التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة

          ░41▒ بَابٌ: لَا تُؤْخَذُ كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ في الصَّدَقَةِ.
          1458- ذَكَرَ فيه حديثَ ابنِ عبَّاسٍ السَّالفَ في أوَّلِ الزَّكَاةِ [خ¦1395] وزادَ في آخِرِه: (فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ) وقد سَلَفَ شرْحُهُ.
          وقولُه: (فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللهِ) هو الإقرارُ باللهِ وبرسالةِ محمَّدٍ صلعم. ولم يذكُرْ فيهِ الصَّومَ وقد سَلَفَ جوابُه هناكَ، ولا الجهادَ لأَنَّهُ لم يكنْ يومئذٍ فُرِضَ إِلَّا على مَن يلي الكفَّارَ، قالهُ ابنُ التِّين.
          والكَرَائِمُ جمْعُ كريمةٍ، يُقالُ شاةٌ كريمةٌ أي غزيرةُ اللَّبَنِ، ويدخُلُ فيه الرُّبَّى _وهي الحديثةُ العَهْدِ بالنِّتاجِ_ والمسمَّنةُ للأكْلِ والحاملُ والجيادُ، اللهمَّ إِلَّا إذا رَضِيَ المالكُ.
          ورَوَى أحمدُ وأبو داودَ مِن حديثِ أُبيِّ بن كعبٍ أَنَّهُ لما بعثهُ رَسُول الله صلعم مُصَدِّقًا مرَّ برَجُلٍ فجمعَ لهُ مالَه فلمْ يجِدْ عليه فيه إِلَّا ابنةَ مخاضٍ، فقال الرَّجُلُ: ذاك ما لا لَبَنَ فيه ولا ظَهر، ولكنْ هذِه ناقةٌ فَتِيَّةٌ سمينةٌ فخُذْها، فَأَبَى أُبيُّ بنُ كعبٍ، وترافعَا إلَى رسُولِ الله صلعم، فقال رسولُ الله صلعم: ((ذاك الَّذِي عليكَ فإنْ تطوَّعْتَ بخيرٍ آجَرَكَ اللهُ فيه وقبلْناهُ منكَ)) فأمرَ رسولُ الله صلعم بقبْضِها ودَعا لهُ في مالِه بالبركةِ. حديثٌ صحيحٌ وقد صحَّحَهُ ابنُ حِبَّانَ والحاكمُ، ووَهِمَ ابنُ حزمٍ حيثُ أعلَّهُ بجهالةِ مَن بانَ توثيقُهُ. وهو دالٌّ على الجوازِ في باقي الصُّوَرِ.
          وأبعدَ بعضُ أصحابِنا فقال: الرُّبَّى لا تؤخَذُ لأَنَّهَا لِقُرْبِ عهدِها بالولادةِ مهزولةٌ وهو عيبٌ، وهو ساقطٌ فقد لا تكونُ كذلكَ وقد تكونُ غيرُ الرُّبَّى مهزولةً، والهُزَالُ الَّذِي هو عيبٌ هو الظَّاهِرُ البيِّنُ، وأَبْعدُ منهُ عدمُ القَبولِ عند التَّبرُّعِ للنَّهي عن أخْذِها، وهو عجيبٌ فإنَّ النَّهيَ للإجحافِ بالمالِكِ فقط، ومَنَعَ داودُ أخْذَ الحاملِ لأَنَّهُ عيبٌ، وهو عجيبٌ، لأَنَّهُ ليس عيبًا في البهائمِ.
          فَرْعٌ: لو كانت ماشيتُهُ سمينةً كلُّها طالبْنَاهُ بسمينةٍ ونجعلُ ذَلِكَ كَشَرَفِ النَّوْعِ بخلافِ ما إذا كانت كلُّهَا ماخضةً لأَنَّ الحامل قد تتخيَّلُ حيوانين.
          وقد احتجَّ الشَّافِعِيُّ لِمَذهبِه في أَنَّ السِّخَال يُؤخذ منها ما يُؤخذُ في الكبارِ بهذا الحديثِ، فإذا لم يملِكْ كريمَ مالٍ فلا يكلَّفُ شراءَه، قالَ ابنُ القصَّار: فيُقال له: وكذلك أيضًا نُهِيَ عن أَخْذِ الدُّونِ وكُلِّفَ الوسطَ، وليس إذا كُلِّفَ الوسطَ كُلِّف كريمَ مالِهِ، أَلَا ترى أنَّا نُرَفِّهُ ربَّ المالِ إذا كانت غَنَمُه كِرامًا كلُّها رُبًّى ومواخضَ ولوابنَ وشاةَ اللَّحمِ والفحلَ لئلَّا نأخُذَ منها، فكذلكَ نُرَفِّهُ الفُقَرَاءَ لِئلَّا نأخذَ الصَّغيرة ونأخُذُ السِّنَّ المجعولَ، وهذا هو العدل بينهم وبين أربابِ المواشي كما قال عمرُ ☺.
          قلتُ: مِثْلُ هذا لا يُقال لمِثْلِ هذا الإمامِ الجَبَلِ، فإذا كانتْ كلُّها صغارًا فلا دُونَ فيها حتَّى نُلزِمَ به هذا الإمامَ، وقولُهُ: وليسَ إذا كُلِّفَ الوسطَ كُلِّفَ كريمَ مالِه؛ عجيبٌ، فإِنَّهُ تكليفٌ بما لا يجبُ عليه ولا مَلَّكَهُ اللهُ، وقولُه: أَلَا ترى أنَّا نُرَفِّهُ ربَّ المالِ إذا كانت غنمُه كلُّهَا كراما لئلَّا نأخُذَ منها؛ ممنوعٌ، فإنَّا نأخُذُ منها واحدةً كما أسلفْنَاهُ، وجعلْنَاهُ لِشَرَف النَّوع.