التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب خرص التمر

          ░54▒ بَابُ: خَرْصِ التَّمْرِ.
          1481- 1482- ذَكَرَ فيه حديثَ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبَّاسٍ السَّاعديِّ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قال: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم غَزْوَةَ تَبُوكَ، فَلَمَّا جَاءَ وَادِيَ الْقُرَى، إِذَا امْرَأَةٌ فِي حَدِيقَةٍ لَهَا، فَقال: (اخْرُصُوا) وَخَرَصَ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ، فَقال لَهَا: (أَحْصِي مَا يَخْرُجُ مِنْهَا) الحديث وَفِي آخِرِهِ: فَلَمَّا رَأَى أُحُدًا قَالَ: (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأَنْصَارِ؟) قَالُوا: بَلَى. فَذَكَرَهُ.
          وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ: حَدَّثَنِي عَمْرٌو: (ثُمَّ دَارُ بَنِي الْحَارِثِ، ثُمَّ بَنِي سَاعِدَةَ) وَقَالَ سُلَيْمَانُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَارَةُ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم: (أُحُدٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ: كُلُّ بُسْتَانٍ عَلَيْهِ حَائِطٌ فَهُوَ حَدِيقَةٌ، وَمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَائِطٌ لَمْ يُقَلْ: حَدِيقَةٌ.
          الشَّرح: الكلام عليه مِنْ أوجهٍ _قال البزَّارُ: ولا نعلمه يُروَى بهذا اللَّفظِ إلَّا عن أبي حُميدٍ وحدَهُ_
          أحدُها: غزوةُ تَبوك تُسمَّى العُسرةَ والفاضحةَ، وهي مِن المدينةِ على أربعَ عشرةَ مرحلة، وبينها وبين دمشق إحدى عشرةَ مرحلة، في رجبٍ يومَ الخميس سنةَ تسعٍ، قال الدَّاوديُّ: وهي آخرُ غزواتِه ولم يَعذُر أحدًا تخلَّفَ عنها، وكانت في شِدَّةِ الحَرِّ وإقبالِ الثِّمَارِ، ولم يكن فيها قتالٌ.
          قال ابن التِّين: لعلَّهُ يريدُ آخِرَ غزواتِه بنفْسِه، وإِلَّا فقد ذَكَرَ الشَّيخُ أبو محمَّد أَنَّهَا في سنةِ تسعٍ، خَرَجَ إليها في أوَّلِ يومٍ مِن رجب، واستخلف عليًّا على المدينة، ومَكَرَتْ في هذِهِ الغزوةِ برسولِ الله صلعم طائفةٌ مِنَ المنافقين أرادوا أن يُلقُوهُ مِن العَقَبةِ فنزل فيهم ما في براءة، ورجَع في سلخِ شوَّالٍ منها، قُلْتُ: وَقِيلَ في رمضان.
          قال: وبَعَث عليًّا في سنةِ عشرٍ إلى اليمنِ وبعثَ فيها أسامةَ بنَ زيدٍ إلى الدَّارومِ مِنْ أرْضِ مصرَ فَغَنِمَ وسَلِم، وَبَعَثَ أيضًا في سنةِ عشْرٍ عُيينةَ بن حِصنٍ إلى بني العَنْبرِ يدعوهم فلم يجيبوا فقَتل منهم وسَبَى، وبعثَ جريرًا إلى ذي الكَلَاع سنةَ إحدى عشرةَ يدعوه إلى الإسلامِ فأسلم.
          ولم تكن غزوةٌ إلَّا ورَّى النَّبِيُّ صلعم بغيرِها إِلَّا تَبوكَ، وقال ابن سِيدَهْ: تَبوكُ اسمُ أرضٍ، وقد تكونُ تَبُوكُ تَفْعُلُ. وزعم ابنُ قتيبةَ أَنَّ رسولَ الله صلعم جاءَ في غزوةِ تبوك وهُم يبُوكُونَ حِسْيَها بقِدْحٍ، فقالَ: ((ما زلتُمْ تبُوكُونها بعدُ)) فُسمِّيتْ تبوك، ومعنى تبوكونَ تُدخِلُونَ فيه السَّهمَ وتحرِّكُونه ليخرجَ ماؤهُ.
          ثانيها: (وَادِيَ القُرَى) ذَكَرَ السَّمْعانيُّ أَنَّهَا مدينةٌ قديمةٌ بالحجازِ ممَّا يلي الشَّام، وذَكَرَ صاحبُ «المطالع» أَنَّهَا مِن أعمالِ المدينة.
          ثالثُها: الحديقةُ الأرضُ ذاتُ الشَّجَرِ قالهُ ابنُ فارسٍ، وقال الهَرَويُّ: إِنَّهَا كلُّ ما أحاط به البناءُ، وكذلك قال البُخاريُّ وغيرُهما، وقال ابنُ سِيدَهْ: هي مِنَ الرِّيَاضِ كلُّ أرضٍ استدارتْ، وقيل: كلُّ أرضٍ ذاتُ شجرٍ مثمِرٍ ونخْلٍ، وقيل: البستانُ والحائطُ، وخصَّ بعضُهم به الجَنَّةَ مِن النَّخْلِ والعِنَبِ، وقيل: حُفرةٌ تكون في الوادي تَحبِسُ الماءَ فيه، وإن لم يكن الماءُ في بطنِه فهو حديقةٌ، والحديقةُ أعمقُ مِن الغديرِ، والحديقةُ القطعةُ مِن الزَّرْعِ، وكلُّهُ في معنى الاستدارةِ، وفي «الغريبين»: يُقالُ للقطعةِ مِن النَّخلِ حديقة.
          رابعُها: الخَرْصُ الحَزْرُ لِمَا على النَّخلِ تمرًا، يُقال: خرصتُ تمرَ النَّخل خَرْصًا، وكمْ خرْصُ أرضكِ؟ بالكسْرِ والفتحِ، كما قاله المازِنيُّ. قال ابن سِيدَهْ: وهو بالفتحِ المصدرُ وبالكسرِ الاسمُ، والخَرَّاصُ الحَزَّار، خَرَصَ العددَ يَخْرصُه _بِكسْرِ الرَّاءِ وضمِّها_ خرْصًا _بفتْحِ الخاءِ وكسرِها_ حَزَرَهُ.
          خامسُها: كيفيَّةُ الخرْصِ أنْ يطوفَ النَّخِيلَ ويحزِرُ عناقيدَها رُطَبًا ثُمَّ تمرًا، ويتعيَّنُ إفرادُ كلِّ نخلَةٍ بالنَّظَرِ لِتَفاوُتِ الأرطابِ إن اتَّحد النَّوعُ، فإنِ اختلف جازَ أيضًا، وأنْ يطوفَ بالجميع ثُمَّ يخرصُ الجمِيعَ دُفعةً، وعبارةُ ابنِ الحاجبِ: ويَخْرِص نخلةً نخلةً ويُسقِطُ سَقَطَهُ.
          سادسُها: فيه / حُجَّةٌ على أبي حنيفةَ وصاحبَيْهِ في منْعِ الخَرْصِ، وأَنَّهُ يؤدِّي عُشرَ ما يحصُلُ بِيَدِهِ زادَ الخرْصُ أو نَقَصَ، إذْ فَعَلَهُ الشَّارعُ وأصحابُه فهو حُجَّةٌ للجمهور منهم أبو بكر وعمرُ والزُّهريُّ وعطاءٌ وأبو ثورٍ ومالكٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ.
          ورَوَى أبو داودَ والتِّرمِذيُّ والنَّسائيُّ مِن حديثِ سعيدِ بن المسيِّب عن عتَّاب بن أَسيد: ((أمر رسولُ الله صلعم أن يُخرصَ العنبُ كما يُخرصُ النَّخلُ، وتُؤخذَ زكاتُه زبيبًا كما تُؤخذُ صدقةُ النَّخل تمرًا)) حسَّنه التِّرمذيُّ وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّان، وقال أبو داود: لم يسمع سعيدٌ مِن عتَّابٍ.
          وهو حُجَّةٌ على إلحاقِ العِنَبِ بالنَّخْلِ، وهو حجَّةٌ على داودَ حيثُ قال: لا خرصَ إلَّا في النَّخيلِ فقطْ، وإِنَّمَا يُخرص إذا بدا صلاحُه، ولا يُخرَصُ الحبُّ لاستتارِه. وقولُ الشَّعبيِّ: الخرصُ بدعةٌ، والثَّوريِّ: خرصُ الثِّمَار لا يجوزُ، لا تَحِلُّ حكايتُهُ عندي.
          قال ابنُ قُدامة: وممَّن كان يرى الخرصَ سهلُ بن أبي حَثْمة ومروانُ والقاسمُ بن محمَّد والحسنُ وعمرو بن دينارٍ وعبدُ الكريم بن أبي المُخارق وأبو عُبَيد بن سلَّام وأكثرُ أهلِ العلم، وكذا عدَّد ابنُ المنذرُ جماعةً ثُمَّ قال: وعامَّةُ أهلِ العلمِ، قال: وخالفَ ذَلِكَ أبو حنيفةَ وأصحابُه.
          فرعٌ: المشهورُ عن الشَّافعيِّ إدخالُ جميعِه في الخَرْصِ، ولا يُتركُ للمالِك نخلةٌ أو نخلاتٌ يأكلُها أهلُها خلافًا لنصِّهِ في البُويْطِيِّ، وعند أحمدَ يلزمُ الخارصَ أن يتركَ الثُّلُثَ أو الرُّبعَ في الخرصِ توسِعَةً على أربابِ الأموالِ، وبه قال إسحاقُ واللَّيْثُ.
          وقال ابن حبيب: يخفِّف عن ربِّهِ ويوسِّعُ عليهِ، وهو خلافُ مشهورِ مذهبِ مالكٍ، وفيه حديثٌ جيِّد مِن طريقِ سهل بن أبي حَثْمة صحَّحَهُ ابنُ حِبَّان والحاكم. وقال الشَّافعيُّ في قولِه تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] يدلُّ على أَنَّهُ لا يحتسبُ بالمأكولِ قبْلَ الحصادِ، وحملَ الآيةَ على العمومِ أي آتُوا جميعَ حقِّ المأكولِ والباقي.
          فرعٌ: لو كانت هذِه الثَّمَرَةُ لا يَجيءُ منها تمرٌ ولا زبيبٌ فيخرِصُها على ما يكونُ فيها لو أَتْمَرَتْ، ذَكَرهُ ابن التِّين، ومَن يقولُ بالقيمةِ التَّخريصُ عندَه لأجْلِ النِّصَابِ، وأغرَبَ ابنُ العربيِّ فقال في «مسالكه»: لم يصحَّ حديثُ عتَّابٍ ولا حديثُ سهلٍ.
          فرع: يكفي خارصٌ واحدٌ على الأصحِّ عندنا وبه قال مالكٌ.
          سَابِعُهَا: اعتذَر مَن مَنَعَ مِنَ الخرص بأنَّ حديثَ البابِ أرادَ به معرفةَ مقدارِ ما في نخْلِها خاصَّةً، ثُمَّ يأخذُ منها الزَّكَاةَ وقتَ الصِّرَامِ على حسب ما يجب فيها، وأيضًا فقد خَرَصَ حديقتَها وأَمَرَ أن تُحصى وليس فيه أنَّه جعلَ زكاتَها في ذمَّتِهَا وأَمَرَها أن تتصرَّفَ في ثمرِها كيف شاءتْ، وَإِنَّمَا كان يفعلُ ذَلِكَ تخفيفًا لئلَّا يخونوا وأن يعرِفُوا مقدارَ ما في النَّخيل ليأخذُوا الزَّكَاةَ وقتَ الصِّرامِ. هذا معنى الخَرْص.
          قال الطَّحاويُّ: ولم يأتِ في هذِه الآثار أَنَّ الثَّمرةَ كانت رُطَبًا حينئذٍ، وقال ابنُ العربيِّ: لا يصحُّ في الخرصِ إلَّا حديثُ البابِ ويليه حديثُ ابنِ رَوَاحةَ في الخَرْصِ على اليهودِ، وهذِهِ المسألة عَسِرةٌ جدًّا لأَنَّهُ ثبتَ عنه خرصُ العنب، ولم يثبت عنه خرصُ الزَّبيبِ وكان موجودًا في حياتِه وكثيرًا في بلادِه، ولم يثبت عنه خرصُ النَّخل إلَّا على اليهود لأَنَّهم كانوا شركاء وكانوا غيرَ أمناء، وأمَّا المسلمون فلم يَخْرِص عليهم.
          قال الماوَرْديُّ: واحتَجَّ أبو حنيفةَ بما رواه جابرٌ مرفوعًا: ((نَهَى عن الخَرْصِ)) وبما رواهُ جابرُ بنُ سَمُرةَ: ((أنَّ رسولَ الله صلعم نَهَى عن بيْعِ كلِّ ذي ثَمَرَةٍ بخرْصٍ)) وبأَنَّهُ تخمينٌ وقد يُخطِئُ، ولو جوَّزْنا لجوَّزْنَا خَرْصَ الزَّرعِ وخَرْصَ الثِّمار بعدَ جَدَادِها وهي أقربُ إلى الأبصارِ مِن خَرْصِ ما على الأشجارِ، فلمَّا لم يَجُزْ في القريبِ لم يَجُزْ في البعيد.
          ولأنَّ تضمينَ ربِّ المال قدْرَ الصَّدَقَةِ وذلك غيرُ جائزٍ لأَنَّهُ بيعُ رُطَبٍ بتمْرٍ، والثَّاني بيعُ حاضرٍ بغائبٍ، وأيضًا فهو مِن المزابنةِ المنهيِّ عنها، وهو بيعُ الثَّمرَةِ على رؤوسِ النَّخْلِ بالتَّمرِ كيْلًا، وأيضًا فهو مِن بابِ بيعِ الرُّطَبِ بالتَّمْرِ نسيئةً فيدخلُهُ المنعُ مِن التَّفاضُلِ ومِن النَّسيئةِ، وقالوا: الخرصُ منسوخٌ بنسْخِ الرِّبا.
          واستدلَّ مَن رآهُ بحديثِ ابنِ عبَّاسٍ في بعْثِ النَّبِيِّ صلعم ابنَ رواحةَ إلى خيبرَ حين كان يُصرِمُ النَّخْلُ، فحَزَرَ النَّخلَ وهو الَّذِي يسمِّيه أهلُ المدينةِ الخرصَ، أخرجهُ أبو داود، وأخرجَ أيضًا مِن حديثِ عائشةَ مِثْلَه، قال الدَّارَقُطْنيُّ: ورُوِيَ مرسَلًا ومسنَدًا.
          وبحديثِ جابرٍ قال: ((أفاء الله تعالى خيبرَ على رسولِه، فبعثَ ابن رَوَاحةَ فخَرَصَها عليهم عشرينَ ألف وَسْقٍ)) أخرجه الدَّارَقُطْنيُّ كذلكَ وابنُ أبي شَيبةَ في «مصنَّفه» وقال: ((بأربعين ألفَ وَسْقٍ)).
          وبحديثِ البَيْهقيِّ عن الصَّلت بن زُيَيْدٍ عن أبيهِ عن جدِّهِ: أَنَّهُ صلعم استعمله على الخَرْصِ فقال: ((أثبت لنا النِّصفَ وأبْقِ لهم النِّصفَ، فإنَّهُم يسرقونَ ولا يصلُ إليهم)) الحديث، وفيه: قال محمَّد: فَحَدَّثْتُ بهذا الحديثِ عُبيد الله بن عمرَ فقال: قد ثبتَ عندنا أنَّ النَّبي صلعم قال: ((أَبْقِ لنا الثلُثين)) قال الحافظ أبو بكر: هذا إسنادٌ مجهولٌ.
          قال الماوَرْديُّ: فمِن خرَّاصي رسولِ الله صلعم حُوَيِّصَةُ ومُحَيِّصَةُ وبُردةُ بن عمرو وعمرُ بن الخطَّاب، ورُوي عن أبي بكر أَنَّهُ بعث ابنَهُ عبدَ الله خارصًا على أهلِ خيبرَ، قال: وليس لأبي بكرٍ وعمرَ في ذَلِكَ مخالفٌ فثبت أَنَّهُ إجماع. وقال ابن القصَّار: ما هرب عنه أبو حنيفةَ مِن تضمينِ أربابِ الأموالِ حقَّ الفقراءِ فإنَّ أصحابَ الشَّافعيِّ لا يُضمِّنُون أربابَ الأموالِ؛ لأنَّ الثَّمرةَ لو تَلِفَتْ بعدَ الخرص لم يُضَمِّنْهُمْ شيئًا.
          قال ابن المنذِر: أَجمع مَنْ يُحفَظُ عنه العلمُ أنَّ الخارصَ إذا خَرصَ الثَّمَرَ ثُمَّ أصابَهُ جائحةٌ أَلَّا شيءَ عليه إذا كان ذَلِكَ قبل الجَدَاد، ولأَنَّا نخرِصُها لِنُعَرِّفَهم لئلَّا يشقَّ عليهم ويَضْمَنُونَ حقَّ الفقراءِ فَرَفَقْنَا بالفريقين، ودعواهُم أَنَّهُ منسوخٌ بنسْخِ الرِّبا جوابُه أنَّ بعضَ آيةِ الرِّبا منسوخةٌ بالخَرْصِ ومخصوصةٌ كما خُصَّت الحَوالةُ مِن بيعِ الدَّينِ بالدَّينِ، والقرضُ مِن بيعِ الذَّهبِ والفِضَّة بمثلِهما / إلى أَجَلٍ، والإقالةُ والشَّرِكَةُ مِن بيْعِ الطَّعَامِ قبْلَ قبضِه، وكذلك العَرِيَّةُ والخرصُ ليس بربًا، وَإِنَّمَا هو ليُعرَفَ حقُّ المساكين.
          وقولهم: إنَّهُ ظنٌّ فالشَّريعةُ ورَدَتْ بالعمل بغلبةِ الظَّنِّ كثيرًا، ومحلُّ الجوابِ عن الشُّبَهِ كتب الخلافيَّات، وقد أشرنا إليها.
          ثامنُها: قولُهُ صلعم: (سَتَهُبُّ اللَّيْلَةَ رِيحٌ) هو بضمِّ الهاء مثل كَبَّ يكُبُّ، وهذا بابُ المضعَّفِ لأَنَّهُ مع عينِه إذا كان متعدِّيًا أن يكون مضمومًا إِلَّا حبَّهُ يحِبُّهُ خاصةً فإنَّهُ مكسورٌ، وأحرفٌ نادرةٌ جاء فيها الوجهان إذا كان لازمًا مثل عدَّ يعدُّ، وصلَّ يصلُّ.
          وفيه أنَّهُ صلعم كان يُخْبِرُ ببعْضِ ما يكونُ قبْلَ كونِه، وإِنَّمَا يقولُ عن الوحي وهو مِنْ أعلامِ نبوَّتِه.
          تاسعُها: قولُه: (وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ...) إلى آخرِه فيه قَبول هديَّة طاغيةِ الكفَّارِ، وسيأتي بسْطُ الكلامِ فيه في كتابِ الهِبةِ إن شاء الله. واسمُ مَلِكِ أَيْلَةَ يُوحنَّا بن رُؤبة. و(أَيْلَةَ) مدينةٌ على شاطِئِ البحرِ في منتصفِ ما بين مصر ومكَّة على وزْنِ فَعْلَة، هذا قولُ أبي عُبيدةَ، وقال محمَّد بن حبيب: أَيْلَة شُعبةٌ مِن رَضْوى وهو جبلُ يَنْبُع، وقال البكريُّ: الَّذي ذَكَرَ أبو عُبيدةَ صحيحٌ، وقال الأحولُ: سُمِّيت بأيلةَ بنت مَدْيَنَ بن إبراهيم صلعم، وقد رُوِيَ أنَّ أَيْلَةَ هي القريةُ الَّتي كانت حاضرةَ البحرِ.
          وقولُه: (وَكَسَاهُ بُرْدًا) يريدُ أنه صلعم كسا طاغيتَهم بُرْدًا.
          وقولُه: (وَكَتَبَ لَهُمْ بِبَحْرِهِمْ) وفي نسخةٍ: <بِبُحَيْرِهِمْ> أَمَّنَهُم يريدُ أهلَ البحر، وقال الخطَّابيُّ: بَحْرَتُهُم أرضُهم وبلدُهم.
          وقولُهُ: قَالَ لِلْمَرْأَةِ: (كَمْ جَاءَ حَدِيقَتُكِ؟) قَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ. فيه تصديقُ المرأةِ وأنَّها مؤمنة، ذَكَرَهُ الدَّاوديُّ، ويحتملُ _كما قال ابنُ التِّين_ أنْ يكونَ إِنَّمَا صدَّقها لِتَوافُقِ خَرْصِهِ.
          وقد اختُلِفَ إذا زاد أو نقصَ على ما خَرَصَهُ فثلاثةُ أقوالٍ عندَ المالكيَّةِ، قال ابن نافع: تؤدَّى الزِّيَادةُ خَرَصَهُ عالمٌ أو غيرُهُ ويُرَدُّ في النَّقصُ إلى ما ظهر، وهذا هو القياسُ لأنَّ الزَّكَاةَ في أَوْسُقٍ معلومةٍ، وخطأُ الخارِصِ لا يوجِبُ أن يكونَ حكمًا، وقيل: إنْ خَرَصَهُ عالمٌ فلا شيءَ عليه في الزِّيادة، وإنْ خرَصَه غيرُ عالمٍ زكَّى الزِّيادةَ، والَّذي في «المدوَّنَةِ» أنَّهُ إذا خَرَصَ عليه أربعةً فجَدَّ خمسةً أُحِبُّ أن يؤدِّيَ زكاتَها.
          وفيه تدريبُ الإمامِ أصحابَه وتعليمُهم أمورَ الدُّنيا كما يُعَلِّمُهم أمورَ الآخرةِ لأَنَّهُ قال لهم: (اخْرُصُوا).
          وقولُهُ: (إِنِّي مُتَعَجِّلٌ إِلَى المَدِينَةِ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَعَجَّلَ مَعِي فَلْيَتَعَجَّلْ) إِنَّمَا أَذِن لهم لِئَلَّا يستأثرَ دونَهم بذلك، وأذِنَ لِمَن شاءَ لأَنَّهُ لا يُمكِنُ لجميعِهم التَّعجيلُ.
          وقولُه: (هَذِهِ طَابَةُ) هو اسمٌ مِنْ أسمائها، ويُقال طَيْبَةُ ومعناهُ طيِّبةٌ، يُقال: طيبٌ وطَابٌ.
          وقولُهُ: (هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) لا مَنْعَ مِنْ حملِهِ على الحقيقةِ، ولا حاجةَ إلى إضمارٍ فيه أي أهلُهُ وهمُ الأنصارُ؛ فقد ثَبت أنَّ حِراء ارتجَّ تحتَهُ وكلَّمَهُ، وقال: ((اثبُتْ فليسَ عليك إلَّا نبيٌّ وصِدِّيقٌ وشهيدان)) وحنَّ الجذعُ اليابسُ إليهِ حتَّى نزل فضمَّهُ وقال: ((لو لم أضمَّهُ لحنَّ إلى يومِ القيامةِ)) وكلَّمَهُ الذئبُ وسجَدَ له البعيرُ وأقبَلَ إليه القُضْبانُ وسلَّمَ عليهِ الحَجَرُ وكلَّمَهُ اللَّحمُ المسمومُ أَنَّهُ مسمومٌ، فلا يُنكَرُ حُبُّ الجبلِ له، قال تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان:29] يعني المواضعَ التي كانوا يُصلُّون عليها وأبوابَ السَّمَاءِ الَّتي كان يصعَدُ منها عملُهم. وحُبُّ النَّبيِّ صلعم الجبلَ لأَنَّ به قبورَ الشُّهداءِ ولأَنَّهُم لجؤوا إليه يومَ أُحُدٍ فامتَنعُوا.
          وقولُهُ: (أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ دُورِ الأَنْصَارِ؟) يُروَى أنَّ سعدَ بن عُبادةَ لحِقَ برسولِ الله صلعم فقال: أجعلْتَنَا مِنْ آخِرِهم؟ قال: ((أَمَا ترضَى أن تكونَ مِنَ الأخيار)).
          وقولُهُ قبْلَ ذَلِكَ: (فَقَامَ رَجُلٌ فَأَلْقَتْهُ بِجَبَلِ طَيِّئٍ) وفي نسخةٍ: <بِجَبَلَيْ طَيِّئٍ> قال الكَلْبيُّ في كتابِه «أسماء البلدان»: هما أَجَا وسَلْمَى، وذلك أنَّ سَلْمَى بنتَ حام بن جُمَّى بن نزاوة من بني عمليقٍ كانت لها حاضنةٌ يُقال لها العوجاء، وكانت الرَّسُولَ بينها وبين أَجَا بن عبد الحيِّ مِن العماليق، فعشِقَها فهَرَبَ بِهَا وبحاضِنَتِها إلى موضعِ جبلَي طيِّئٍ وبالجبلينِ قومٌ مِن عادٍ، وكان لِسَلْمى إخوةٌ _وهي أوَّلُ مَن تسمَّى بسَلْمَى_ فجاؤوا في طَلَبِهَا فلَحِقُوهُم بموضعِ الجبلين، فأخذُوا سَلْمَى فنزعوا عيْنَها ووضعوها على الجبلِ، وكُتِّفَ أَجَا _وكانَ أوَّلَ مَنْ كُتِّفَ_ ووُضِعَ على الجبلِ الآخَرِ فسُمِّيَ بهما الجبلانِ أَجَا وسَلمى. قال ابنُ الكَلْبيِّ: وفي حديثٍ آخَرَ عن الشَّرقيِّ أنَّ زوجَ سَلمى هو الَّذي قتلَها، وقال البَكْريُّ: أَجَا بفتْحِ أوَّلِه وثانِيهِ على وزن فَعَلٍ يُهمزُ ولا يُهمز، ويُذكَّر ويُؤنَّث، وهو مقصورٌ في كلا الوجْهينِ مِنْ همزِهِ وتَرْكِ همزِهِ.