّ عن أبي زيدٍ: إذا فتحْتَ الفاءَ شدَّدْتَ الواوَ، وإذا كسَرْتَ خفَّفْتَ فقُلْتَ: فِلْوٌ مِثْلُ جِرْو. وقال في «المخصَّص»: إذا بلغَ سنةً _يعني ولدَ الحِجْرِ_ فهو فَلُوٌّ. وقال أبو حاتمٍ: في «فَرْقِه»: لا يُقال فِلُوٌّ ولا فِلُوَّةٌ كما تقولُ العامَّة.
          وقوله: (حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجبَلِ) قال الدَّاوُديُّ: أي كمنْ تصدَّقَ بمِثْلِ الجَبَلِ.
          ومعنى: (يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا) أي ينَمِّيها، فإنْ أُريدَ به الزِّيادةُ في كمِّيَّةِ عينِها لِتَثْقُلَ في الميزان لم يُنكَرْ ذلك في معنًى مقدورٍ أو حكمٍ معقولٍ، وقيل: يُنَمِّيها يُضاعِفُ الأجْرَ عليها وهما متقاربان.
          وقولُهُ تعالى:{وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] أي يضاعفُ أجْرَها لربِّهَا وينمِّيها، ولَمَّا كان الرِّبا قد أخبرَ تعالى أَنَهُ يمحقُه لأَنَّهُ حرامٌ دلَّتِ الآية أَنَّ الصَّدقةَ الَّتي تربُو وتُتَقبَّل لا تكونُ إلَّا مِن غيرِ جنسِ الممحوقِ وذلك الحلالُ. وقد بيَّن ذلك الشَّارعُ بقولِه: (لَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ).
          والحديثُ دالٌّ على مضاعفةِ الثَّوَاب. والمثلُ في التَّشبيهِ بتربيةِ الفَلُوِّ لأَنَّ الولدَ لا يُخلَقُ كبيرًا ولكن يُنمَّى بتعهُّدِ الأُمِّ له بالرَّضَاع والقيامِ بمصالحه، وكذلكَ صاحبُ الصَّدَقةِ إِنْ أتبعَها بأمثالِها وصانَها عن آفاتِها نَمَتْ، وإنْ أعرضَ عنها بقيِتْ وحيدةً، فإنْ مَنَّ أو آذى بَطَل الثَّوَابُ، وفَّقنا اللهُ للصَّوابِ.