التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: في الركاز الخمس

          ░66▒ بَابٌ: فِي الرِّكَاز الخُمُسُ.
          وَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ إِدْرِيسَ: الرِّكَازُ دِفْنُ الجاهِلِيَّةِ، فِي قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ الخُمُسُ، وَلَيْسَ الْمَعْدِنُ بِرِكَازٍ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صلعم فِي الْمَعْدِنِ: (جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الخُمُسُ).
          وَأَخَذَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ مِنَ المَعَادِنِ مِنْ كُلِّ مِئَتَيْنِ خَمْسَةً.
          وَقَالَ الحَسَنُ: مَا كَانَ مِنْ رِكَازٍ فِي أَرْضِ الحَرْبِ فَفِيهِ الخُمُسُ، وَمَا كَانَ مِنْ أَرْضِ السِّلْمِ فَفِيهَ الزَّكَاةُ، وَإِنْ وَجَدْتَ اللُّقَطَةَ فِي أَرْضِ العَدُوِّ فَعَرِّفْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْعَدُوِّ فَفِيهَا الْخُمُسُ.
          وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: الْمَعْدِنُ رِكازٌ مِثْلُ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّهُ يُقَالُ: أَرْكَزَ المَعدِنُ إِذَا خَرَجَ مِنْهُ شَيْءٌ، قِيلَ لَهُ: فقَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ الشَّيْءُ أَوْ رَبِحَ رِبْحًا كَثِيرًا أَوْ أَكْثَرَ ثمرُهُ: أَرْكَزْتَ. ثُمَّ نَاقَضَ وَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَكْتُمَهُ ولَا يُؤَدِّيَ الخُمُسَ.
          1499- ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قال: (الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ، وَالْبِئرُ جُبَارٌ، وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ، وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ).
          الشَّرحُ: أَمَّا قولُ مالكٍ فأخرجَهُ البَيْهَقيُّ مِن حديثِ ابنِ مَسْلَمةَ حدَّثَنا مالكٌ أَنَّهُ سَمِعَ بعضَ أهلِ العلمِ يقولونَ في الرِّكَازِ: إِنَّمَا هو دِفْنُ الجاهليَّةِ ما لم يُطلَبْ بمالٍ ولم يُتكلَّفْ فيه كبيرُ عملٍ، فأمَّا ما طُلِبَ بمالٍ أو كُلِّفَ / فيه كبيرَ عملٍ فأُصيبَ مرَّةً وأُخطِئ مرَّةً فليس بركازٍ، ورواه أيضًا الشَّافعيُّ في القديمِ عن مالكٍ.
          (وَابْنُ إِدْرِيسَ) الظَّاهرُ أَنَّهُ الإمامُ الشَّافعيُّ الْمُطَّلِبيُّ حيث قرنَهُ بمالكٍ، وكذا قال الحافظُ المِزِّيُّ، ونقلَ ابنُ التِّينِ عن أبي ذرٍّ أَنَّهُ يُقَالُ: ابنُ إدريسَ الشَّافعيُّ، وقيل: هو عبدُ الله بن إدريسَ الأَوْديُّ الكوفيُّ وهو أَشْبَهُ.
          وأمَّا قولُه (المعْدِنُ جُبَارٌ) فقد أسندَهُ آخرَ البابِ.
          وأثرُ عمرَ بنِ عبدِ العزيز أخرجَهُ البَيْهَقيُّ مِن حديثِ قتادةَ أَنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيز جعلَ المعدِنَ بمنزِلَةِ الرِّكازِ يُؤخَذُ منه الخمسُ، ثُمَّ عقَّبَ بكتابٍ آخَرَ فجعل فيه الزَّكَاةَ. قال: ورُوِّينا عن عبدِ الله أبي بكرٍ أَنَّ عمرَ بن عبد العزيز أَخذَ مِنَ المعادنِ مِن كُلِّ مِئَتَيْ درهمٍ خمسةَ دراهم، وعن أبي الزِّنَاد قال: جعلَ عمرُ بنُ عبدِ العزيز في المعادنِ أرباعَ العُشورِ إِلَّا أن تكونَ رِكْزةً فإذا كانت رِكْزَةً ففيها الخُمُسُ.
          وَأَمَّا أثرُ الحسنِ فأخرجه ابنُ أبي شيبةَ عن عبَّاد بن العوَّام عن هشامٍ عن الحسنِ قال: الرِّكَازُ الكنزُ العاديُّ وفيه الخُمُسُ، وحدَّثنا أبو معاويَة عن عاصمٍ عن الحسنِ قال: إذا وُجِدَ الكنزُ في أرضِ العدوِّ ففيه الخُمُسُ، وإذا وُجِدَ في أرضِ العربِ ففيه الزَّكَاةُ.
          قال ابنُ التِّين: وقولُ الحسنِ لم يُتابَع عليه، وقال مرَّةً: أجمع أهلُ العلم على خلافِه، وكذا قال ابنُ المنذر: لا خلافَ بين العلماءِ أنَّ في الرِّكَاز الخُمُسَ ولا نعلم أحدًا خالفَ في ذَلِكَ إِلَّا الحسنَ ففصَّلَ. قال غيرُهُ: وهو غلطٌ لأَنَّ الشَّارِعَ لم يَخُصَّ / أرضًا دونَ أرضٍ.
          وقولُه: (وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ) هو أبو حنيفةَ كَمَا صرَّحُوا به ومنهم ابنُ التِّين، قال: وذلك لأَنَّ العِلَّةَ الَّتي ذَكَرَها البُخاريُّ هي كالعِلَّةِ المرويَّةِ عن أبي حنيفةَ، ونقلَ ابنُ بطَّالٍ عن أبي حنيفةَ والثَّوريِّ والأوزاعيِّ أَنَّ المعدِنَ كالرِّكاز، وفيه الخُمُس في قليلِه وكثيرِه على ظاهرِ قولِه: (وَفِي الرِّكَازِ الخُمُس)
          احتجَّ أبو حنيفةَ بقولِ العربِ: أَرْكَزَ الرَّجُلُ إذا أصاب رِكازًا، وهو قِطَعٌ مِن الذَّهبِ تخرُجُ مِنَ المعادنِ، قاله في «العين» وألحقَ ابنُ سِيدَه الفضَّةَ به، وفي «التَّهذيب»: قِطَعٌ عِظامٌ كالجلاميدِ. وفي التِّرمذيِّ أَنَّهُ ما وُجِدَ مِن دِفْنِ الجاهليَّةِ، وقال الزُّهريُّ وأبو عُبيدٍ فيما حكاه ابنُ المنذر: إِنَّهُ المال المدفونُ وكذا المعدِنُ وفيهما الخُمُسُ.
          وفي «الجامع»: ليس الرِّكَازُ مِن الكنوزِ لأَنَّ أصلَهُ ما رُكِزَ في الأرضِ إذا ثبتَ أصلُهُ، وأمَّا المعدِنُ فهو شيءٌ مركوزُ الأصلِ لا تنقطِعُ مادَّتُهُ، والكنزُ متى استُخرِجَ انقطع لأَنَّهُ لا أصلَ له، ومَن جعلَ الكنزَ رِكازًا قال: هو مِن ركَزْتُ الرُّمح، سُمِّي بذلك لِأَنَّهُ مركوزٌ في الأرضِ.
          وأنكر بعضُهم أن يكونَ الرِّكازُ المعدِنَ، قال في «المحكم»: المعدِنُ منبتُ الجواهر مِن الحديدِ والفضَّة والذَّهبِ ونحوِها لأَنَّ أهلها يُقيمونَ فيه لا يبرحونَ عنه شتاءً ولا صيفًا، ومعدِنُ كلِّ شيءٍ أصلُه مِن ذلك، قال الجوهريُّ: وهو بكسْرِ الدَّالِ، وقال في «المغيث»: هو مركَزُ كلِّ شيءٍ.
          وما ألزمهُ البخاريُّ أبا حنيفةَ حُجَّةٌ قاطعةٌ _كما قال ابنُ بطَّالٍ_ لأَنَّهُ لا يدلُّ اشتراكُ المسمَّياتِ في الأسماءِ على اشتراكِها في المعاني والأحكام، إِلَّا أن يوجب ذَلِكَ ما يجب التَّسليم له، وقد أجمعوا أَنَّ مَن وُهِبَ له مالٌ أو كَثُرَ رِبْحُهُ أو ثَمَرُهُ فَإِنَّمَا يلزمه في ذَلِكَ الزَّكَاةُ خاصَّةً على سببِها، ولا يلزمه في شيءٍ منه الخُمُسُ، وإن كان يُقال فيه أَرْكَزَ، كَمَا يلزمُه في الرِّكازِ الَّذي هو دِفْنُ الجاهليَّةِ إذا أصابه، فاختَلف الحكمُ وإن اتَّفقت التَّسميةُ.
          ومِمَّا يدلُّ على ذَلِكَ حديثُ مالك عن ربيعة عن غيرِ واحدٍ مِنْ علمائِهم: ((أنَّ رسول الله صلعم أقطعَ لبلال بن الحارث المعادِنَ القِبْليَّة)) ولا يُؤخَذُ منها إلى اليومِ إِلَّا الزَّكاةُ، فَلَمَّا لم يُؤخذْ منها غيرُ الزَّكَاةِ في عهدِه وفي عصرِ الصَّحَابةِ دلَّ على أَنَّ الَّذي يجبُ في المعادِنِ هو الزَّكاةُ.
          وقولُ البُخاريِّ: (ثُمَّ نَاقَضَ فَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَكْتُمَهُ وَلَا يُؤَدِّيَ مِنْهُ الخُمُسَ) فالطَّحاويُّ حَكَى عن أبي حنيفةَ قالَ: مَن وَجَدَ رِكازًا فلا بأسَ أن يعطيَ الخُمُسَ للمساكينِ، وإن كان محتاجًا جاز له أنْ يأخُذَهُ لنفْسِه، أي متأوِّلًا أَنَّ له حقًّا في بيتِ المالِ، وله نصيبٌ في الفيْءِ فلِذلكَ أجاز أن يأخُذَ الخُمُسَ لنفْسِه عِوَضًا مِن ذَلِكَ لأَنَّ أبا حنيفةَ أسقطَ الخُمُسَ مِن المعدِنِ بعدَما أوجبه فيه.
          وأَمَّا حديثُ أبي هُريرةَ فأخرجهُ مسلمٌ والأربعةُ، والكلامُ عليه مِنْ أوجُهٍ:
          أحدُها: (العَجْمَاءُ) البهيمةُ تنفلِتُ مِن يَدِ صاحبِها، وعُجْمُها عدمُ نُطقِها، والجُبارُ الهَدَرُ الَّذي لا شيءَ فيهِ، يريدُ إذا جَنَتْ لا غرامةَ فيه، وهو محمولٌ على ما إذا أتلَفَتْ شيئًا بالنَّهار، أو انفلتتْ باللَّيلِ مِن غيرِ تفريطٍ مِن مالكِها، أو أَتلفَتْ ولم يكن معها أحدٌ، لكنَّ الحديثَ محتمِلٌ لإرادةِ الجنايةِ على الأبدانِ فقطْ، وهو أقربُ إلى حقيقةِ الجَرحِ فإِنَّهُ قد ثبتَ في بعضِ طُرُقِه في مسلم وفي البُخاريِّ في الدِّيات: ((العَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ)) [خ¦6912] وفي لفظٍ: ((عَقْلُها جُبَارٌ)) [خ¦6913] وعلى كلِّ تقديرٍ فلم يقولوا بالعمومِ في إهدارِ كلِّ متلَفٍ مِن بَدَنٍ أو مالٍ، والمرادُ بجَرحِ العجماء إتلافُها سواءٌ كان بجُرحٍ أو بغيرِه.
          قال القاضي عِياض: أجمعَ العلماءُ على أَنَّ جنايةَ البهائمِ بالنَّهارِ لا ضمانَ فيها إذا لم يكنْ معها أحدٌ، فإنْ كان معها راكبٌ أو سائقٌ أو قائدٌ فجمهورُ العلماء على ضمانِ ما أَتْلفَتْ، وقال داود وأهل الظَّاهر: لا ضمان بكلِّ حالٍ كان برِجْلٍ أو بمُقَدَّمٍ لأَنَّ الشَّارعَ جعلَ جَرحها جُبارًا ولم يَخُصَّ حالًا مِن حالٍ، إِلَّا أنْ يحمِلَها الَّذي هو معها على ذَلِكَ أو يقصِدَه فتكون حينئذٍ كالآلةِ، وكذا إذا تعدَّى في ربْطِها أو إرسالِها في موضعٍ لا يجبُ رَبْطُها أو إرسالُها فيه، وأَمَّا مَن لمْ يقصِدْ إلى ذَلِكَ فلا يضمنُ إِلَّا الفاعلُ القاصدُ.
          قال أصحابُنا: وسواءٌ كان إتلافُها بِيَدِها أو رِجلِها أو فمِها ونحوِه فإِنَّهُ يجب ضمانُه في مالِ الَّذي هو معها، سواءٌ كان مالكَها أو مستأجِرًا أو مستعيرًا أو غاصبًا أو مُودَعًا أو وكيلًا أو غيرَهُ، إِلَّا أنْ تُتلِفَ آدميًّا فتجبُ دِيَتُهُ على عاقِلَةِ الَّذي معها والكفَّارةُ في مالِهِ.
          وقال مالكٌ واللَّيثُ والأوزاعيُّ: لا ضمانَ فيما إذا أصابتهُ بيدِها أو رِجلِها، ونقل ابنُ بَزِيزَةَ عن أبي حنيفةَ أَنَّهُ لا ضمانَ فيما نَفَحَتْ برِجْلِها دونَ يدِها لإمكانِ التَّحفُّظِ مِن اليدِ دونَ الرِّجلِ، قال: وتحصيلُ مذهبِ مالكٍ أَنَّهُ لا ضمانَ على راكبِها ولا على سائسِها إِلَّا أن تؤثِّر أَثَرًا أو يَفعلَ بها فِعلًا غيرَ معتادٍ أو يَقِفَها في موضعٍ لم تَجْرِ العادةُ بإيقافِها فيه، فهو حينئذٍ ضامنٌ، أَمَّا إذا أَتلفتْ بالنَّهارِ وكانت معروفةً بالإفسادِ ولم يكن معها أحدٌ فإنَّ مالكَها يضمنُ لأنَّ عليه رَبْطَها والحالةُ هذِه.
          وأَمَّا جنايتُها باللَّيلِ فقال مالكٌ: يضمنُ صاحبُها ما أتلفَتْهُ، وقال الشَّافعيُّ وأصحابُه: إِنْ فرَّطَ في حفظِها ضمِنَ وإِلَّا فلا، وقال أبو حنيفةَ: لا ضمانَ فيما رعتْه نهارًا، وقال اللَّيثُ وسُحنون: يضمن، وقد وَرَدَ حديثٌ مرفوعٌ في إتلافِها باللَّيلِ دونَ النَّهارِ في المَزارعِ وأَنَّهُ يضمنُ كما قاله مالكٌ، أخرجه أبو داودَ والنَّسائيُّ مِن حديثِ حَرامِ بن مُحَيِّصةَ عن البَراء ومِنْ حديثِ حَرامٍ عن أبيه: ((أنَّ ناقةً للبَراء)) وصحَّح ابنُ حِبَّان الثَّانيَ والحاكمُ الأَوَّلَ وقال: صحيحُ الإسناد.
          ثانيها: (البِئْرُ) مؤنَّثَةٌ مشتقَّةٌ مِن بارَتْ إذا حُفِرَتْ، والمرادُ هنا ما حَفَرَهُ الإنسانُ حيثُ يجوزُ له، فما هلَكَ فيها فهو هَدرٌ، وكذا إذا حَفَرَ بئرًا فانهارت على الحافِرِ أيضًا، وَأَبْعَدَ مَن قال: المرادُ بالبئرُ هنا البئرُ القديمةُ.
          ثالثُها: (المَعْدِنُ) بكسْرِ الدَّالِ ما عَدَنَ فيه شيءٌ مِن جواهِرِ الأرضِ، سُمِّيَ معدِنًا لِعُدُونِ ما أثبتَهُ الله فيه لإقامتِه وإقامةِ النَّاسِ فيه، أو لِطولِ بقائِه في الأرض، ومعنى كونِه جُبَارًا أنَّ مَن حَفَرَهُ في مِلكِه أو مَواتٍ ومرَّ به مارٌّ أو استأجرَ أجيرًا يعملُ فيه فوقعَ عليه فماتَ فلا شيءَ عليه، وسيأتي تكمِلَةٌ لما نحنُ فيه في كتابِ الدِّياتِ إن شاء الله وقدَّرَهُ.
          رابعُها: (الرِّكازِ) بكسْرِ الرَّاءِ المركوزُ، أي النَّابتُ أو المختفي، ومنه: {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:89] وهو في الشَّرعِ الموجودُ الجاهليُّ عند جمهورِ العلماء، وقد سَلَفَ بَسْطُه قريبًا، ومنهم مالكٌ والشَّافعيُّ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثورٍ. والحديثُ دالٌّ على المغايَرةِ بينَه وبين المعدِنِ وهو مذهبُ أهلِ الحجازِ، ومذهبُ أهل العراقِ أَنَّهُ المعدِنُ كَمَا سَلَفَ، والحديثُ يَرُدُّ عليهم.
          وفيه وجوبُ الخُمُسِ فيه، وبه قال جميعُ العلماء، ولا أعلمُ أحدًا خالفَ فيه إِلَّا الحسنَ، فإِنَّهُ فصَّلَ كما سَلَفَ، ويُصرَفُ عندنا مصرِفَ الزَّكاةِ لا لأهلِ الخُمُسِ على المشهورِ، وِفاقًا لمالكٍ وخلافًا لأبي حنيفةَ. وفيه أَنَّ الرِّكَازَ لا يختصُّ بالذَّهبِ والفِضَّةِ لعمومِه، وهو أحدُ قولَيِ الشَّافعيِّ، ونقلَهُ ابنُ المنذرِ عن جمهورِ العلماء، قال: وبه أقولُ، وأصحُّهما عندَه اختصاصُه بالنَّقْدِ كالمعدِنِ.
          وفيه أَنَّهُ لا فرْقَ بين قليلِه وكثيرِه في وجوبِ الخُمُسِ لعمومِ الحديثِ، وهو أحدُ قوليه أيضًا. قال ابنُ المنذِر: وبه قال جُلُّ أهلِ العلم وهو أَولى، وأصحُّهُما عندَه اختصاصُه بالنِّصاب، ونُقل عن مالكٍ وأحمدَ وداودَ وإسحاقَ، والأصحُّ عند المالكيَّةِ الأوَّلُ، ونَقَلَ ابنُ التِّين عن ابن الجَلَّاب أَنَّهُ حكى فيه روايةً بوجوبِ الخُمُسِ فيه وأُخرى بمقابِلِه، قال: ويُشبِهُ أن يكون حَدُّ القليلِ ما دون النِّصاب، والكثيرُ النِّصابُ فما فوقَه.
          وفيه عدمُ اعتبارِ الحولِ في إخراجِ زكاتِه، وهو إجماعٌ بخلافِ المعدِن على رأيٍ للمشقَّةِ فيه. وفيه إطلاقُ اعتبارِ الخُمُسِ فيه مِن غيرِ اعتبارِ الأراضي لكنَّ الفقهاءَ فصَّلوا فيه كما أوضحتُهُ في «شرح العمدة» فراجعْه منه.
          تنبيهاتٌ:
          أحدُها: قسَّم بعضُ الحنفيَّةِ المعدِنَ ثلاثةَ أقسامٍ: ما يُدرَكُ بالنَّارِ ولا ينطبعُ كالنُّورَةِ والكُحْلِ والفيروزَجِ ونحوِها، وما يُدرِكُ بالنَّارِ وينطبِعُ كالذَّهبِ والفضَّةِ والحديدِ والرَّصاصِ والنُّحاسِ، وما يكونُ مائعًا كالقارِ والنِّفْطِ والملْحِ المائيِّ ونحوِها، والوجوبُ يختصُّ بالنَّوعِ الثَّاني دونَ الآخَرَيْن عند الحنفيَّةِ، وأوجبَهُ أحمدُ في الجميعِ، ومالكٌ والشَّافعيُّ في الذَّهبِ والفضَّةِ خاصَّةً.
          ثانِيها: أوجبَ الشَّافعيُّ وأحمدُ في المعدِنِ ربعَ العُشرِ وفي الرِّكاز الخُمُسَ، وقال مالكٌ في البَدْرةِ تُصابُ بغيرِ كبيرِ تعبٍ: يجبُ فيها الخُمُسُ، وإن لحقتْهُ كُلفةٌ ففيه ربعُ العُشْرِ، وفي الكنزِ الخُمُسُ.
          وفي كتابِ «الأموالِ» لابن زَنْجَوَيْهِ عن عليٍّ أَنَّهُ جعلَ المعدِنَ ركِازًا وأوجبَ فيه الخُمُسَ، ومثلُهُ عن الزُّهريِّ، وقد سَلَفَ حديثُ مالكٍ عن ربيعةَ، قال ابنُ عبد البرِّ: وهو عندَ سائرِ الرُّواةِ مرسلٌ، وقد أسنده البزَّارُ مِن حديثِ الحارثِ بن بلال بن الحارث عن أبيه، ورواه أبو سَبْرة المدنيُّ عن مطرِّفٍ عن مالكٍ عن محمَّدِ بن عَلقمة عن أبيه عن بلال / مثلَهُ، ولم يتابَع أبو سَبْرةَ عليه، ورواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عَوف عن أبيه عن جدِّه مرفوعًا، وهذا في أبي داودَ، وكثيرٌ مجمَعٌ على ضعفِه، وإسنادُ ربيعةَ فيه صالحٌ حسن، قُلْتُ: وأخرجه الحاكمُ مِن حديثِ بلالٍ عن أبيه، ثُمَّ قال: صحيحُ الإسنادِ، ولعلَّهُ عَلِمَ حالَ الحارثِ.
          ثالثُها: قال ابن حزمٍ: كلُّ مَن عدا عليه حيوانٌ مِن بعيرٍ أو فَرَسٍ أو بغلٍ وشبهِها فلم يَقْدِرْ على دفْعِه عن نفْسِه إِلَّا بقتْلِه فقتَلَه فلا ضمانَ عليه فيه، وهو قولُ مالكٍ والشَّافعيِّ وداود. وقال الحنفيُّون: يضمنُ، واحتجُّوا بحديثِ: ((العَجْمَاءُ جَرْحُهَا جُبَارٌ)) وبخبرٍ رُوِّيناه عن عبدِ الكريمِ: أَنَّ إنسانًا عدا عليه فَحْلٌ ليقتلَه فضربهُ بالسَّيفِ فقتَلَهُ فأغرمه أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ إيَّاه وقال: هو بهيمةٌ لا يعقِل. وعن عليٍّ نحوه. ومِن طريقَ عبدَ الرَّزاق عن مَعْمَر عن همَّام عن أبي هُريرةَ قال: مَن أصاب العجماء غَرِمَ. ومِن طريقِ الثَّوريِّ عن الأسودِ بن قيسٍ عن أشياخٍ لهم أنَّ غلامًا لهم دخلَ دار زيدِ بن صُوحان فضربتْه ناقةٌ لزيدٍ فقتلتْه، فعمدَ أولياءُ الغلامِ المقتولِ فقتلوها فأبطلَ عمرُ دمَ الغلامِ وأغرمَ والدَ الغلامِ ثمنَ النَّاقةِ. وعن شريح مثلُهُ.
          قال: وحديثُ العَجْماءِ في غايةِ الصِّحَّةِ وبه نقولُ، ولا حُجَّةَ لهم فيه لأَنَّهُ ليسَ فيه غير أَنَّ ما جَرَحَتْهُ العجماءُ لا يُغْرَمُ، وليس فيه غيرُه، وهو حُجَّةٌ عليهم في تضمينِهم السَّائقَ والرَّاكبَ والقائدَ ما أصابت العجماءُ ممَّا لم يحمِلْها عليه، وأَمَّا الرِّوايةُ عن أبي بكرٍ وعليٍّ فمنقطعةٌ.
          رابعُها: قال ابنُ حَبيبٍ: الرِّكازُ دِفنُ الجَاهليَّةِ خاصَّةً، والكنزُ دِفنُ الإسلامِ، فدِفنُ الإسلامِ فيه التَّعريفُ، ودِفْنُ الجاهليَّةِ فيه الخُمُسُ، وما فيه لِمَنْ وجدَه مطلقًا، وجدَهُ في أرضِ العربِ أو غيرِها أو صُلْحٍ، قاله جماعةٌ مِن أصحابِ مالكٍ، ورواه ابن وهبٍ عن عليٍّ وعمرَ بن عبد العزيز ومكحولٍ واللَّيْثِ.
          قال: وهو قولُ أبي حنيفةَ والشَّافعيِّ، وعن مالكٍ أَنَّهُ فرَّقَ بينَ أرضِ العَنوةِ والصُّلحِ في ذَلِكَ فقال: مَن أصابَهُ في الأوَّلِ فليسَ لِمَن وَجَدَهُ، وفيه الخُمُسُ وأربعةُ أخماسِه لِمَن افتتحها ولِوَرَثَتِهم بعدَهم ويَتصدَّق به عنهم إن لم يُعرفوا، وقد ردَّ عمرُ السَّفَطين اللذَينِ وَجَدُوا بعدَ الفتحِ وسُكنَى البلادِ، ومَن أصابه في الثَّاني فهو كلُّهُ لهم لا خُمُسَ فيه إذا عَرَف أَنَّهُ مِن أموالِهم، وإنْ عَرَف أَنَّهُ ليس مِن أموالِ أهلِ تلك الذِّمَّةِ ولم يرثْهُ عنهم أهلُ هذِه الذِّمةِ فهو لِمَن وَجَدَهُ، وكذلك إنْ وجدَ رجلٌ في دارِ صلحٍ ممَّن صالحَ عليها فهو لربِّ الدَّارِ لا شيءَ فيه لأَنَّ مَن مَلَكَ شيئًا مِن أَرْضِ الصُلْحِ مَلَكَ ما تحتَها، وقال سُحنون: وإن لم يُعرَفْ عَنوةٌ أو صُلحٌ فهو لِمَن أصابَهُ بعدَ أنْ يخمِّسَه.
          قال الأبهريُّ: إِنَّمَا جُعِلَ في الرِّكَازِ الخُمُسُ لأَنَّهُ مالُ كافرٍ لم يَملِكْهُ مسلمٌ فأُنزِلَ واجدُه بمنزلةِ الغانم مِن مالِ الكافرِ، فكان له أربعةُ أخماسِهِ.
          وقال الطَّحاويُّ: لا فرق بين أرضِ العَنوةِ والصُّلحِ لأَنَّ الغانمينَ لم يملكوا الرِّكازَ، كأَنَّ مَن مَلَكَ أرضَ العربِ لا يملك ما فيها مِن الرِّكاز، وهو للواجدِ دونَ المالِكِ بإجماعٍ، فوجبَ رَدُّ ما اختلفوا فيه مِن أرضِ الصُّلح إلى ما أجمعوا عليه مِن أرضِ العربِ، واختَلفَ قولُ مالكٍ فيما وُجِدَ مِن دِفْنِهم سوى العَيْنِ مِن جوهرٍ وحديدٍ ونحاسٍ ومسكٍ وغيرِه، قال: ليس برِكاز، ثُمَّ رجعَ فقال: له حكمُه، وأَخَذَ ابنُ القاسم بالأوَّلِ وهو أَبْيَنُ كما قاله ابنُ أبي زيدٍ لأَنَّهُ لا خُمُسَ فيما أُوجِف عليه، وإِنَّمَا أخذ مِن الذَّهَبِ والفضَّة لأَنَّهُ الرِّكازُ نفسُه الَّذي جاءَ فيه النَّصُّ.
          وقال مطرِّفٌ وغيرُه: إِنَّهُ ركازٌ إِلَّا النَّحاسَ والرَّصاصَ، ومَن جَعَلَ ذَلِكَ كلَّهُ ركازًا شبَّهَهُ بالغنيمةِ يُؤخذُ منها الخُمُسُ سواءٌ كانت عينًا أو عَرْضًا، ونقلَ ابنُ التِّين القولينِ عن مالكٍ ثُمَّ قال: واختار أبو محمَّدٍ عدمَ تخميسِه، وقال القاضي أبو محمَّد: الصَّحيحُ أَنَّهُ يُخمَّسُ.
          واختلفوا فيمن وجد رِكازًا في منزلٍ اشتراه، فرَوَى عليُّ بنُ زيادٍ عن مالكٍ أَنَّهُ لربِّ الدَّارِ دونَ مَن أصابَهُ وفيه الخُمُسُ، وهو قولُ أبي حنيفةَ ومحمَّدٍ، وقال ابنُ نافعٍ، هو لِمَن وجدَهُ دونَ صاحبِ المنزل، وهو قولُ الثَّوريِّ وأبي يوسُفَ، قال مالكٌ: لَمَّا كان ما يُخرَجُ مِن المعدِنِ يعتملُ وينبتُ كالزَّرع كان مِثْلَه في تعجيلِ زكاتِه يومَ حصادِه، ولا يُسقِطُ الدَّينُ زكاةَ المعدِن كالزَّرعِ، وما كان في المعدِن مِن البِدْرَةِ تُؤخذُ بغيرِ تعبٍ ولا عملٍ فهو ركازٌ وفيه الخُمُسُ.
          ونقل ابنُ بطَّالٍ عن الشَّافعيِّ أَنَّهُ اختلف قولُهُ في البِدرةِ توجَدُ فيه فمرَّةً قال: فيها الخُمُسُ كقولِ مالكٍ، ومرَّةً قال: فيها الزَّكَاةُ رُبعُ العُشرِ على كلِّ حال، وهل يُصرَفُ هذا الخُمْسُ مصرفَهُ أو مصرفَ الزَّكَاةِ؟ قال ابن القصَّارِ بالثَّاني كالعُشْرِ ونِصْفِ العشر، قال عبد الحقِّ: والمذهبُ خلافُهُ.
          قال ابن حَبيبٍ: والشُّركاءُ في المعدِنِ كالواحدِ، والعبدُ كالحرِّ، والذِّمِّيُّ كالمسلمِ، والمِدْيَانُ كمَن لا دَين عليه. وقال المغيرةُ وسُحنون: فيه الزَّكَاةُ كسائرِ الزَّكَوات، ولا زكاةَ على أحدٍ ممَّن ذُكِر.