التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب ما أدى زكاته فليس بكنز

          ░4▒ بَابٌ مَا أُدِّيَ زَكاتُهُ فَلَيْسَ بِكَنْزٍ.
          لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلعم: (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ).
          1404- 1405- 1406- 1407- 1408- وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ فذَكَرَهُ بإسنادِه إلى ابنِ عُمَرَ قَالَ: مَنْ كَنَزَهَا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لَهُ، إِنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تُنْزَلَ الزَّكَاةُ فَلَمَّا أُنْزِلَتْ جَعَلَهَا اللهُ طُهرًا لِلْأَمْوَالِ.
          ثُمَّ ذكرَ حديثَ أبي سعيدٍ: (لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ).
          ثُمَّ ذكرَ اختلافَ أبي ذرٍّ وَمُعَاوِيَةَ هل نَزَلَتْ {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ} الآية فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وقال أبو ذرٍّ: فِينَا وَفِيهِمْ.
          ثُمَّ ذكر عن الأَحْنَفِ قالَ: (جَلَسْتُ إِلَى مَلَأٍ مِنْ قُرَيْشٍ) الحديث بِطُولِه.
          الشَّرح: هذِهِ التَّرجمةُ كذا رواها أبو ذرٍّ، ولأبي الحسن: <مَنْ> بَدَلَ (مَا) أي فليسَ بِذِي كنزٍ، وهذِه التَّرجمةُ طِبْقُ حديثٍ أخرجَهُ الحاكمُ على شرطِ البُخاريِّ عن أمِّ سَلَمةَ مرفوعًا: ((مَا بَلَغَ أَنْ تُؤدَّى زَكَاتُهُ فزُكِّي فَلَيْسَ بِكَنْزٍ)) ورجَّحهُ ابنُ القَطَّانِ وعابَ على مَن ضعَّفَهُ.
          وفي «مسندِ أحمد» بإسنادٍ ضعيفٍ مِن حديثِ جابرٍ مرفوعًا: ((أيُّمَا مالٍ أُدِّيَتْ زكاتُه فليسَ بكنزٍ)) لكنَّه ليس على شرطِه فلذا لم يخرجْهُ، نعم للحاكمِ أيضًا _وقال: على شرْطِهِما_ مِن حديثِ أبي ذرٍّ مرفوعًا: ((مَن رَفَعَ دنانيرَ أو دراهمَ أو تِبْرًا أو فضَّةً لا يُعِدُّها لغريمٍ ولا يُنفِقُها في سبيلِ الله فهو كنزٌ)).
          وقال الإسماعيليُّ: إن كانت التَّرجمةُ صحيحةً لِمَا ذكرَهُ فالمعنى مِن هذا الوجهِ ليسَ بصحيحٍ، وأحسبهُ: وقال النَّبِيُّ كذا أو يقولُ كذا. قلتُ: بل المعنى صحيحٌ لأنَّه يريدُ أنَّ ما دون خمسِ أواقٍ ليسَ بكنزٍ لأنَّه لا صدقةَ فيه، فإذا زادَ شيئًا عليها ولم تؤدَّ زكاتُه فهو كنزٌ.
          وهذا التَّعليقُ ذكرَهُ بَعْدُ مسنَدًا، وأثَرُ ابنِ عُمرَ أخرجه البَيهَقِيُّ عن الحاكمِ عن دَعْلَجٍ عن أبي عبدِ الله محمَّد بن عليٍّ الصَّايغ عن أحمدَ بنِ شَبيبٍ به، وفي آخِرِهِ قال خالد بن شَبيبٍ: ثُمَّ التفتَ إليَّ فقال: ما أُبالي لو كان مثلُ أُحُدٍ ذهبًا أعلَمُ عَدَدَهُ أُزكِّيهِ وأعملُ بطاعةِ الله. ورواه النَّسائيُّ مِن حديثِ عقيلٍ عن ابن شهابٍ عن خالدٍ، قال الحُميديُّ: وليس لخالدٍ في «الصَّحيحِ» غيرُه.
          وحديثُ أبي سعيدٍ أخرجهُ مسلمٌ والأربعةُ، ويأتي في زكاةِ الوَرِقِ [خ¦1447] وغيرِه [خ¦1459] [خ¦1484].
          وقولُه: (وَحَدَّثَنِي عَلِيٌّ سَمِعَ هُشَيْمًا) اختُلِف فيه على أقوالٍ: فقيل هو ابنُ أبي هاشمٍ عُبيدُ الله بن الطِّبْراخِ البغداديُّ، قال الجَيَّاني: نسبَهُ أبو ذَرٍّ عن المُسْتَمْلي ولم يذكُر الكَلَاباذيُّ أَنَّ البُخاريَّ روى عنهُ هنا، قال: / وروى عنه في النِّكاح، وقيل: هو أبو الحسن عليُّ بن مسلم بن سعيد الطُّوسيُّ نزيلُ بغداد، قاله الكَلَاباذيُّ وابنُ طاهرٍ، وقيل: هو ابنُ المدينيِّ ذكره الطَّرْقيُّ.
          وأَثَرُ الأحنفِ زاد فيه مسلمٌ قال قلتُ: مالَكَ ولإخوانِكَ مِن قريشٍ لا تعترِيهِم وتصيبُ منهم؟ قال: لا وربِّكَ.
          أَمَّا حكمُ البابِ: فالكنزُ في كلامِ العربِ _كما قال الطَّبريُّ_ كلُّ شيءٍ مجموعٍ بعضُه إلى بعضٍ في بطنِ الأرضِ كانَ أو على ظهرِها، وكذلِكَ تقولُ العربُ للشَّيءِ المجتَمِعِ مُكتَنِزًا لانضمامِ بعضِه إِلى بعضٍ.
          واختلفَ السَّلَفُ في معنى الكنْزِ فقالَ بعضُهم: هو كلُّ مالٍ وجبتْ فيهِ الزَّكَاةُ فلمْ تؤدَّ زكاتُهُ، وقالوا: معنى قولِه تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة:34] لا يؤدُّونَ زكاتَها، وهذا قولُ الفاروقِ وابنِه وابنِ عبَّاسٍ وعُبيدِ بنِ عُميرٍ وجماعةٍ، وقال آخرون: الكنزُ ما زاد على أربعةِ آلافِ درهمٍ فهو كنزٌ وإن أُدِّيَتْ زكاتُه، وسلفَ عن عليٍّ.
          وقال آخَرون: الكنزُ ما فضَلَ عن حاجةِ صاحبِه إِلَيهِ، وهذا مذهبُ أبي ذرٍّ، رُوِيَ أنَّ نَعْلَ سيفِ أبي هُريرةَ كان مِنْ فضَّةٍ فنهاه عنه أبو ذرٍّ وقال: إِنَّ رسول الله صلعم قال: ((مَنْ تَرَكَ صفراءَ أو بيضاءَ كُويَ بِهَا)).
          واتَّفَقَ أئمَّةُ الفقهاءِ على قولِ الفاروقِ ومَنْ تَبِعَهُ، واحتُجَّ له بنحْوِ ما نزع له البُخاريُّ فقال: الدَّليلُ أَنَّ كلَّ ما أُدِّيَتْ زكاتُهُ فليسَ بكنزٍ إيجابُ اللهِ على لسانِ رسولِه صلعم في كلِّ خمسِ أواقٍ رُبعَ عُشرِها، فإذا كان ذلك فَرْضَ اللهِ على لسانِ رسولِه صلعم فمعلومٌ أَنَّ الكنزَ مِن المالِ _وإنْ بَلَغَ الوفاءَ_ إذا أُدِّيَتْ زكاتُه فليسَ بكنزٍ ولا يحْرُمُ على صاحبِه اكتنازُه؛ لأنَّه لم يتوعَّد اللهُ تعالى عليه بالعقابِ وإِنَّمَا تَوَعَّدَ على كلِّ ما لم تُؤدَّ زكاتُه، وليس في القرآن بيانُ كم ذلكَ القدرُ مِن الذَّهَبِ والفضَّةِ إذا جُمِعَ بعضُه إلى بعضٍ استحقَّ جامعُه الوعيدَ، فكانَ معلومًا أنَّ بيانَ ذلك إنَّمَا يؤخَذُ مِن وقْفِ رسولِ الله صلعم وهو ما بيَنَّاه أَنَّهُ المالُ الَّذي لم يؤدَّ حقُّ الله تعالى منهُ مِن الزَّكَاةِ دونَ غيرِهِ مِن المالِ.
          وَإِنَّمَا كتبَ معاويةُ إلى عثمانَ يشكو أبا ذرٍّ لأَنَّهُ كان كثيرَ الاعتراضِ عليه والمنازَعةِ له فوقَعَ في جيشِه تشتيتٌ مِن مَيْلِ بعضِهم إلى قولِ أبي ذرٍّ، فلذلك أقدمَهُ عثمانُ إلى المدينةِ إذْ خشِيَ الفتنةَ في الشَّامِ ببقائِهِ لأنَّهُ كان رجُلًا شديدًا لا يخافُ في اللهِ لومةِ لائمٍ، وكان هذا توقيرًا مِن معاويةَ لأبي ذرٍّ، كتب إلى عثمانَ لا عَلَى أنْ يستجْلِيَهُ، وصانهُ معاويةُ مِن أن يُخرِجَهُ فيكونَ عليه وصمةً.
          وذكر الطَّبريُّ أَنَّهُ حين كثُرَ النَّاسُ عليه بالمدينةِ يسألونَه عن سببِ خروجِه مِن الشَّامِ خَشِيَ عثمانُ مِن التَّشتيتِ بالمدينةِ ما خَشِيَهُ معاويةُ بِهِ بالشَّام، فقال له: تنحَّ قريبًا، قال لهُ: إِنِّي واللهِ لن أَدَعَ ما كنتُ أقولهُ.
          ففيه مِنَ الفقه أَنَّهُ جائزٌ للإنسانِ الأخْذُ بالشِّدَّةِ في الأمرِ بالمعروفِ وإنْ أدَّى ذلكَ إلى فِراقِ وطَنِه. وفيه أَنَّهُ جائزٌ للإمامِ أن يُخرِج مَن توقَّعَ ببقائه فتنةً بين النَّاس. وفيه تركُ الخروجِ على الأئمَّةِ والانقيادُ لهم وإن كان الصَّوَابُ في خلافِهم.
          وفيه جوازُ الاختلافِ والاجتهادِ في الآراء، ألا ترَى أَنَّ عثمانَ ومَن كان بحضرتِه مِن الصَّحَابَة لم يَرُدَّ أبا ذرٍّ عن مذهبِه ولا قالوا إِنَّهُ لا يجوز لكَ اعتقادُ قولِك؛ لأَنَّ أبا ذرٍّ نزعَ بحديثِ رسولِ الله صلعم واستشهدَ به، وذلك قولُه صلعم: (مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ) وكذلك حين أنكر على أبي هُريرة نَعْلَ سيفِه استشهدَ على ذلكَ بقولِه صلعم: ((مَنْ تَرَكَ صفراءَ أَوْ بَيْضَاءَ كُوِيَ بِهَا)) وهذا حجَّةٌ في أنَّ الاختلافَ في العلم باقٍ إلى يومِ القيامة لا يرتَفِعُ إِلَّا بالإجماعِ.
          وقد رَوَى ابنُ أبي شيبةَ مِن حديثِ الأحنَفِ بنِ قيسٍ قال: كنتُ جالسًا في مسجدِ المدينةِ فأقبَلَ رجلٌ لا تراه حَلْقَةٌ إلَّا فرُّوا منهُ، حَتَّى انتهى إلى الحَلْقةِ الَّتي كنتُ فيها فثبتُّ وفرُّوا، فقلتُ: عَلى ما يَفِرُّ النَّاسُ منكَ؟ قال: إِنِّي أنهاهُم عن الكنوزِ، قلتُ: إِنَّ أُعْطِياتِنا قد ارتفعتْ وكَثُرَتْ فتخافُ علينا منها؟ قال: أمَّا اليومَ فلا، ولكنَّها توشكُ أن تكونَ أثمانَ دِينِكُم فَدَعُوهُم وإيَّاها.
          والرَّبَذَةُ على ثلاثِ مراحلَ مِن المدينةِ، حِمَى عُمَرَ كما ستعلَمُه، والرَّبَذَة أيضًا موضِعٌ بين بغداد ومكَّة، قالهُ الرُّشَاطيُّ.
          وأمَّا حديثُ أبي سعيدٍ فلْنُقَدِّم الكلامَ فيه هنا استباقًا للخيرات _وإِنْ قلنا فيما مضى إِنَّهُ يأتي_ فنقولُ: الأَواقِ جمْعُ أُوقيَّةٍ وهي ما كان يُوزن بها الفضَّةُ وزِنَتُها أربعونَ درهمًا، ومَن ادَّعَى أَنَّهَا لم تكن معلومةً إلى أيَّامِ عبدِ الملِكِ فهو غَلَطٌ، فكيفَ يوجِبُ الشَّارعُ الزَّكَاةَ في أعدادٍ منها وتقع بها البياعات والأنكحةُ؟ وجمْعُها أواقِي بتشديدِ الياءِ وتخفيفِها، وقال ابنُ التِّينِ: بدونِ الياء مع التَّخفيفِ كما يُقالُ: أُضحيَّةٌ وأَضاحٍ، ورواهُ البُخاريُّ في باب ليس فيما دونَ خمسِ ذَوْدٍ صدقةٌ بلفظ: ((وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الوَرِقِ صَدَقَةٌ)) [خ¦1459].
          والورق _بفتْحِ الواوِ وكسْرِها مع إسكانِ الرَّاءِ، وفتْحِ الواوِ وكسْرِ الرَّاء_ الدَّراهمُ، وربَّما سُمِّيتْ ورقةً، والرِّقَةُ الفضَّةُ والمالُ عن ابنِ الأعرابيِّ، وقيل: الفِضَّةُ والذَّهبُ عن ثعلبٍ، حكاه ابن سِيدَهْ، فإنكارُ النَّوويِّ على صاحبِ «البيانِ» في قولِه: الرِّقَةُ الذَّهَبُ والفِضَّةُ ليسَ بجيدٍ.
          وفي «الذَّخيرةِ» للقَرَافيِّ أنَّ الدِّرهمَ المصريَّ أربعةٌ وستُّون حبَّةً وهو أكثرُ مِن درهمِ الزَّكاةِ، فإذا أُسقطت الزَّائدةُ كان النِّصابُ مِن دراهم مصرَ مئةً وثمانين درهمًا وحبَّتين، وفي «فتاوى الفضيل»: يعتبر دراهمُ كلِّ بلدٍ ودنانيرُهم، قلتُ: وكلُّ عشرةِ دراهمَ سبعةُ مثاقيلَ هذا هو المستقَرُّ عليه، ولا شيء في المغشوش عندَنا حَتَّى يبلغَ خالِصُه نصابًا، وعند أبي حَنيفة: إِذَا كان الغالبُ الغِشَّ فهي كالعُروضِ فالقيمة.
          وفيما زاد على النِّصَابِ بحسابِه وِفاقًا للشَّافعيِّ وأحمدَ ومالكٍ والصَّاحبينِ وجماعاتٍ، وقال أبو حنيفةَ: لا شيء في الزِّيادةِ / حَتَّى تبلغَ أربعين فربْعُ العُشْرِ وهو درهمٌ، وهو قولُ الأَوزاعيِّ وجماعاتٍ، وسيأتي الكلامُ واضحًا عليه في بابِه.
          وقولُه: (وَلَا فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ) المشهورُ إضافةُ (خَمْسِ) إلى (ذَوْدٍ) ورُوي تنوينُ (خَمْسٍ) وتكونُ (ذَوْدٍ) بدلًا منها، والمعروفُ الأوَّلُ، والذَّودُ مِن الثَّلاثةِ إلى العشرةِ مِن الإبلِ لا واحدَ له مِن لفظِه على الأصحِّ والواحدُ بَعيرٌ، وقال أبو عبيدٍ: هو ما بين ثلاثٍ إلى تسعٍ، قال: وهو مختصٌّ بالإناثِ، وقال شَمِرٌ فيما حكاه ابنُ الجوزيِّ في «غريبِه»: ما بين ثنتين إلى التِّسع، وقدَّمَهُ ابنُ الأَثير على الثَّلاثِ إلى العشرِ، قال: والحديثُ عامٌّ في الذُّكورِ والإناثِ، وقيل: مِن ثلاثٍ إلى خمسَ عشرةَ وقيل: إلى عشرين، حكاهما ابن سِيدَهْ، وأنكر ابنُ قُتيبة أَنَّهُ لا يُقال: خمسُ ذَودٍ كما لا يُقال: خمسُ ثوبٍ، وغلَّطُوه فيه وليس جمعًا لمفردٍ، ورُوي: ((خمسة ذودٍ)) في «صحيح مسلمٍ» وهو صحيحٌ لانطلاقِه على المذكَّرِ والمؤنَّثِ.
          و(دُونَ) معناه أقلُّ وأبعَدَ مَن قال: إِنَّهَا بمعنى غير.
          والأوسُق: جمع وسْقٍ بفتْحِ الواوِ وكسرِها، أشهرُهما الفتحُ ولم يذكر الجوهريُّ سوى الفتح، قال شَمِرٌ: كلُّ شيءٍ وَسَقْتَه إذا حملتَهُ، وقال غيرُه: الضَّمُّ، وهو ستُّون صاعًا، والصَّاعُ أربعةُ أمدادٍ، والمُدُّ رِطلٌ وثلثٌ بالبغداديِّ، وهو مئةٌ وثلاثون على ما صحَّحَهُ الرَّافعيُّ، وذكر ابن المُنْذِر أَنَّ علماءَ الأمصارِ زعموا أَنَّ الزَّكَاةَ ليست واجبةً فيما دونَ خمسةِ أوسُقٍ إِلَّا أبا حنيفة وحدَه قال: تجبُ في كلِّ ما أخرجتْه الأرضُ مِنْ قليلٍ أو كثيٍر إِلَّا الحطبَ والقَضْبَ والحشيشَ والشَّجرَ الَّذي ليسَ له ثمرٌ.
          والحديثُ دالٌّ على عدمِ وجوبِ الزَّكَاةِ فيما كان دونَ هذا المقدارِ ووجوبِها في هذا المقدار فما فوقَهُ، والمرادُ بالصَّدقةِ الزَّكَاةُ، وقد سمَّى اللهُ تعالى الزَّكَاةَ صدقةً فقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103] وقام الإجماعُ على أنَّ ما دونَ خمسِ ذَودٍ مِن الإبلِ لا صدقة فيها كما ستعلمُهُ في بابِه.
          و(الْأَحْنَفِ) لقبٌ واسمُه فيما ذكره المَرْزُبَانيُّ صخرٌ، قال: وهو الثَّبت، ويُقال الضَّحَّاكُ، ويُقال الحارثُ بن قيس بن معاويةَ، ووقعَ لابنِ دِحْيةَ في «مستوفاه» أَنَّ اسمَهُ قيسٌ وإِنَّمَا قيسٌ والدُهُ، كان أحنَفَ برِجلَيْهِ جميعًا، قالهُ الجاحظُ في «العُرْجان» والهيثمُ وغيرُه في «العُوران» قال الجاحظ: ولم يكن له إلَّا بيضةٌ واحدةٌ، قال: وقال أبو الحسنِ: وُلِدَ مُرْتَتِقَ حِتَارِ الاسْتِ حَتَّى شُقَّ وعُولِجَ، وقال أبو يوسف في «لطائف المعارف»: كان أصلعَ متراكبَ الأسنانِ مائلَ الذَّقَنِ، وقال المنتجالي في «تاريخه»: كان دميمًا قصيرًا كَوْسَجًا.
          وقولُه فيه: (مَلَأٍ مِنْ قُرَيْشٍ) يعني الأشرافَ منهم.
          و(حَسَنُ الشَّعَرِ) بالحاء المهملَةِ، ورُوي بالخاءِ المعجمَة مِنَ الخشونةِ، وهو اللَّائقُ بزِيِّ أبي ذرٍّ وطريقتِه وتواضعِه، ولمسلمٍ: ((أخشَنَ الثِّيَابِ أخشَنَ الجسَدِ أخشَنَ الوجْهِ)) بخاءٍ وشينٍ معجمتين وهي روايةُ الأكثرين، ولابنِ الحذَّاء في الآخِر خاصَّةً بالحاءِ المهمَلَة مِن الحُسْنِ، ولا شكَّ أنَّ مَنْ تأهَّبَ للمَقام بين يدي الرَّبِّ فليُحَسِّنْ حالَه مِن غيرِ إسرافٍ.
          وقولهُ: (بَشِّرِ الكَانِزِينَ بِرَضْفٍ) أي اجعَلْ لهم _يعني الجمَّاعين_ مكانَ البِشارَةِ، والرَّضْفُ بالضَّاد المعجَمَةِ، وهي الحجارةُ المحمَّاةُ بالنَّارِ، قالَ الهرويُّ: وفي حديثِ أبي ذرٍّ: ((بشِّر الكنَّازين برضفةٍ مِنَ النَّاغِضِ)) أي بحَجَرٍ يُحمَى فيوضَعُ على ناغِضِه، وفي الأصل هنا: (الكَانِزِينَ) وللطَّبَريِّ وغيرِه بالثَّاء المثلَّثةِ وراءٍ مهمَلَةٍ مِن الكثرةِ، والمعروفُ خلافُه، والصَّحيحُ _كما قال القاضي_ أَنَّ إنكارَ أبي ذرٍّ كان على السَّلاطينِ الَّذينَ يأخذونَ المالَ مِن بيتِه لأنفُسهم ولا ينفقونَه في وجهِه، وأبطلَهُ النَّوويُّ بأنَّ السَّلاطينَ في زمَنِه لم تكن هذِه صفتَهم.
          والحَلَمَةُ ما نَشَزَ مِن الثَّدي وطالَ، ويُقال لها قُرَادُ الصَّدرِ، وفيه استعمالُ الثَّدْيِ للرَّجُلِ وإن كان الفصيحُ خلافَهُ، وأَنَّهُ لا يُقالُ ثديٌ إلَّا للمرأةِ، ويُقالُ للرَّجُلِ ثَنْدُوَةٌ.
          والنُّغْضُ بضمِّ النُّونِ وحكى ابنُ التِّينِ عن عبد الملِكِ فَتْحَها ثُمَّ غينٍ معجَمةٍ، الغُرضوفُ مِنَ الكَتِفِ، وقال الخطَّابيُّ: الشَّاخِصُ منه، سُمِّيَ به لأَنَّهُ يتحرَّكُ مِن الإنسانِ في مَشيِهِ، ومنه {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} [الإسراء:51].
          وقولُه: (يَتَزَلْزَلُ) أي يتحرَّكُ، قال عِياضٌ: والصَّوابُ أَنَّ الحركةَ والتَّزَلْزُلَ إِنَّمَا هو للرَّضْفِ أي يتحرَّك مِن نُغْضِ كتِفِه حَتَّى يَخرُجَ مِن حَلَمةِ ثديِه، ووقعَ في بعضِ النُّسَخِ: <حَتَّى يخرُجَ مِنْ حَلَمةِ ثَدْيَيْهِ> بإفرادِ الثَّدي في الأوَّلِ وتثنيتِهِ في الثَّاني.
          والدَّنانيرُ الثَّلاثةُ المؤخَّرةُ في الحديثِ واحدٌ لأهلِه وآخَرُ لعِتْقِ رقبةٍ وآخَرُ لدَينٍ، ذكرَه القُرْطُبيُّ.
          وفي قولِه: (بَشِّرِ الكَانِزِينَ) بكذا وجوبُ مبادرةِ إخراجِ الزَّكَاةِ عندَ حولِها والتَّحذيرُ مِن تأخيرِها.
          وقولُه: (ما أُرَى القَوْمَ إِلَّا قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ) إِنَمَّا أرادَ أن يستخرجَ ما عندَه.
          وقولُه: (قَالَ خَلِيلِي) لا تَنافيَ بينَه وبينَ قولِه: ((لو كنتُ متَّخِذًا خليلًا لاتَّخَذتُ أبا بكرٍ خليلًا)) كما في قولِ أبي هُريرة وغيرِه: سمعتُ خليلي، وقولِه: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125] أي إِنَّهُ خليلُ الله فقط فاعلمْهُ.
          وقولُه: (يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟) فيه تَكْنِيَةُ الشَّارعِ لأصحابِه، والذَّرُّ جمع ذَرَّةٍ وهي النَّملةُ الصَّغيرةُ، ذُكر أنَّ أبا ذرِّ لَمَّا أتى النَّبيَّ صلعم فأسلم ثُمَّ انصرفَ إلى قومِه فأتاه بعد مدَّةٍ فتوهَّم اسمَه فقال: ((أنتَ أَبو نَمْلَةَ)) قال أبو ذَرٍّ: يا رسولَ الله بل أبو ذرٍّ. واسمُه جُنْدُب بن جُنَادَةَ.
          وقولُه: (أَتُبْصِرُ أُحُدًا؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ) إِنَّمَا نَظَرَ لها لأنَّهَا تعلُوهُ عندَ الغُروبِ، وهو مَثَلٌ لتعجيلِ الزَّكَاةِ، يقول: ما أُحِبُّ أنْ أحبِسَ ما أوجبَهُ الله بقدْرِ ما بقِيَ مِن النَّهَارِ.
          وقولُه: (وَأَنَا أُرَى أَنَّ / رَسُولَ اللهِ صلعم يُرْسِلُنِي) (أُرَى) بضمِّ الهمزةِ وفتح الرَّاءِ أي أظنُّ، وفيهِ أَنَّهُ كان يرسِلُ فاضِلَ أصحابِه، يفضِّلُهُم بذلكَ لأَنَّهُ يصيرُ رسولَ رسولِ الله صلعم، وقيل في قولِه: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس:14] إِنَّهُمْ رُسلُ بعضِ رسلِ الله.
          وقولُه: (مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أَحُدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلَّهُ إِلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ) في بعضِ الرِّوَايات: ((أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ الله)) يقولُ: ما أحبُّ أن يكونَ لي وأنفقُ منه ثلاثةَ دنانيرَ بعدَ أن أنفِقَهُ، وفي أُخرى: ((تَمُرُّ عليَّ ثلاثٌ وعندِي منهُ شيءٌ إلَّا شيئًا أُرصِدُهُ لِدَيْنٍ)).
          وقولُ أبي ذرٍّ: (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُوْن) أي لم يعتبروا زوالَ الدُّنيا فيزهدُوا.
          وقولُه: (لَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا) يقولُ: ما لي لا أَعِظُهم وأنصَحُ لهم ولستُ أسألُهم دنيا فأخافَ مَنْعَهم.
          وقولُه: (وَلَا أَسْتَفْتَيْهِمْ عَنْ دِينٍ) يعني القومَ الَّذين قامَ عنهم لأَنَّهُم لم ينظرُوا لأنفُسِهم فيتركوا الدُّنيا فكيف يستفتيهِم غيرُهم ويهتدِي بهم في دِينِهم؟
          فائدةٌ: قال سُحْنُون: تَرْكُ الدُّنيا زهدًا أفضلُ مِن كسْبِها مِن الحلال وإنفاقِها في السَّبيل، قال بعضُهم: وهذا الحديثُ يشهدُ له.
          فَرْعٌ: لا يُضمُّ الذَّهبُ إلى الفضَّةِ عندَنا، وخالفَ أبو حنيفةَ ومالِكٌ فيهِ لِقولِه تعالى: {وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ} [التوبة:34] ولم يخصَّ كما لو كان معه مئةُ درهمٍ وعَرْضٌ يُساوِي مئةً، أَمَّا إِذَا كان مُدِيرًا قال مالكٌ: فيعدلُ المثقالُ بعشرةِ دراهم، فإذا كانت معهُ مئةُ درهمٍ وعشرةُ دنانيرَ ضُمَّا، وإن كانتْ تسعةُ دنانيرَ تساوِي مئةً فلا، واعتبَرَ أبو حنيفةَ القيمةَ كمن له مئةُ درهمٍ وخمسةُ دنانيرَ تساوي مئةً ضُمَّا.