التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب الصدقة على موالي أزواج النبي

          ░61▒ بَابُ: الصَّدَقَة عَلَى مَوَالِي أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلعم.
          1492- ذَكَرَ فيه حديثَ ابنَ عَبَّاسٍ قَالَ: (وَجَدَ النَّبِيُّ صلعم شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلَاةٌ لِمَيْمُوُنَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ، فقال النَّبِيُّ صلعم هَلَّا انْتَفَعْتُم بِجِلْدِهَا؟ قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ، قَالَ: إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا).
          1493- وحديثَ عَائِشَةَ:أَرَادَتْ أَنْ تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ، وَأَرَادَ مَوَالِيهَا أَنْ يَشْتَرِطُوا وَلاَءَهَا، فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ لِرَسُولِ اللهِ صلعم، فَقَالَ لَهَا: (اشْتَرِيهَا، فَإِنَّمَا الوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ).
          وَأُتِيَ رَسُولُ اللهِ صلعم بِلَحْمٍ، فَقُلْتُ: هذا ممَّا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ، فَقَالَ: (هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ).
          الشَّرحُ: أمَّا حديثُ عائشةَ: فَسَلَفَ في أحكامِ المساجدِ [خ¦456] ويأتي قريبًا [خ¦2155] وأمَّا حديثُ ابنِ عبَّاسٍ فأخرجه مسلمٌ بلفظِ: تُصُدِّق على مولاةٍ لميمونةَ بشاةٍ، فمرَّ بها رسولُ الله صلعم، فقال: ((هَلَّا أخذتُم إهابَها فدبغتموهُ فانتفعتم به؟)) فقالوا: إِنَّمَا هي ميْتةٌ فقال: ((إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا)) وفي لفظٍ له: ((هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا؟)) وفي أُخرى: ((أَلَا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا؟)) وفي أُخرى عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ ميمونة. يعني بهذا الحديث، وفي روايةٍ للبُخاريِّ: ((مَا عَلَى أَهْلِهَا لَوِ انْتَفَعُوا بِإِهَابِهَا؟)) ولم يقل في شيءٍ مِنْ طُرُقهِ: فدبغتموه، وفي بعضِ طُرُقُهِ: ((بعير)) مكانَ: (شَاةً).
          وَذَكَرَ في الأيمان والنُّذور في باب إِنْ حلفَ لا يشربُ نبيذًا فشرب الطِّلاء أو سَكَرًا أو عصيرًا، عن ابنِ عبَّاسٍ عن سَودةَ أمِّ المؤمنينَ قالت: ماتت لنا شاةٌ فدبغْنا مَسْكَها، ثُمَّ ما زلنا ننتبِذُ فيه حتَّى صار شَنًّا. [خ¦6686] وهو مِنْ أفرادِه، وأخرجه ابنُ أبي شَيبة في «مسنده» عن ابن عبَّاسٍ قال: ماتت لنا شاةٌ لسودةَ أمِّ المؤمنين، فأتاها النَّبِيُّ صلعم فأخبرتْهُ، فقال: ((ألَا انتفعتم بمَسْكِها؟)) فقالت: يا رسول الله، مَسكُ ميتة! فقال: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}الآية[الأنعام:145] ((إِنَّكُم لستم تأكلونها)) فبعَثَتْ بها فسُلِخَتْ، قال ابنُ عبَّاسٍ: ((فجعلوا مَسكها قِرْبة ثُمَّ رأيتهُ بعدُ شَنَّةً)) ولأحمدَ فقال: ((إِنَّكُم لا تَطعَمونَه، إنْ تدبغوه تنتفعوا به)).
          وللحاكم في «تاريخ نَيْسابُورَ»: ((مرَّ النَّبِيُّ صلعم بشاةٍ ميتةٍ لأمِّ سَلَمة أو لسَودة)) الحديث، وللدَّارَقُطْنيِّ: كان أعطَاها مولًى لميمونة. قال ابن عبد البرِّ: رواه غيرُ واحدٍ بإسقاطِ ابنِ عبَّاسٍ والصَّحيحُ اتِّصَالُه، وكان ابنُ عُيَينةَ يقولُ مِرارًا كذلك ومِرارًا: عن ابن عبَّاسٍ عن ميمونةَ بزيادةِ: ((دِبَاغُ إهابِها طُهورُها)).
          واتَّفقَ مَعمَر ومالك ويونس على قولِه: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) إلَّا أن مَعْمرًا قال: ((لحمُها)) ولم يذكُرْ واحدٌ منهم الدِّباغَ، وكان ابنُ عُيَينةَ يقول: لم أسمع أحدًا يقولُ: (إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا) إِلَّا الزُّهريَّ، واتَّفَقَ عُقيل وجماعاتٌ على ذِكْرِ الدِّباغِ فيه عن الزُّهريِّ، / وكان ابنُ عُيَينة مرَّةً يذكرُه ومرَّةً لا يذكرُه، قال محمَّد بن يحيى النَّيْسابوريُّ: لست أعتمدُ في هذا الحديثِ على ابنِ عُيَينة لاضطرابِه فيه.
          وأَمَّا ذِكرُ الدِّباغ فلا يُؤخَذُ إِلَّا عن يَحيى بن أيُّوب عن عُقيل، ومِن روايةِ بقيَّةَ عن الزُّبيديِّ، ويَحيى وبقيَّةُ ليسا بالقويَّينِ، ولم يَذكر مالكٌ ولا يونس الدِّباغَ، وهو الصَّحيحُ في حديثِ الزُّهريِّ وبه كان يُفتِي، وأَمَّا مِن غيرِ روايةِ الزُّهريِّ فصحيحٌ محفوظٌ عن ابنِ عبَّاسٍ.
          وأَمَّا حديثُ عبدِ الله بن عُكيمٍ قال: ((كَتَبَ إلينا رسولُ الله صلعم قبل موتِه بشهرٍ ألَّا تنتفعوا مِنَ الميتةِ بإهابٍ ولا عَصَبٍ)) فحسَّنَهُ التِّرْمِذيُّ مع اضطرابِه، وصحَّحَهُ ابنُ حِبَّان، ومنهم مَن ادَّعَى نسخَه وضعَّفَهُ يَحيى، وقال ابنُ عبدِ البَرِّ: لم يَثبُتْ، وقال النَّسائيُّ: أصحُّ ما في البابِ في جلودِ الميتة حديثُ ابنِ عبَّاسٍ، وقال الدُّوريُّ: قُلْتُ ليَحيى بن مَعين: أَيُّمَا أعجبُ إِلَيكَ مِن هذين الحديثين؟ قال: ((دباغُها طُهورُها)) أعجبُ إليَّ.
          وحكى الحازميُّ بإسنادِه إلى إسحاقَ بن راهَوَيْهِ أَنَّهُ ناظرَ الشَّافعيَّ _وأحمدُ بن حنبل حاضرٌ_ في جلودِ الميتةِ، فقال الشَّافعيُّ: ((دِباغُها طُهورها)) فقال له إسحاق: ما الدَّلِيل؟ قال: حديثُ ابنِ عبَّاسٍ، قال إسحاق: حديثُ ابنِ عُكيمٍ: ((كَتَبَ إِلَيْنَا رسولُ الله صلعم قَبْلَ موتِه بشهرٍ ألَّا تنتفعوا مِنَ الميتة بإهابٍ ولا عصبٍ)) فهذا أشبَهُ أن يكونَ ناسخًا لحديثِ ميمونةَ، فقال الشَّافعيُّ: هذا كتابٌ وذاك سماعٌ، فقال إسحاق: إنَّ رسولَ الله صلعم كَتَبَ إلى كسرى وقيصرَ فكانت حُجَّةٌ بينهم عندَ الله، فسكَتَ الشَّافعيُّ، فَلَمَّا سمعَ ذَلِكَ أحمدُ ذَهَبَ إِلَى حَدِيثِ ابنِ عُكيمٍ وَأفتى بهِ، ورجعَ إسحاقُ إلى حديثِ الشَّافِعِيِّ.
          وقولُه: (أُعْطِيَتْهَا مَوْلاَةٌ) هو بالرَّفع.
          إذا تقرَّر ذَلِكَ فاتَّفَقَ كافَّة الفقهاء على أَنَّ أزواجَ النَّبِيِّ صلعم لا يدخُلْنَ في آلِهِ الَّذِين تحرُمُ عليهم الصَّدَقةُ، ومواليهنَّ أحرى بالصَّدَقَةِ على ما ثبتَ في شاةِ ميمونةَ ولحمِ بَريرَةَ، وإِنَّمَا اختلفَ العلماءُ في موالي بني هاشمٍ، وقد سَلَفَ ما فيه في بابِ أخْذِ صدقةِ التَّمر فراجِعْهُ، وما نقلناه مِن الاتِّفاقِ هو ما ذكرَهُ ابنُ بطَّالٍ لكنْ في «مصنَّف ابن أبي شَيبة»: حدَّثنا وَكيعٌ عن شَريكٍ عن ابن أبي مُليكةَ: أَنَّ خالد بن سعيد بن العاصي أرسل إلى عائشةَ شيئًا مِن الصَّدَقَةِ فردَّتْهُ وقالت: إِنَّا آلَ محمَّدٍ لا تحِلُّ لنا الصَّدَقةُ.
          واعلم أَنَّ أكثرَ أهلِ العلم _فيما حكاه الحازميُّ_ على جوازِ الانتفاعِ بجلدِ الميتةِ بعدَ الدِّباغِ، منهم الأئمَّة الثَّلاثةُ، ومِنَ الصَّحَابةِ عبدُ الله بن مسعودٍ، وإلى المنع ذهبَ عمرُ وابنُه عبدُ الله وعائشةُ، وادَّعى ابن شاهين أَنَّ هذِه الأحاديث لا يمكن ادَّعاءُ نسخِ شيءٍ منها بالآخَر، والمنعُ على ما قبل الدِّباغ والإباحةُ على ما بعدَه، وقد قال الخليلُ: لا يقع على الجِلْدِ اسمُ الإهابِ إلَّا قبْلَ الدِّباغِ فأمَّا بعدَه فلا يُسمَّى إهابًا بل أَدِيمًا وجِلْدًا وجِرَابًا، وكذا في «المنتهى»: الإهابُ الجِلْدُ قبل أن يُدبغَ، وفي «المحكم»: الإهابُ الجِلْدُ.
          قال أبو عمرَ: ومعلومٌ أنَّ المقصودَ بالحديثِ ما لم يكن طاهرًا؛ لأَنَّ الطَّاهرَ لا يحتاج إلى دِباغٍ فبَطَلَ قولُ مَن قال: إِنَّهُ لا يُنتفع به بعد الدِّباغِ، وكذا قولُ مَنْ قال: إِنَّ جلد الميتةِ يُنتفع به وإن لم يُدبغْ، وهو قولٌ مرويٌّ عن الزُّهريِّ واللَّيْثِ، وهو مشهورٌ عنهما ورُوي عنهُما خلافُه، وهو مِن أفراد الزُّهريِّ وانفردَ هو واللَّيثُ بجوازِ بيعِه قبْلَ الدِّباغِ، وعن مالكٍ ما يشبِهُهُ، وظاهرُ مذهبِه خلافُهُ. قُلْتُ: ومعنى الحديثِ عند كافَّةِ الفقهاءِ: هلَّا انتفعتم بجِلْدِها بعدَ الدِّباغِ.
          ومجموعُ ما في دِباغِ جلودِ الميْتَةِ وطهارتِها به سبعةُ أقوالٍ:
          أحدُها: أَنَّهُ تَطْهُرُ به جميعُ جلودِ الميْتَةِ إلَّا الكلبَ والخنزيرَ والفَرْعَ ظاهرًا وباطنًا، ويُستعمل في اليابسِ والمائعِ وسواءٌ مأكولُ اللَّحمِ وغيرُه، وبه قال عليٌّ وابنُ مسعودٍ وهو مذهبُ الشَّافعيِّ.
          ثانيها: لا يَطْهُرُ منها شيءٌ به، رُوِي عن جماعةٍ سَلَفَ ذِكرُهم، وهي أشهرُ الرِّوايتين عن أحمدَ وروايةٌ عن مالكٍ.
          ثالثُها: يطهُر به جلدُ مأكولِ اللَّحمِ دونَ غيرِه، وهو مذهبُ الأوزاعيِّ وابنِ المبارَكِ وأبي ثَوْرٍ وإسحاقَ.
          رابعُها: تَطْهُرُ جميعُها إلَّا الخنزيرَ، وهو مذهبُ أبي حنيفةَ.
          خامسُها: يَطْهُرُ الجميعُ إِلَّا أَنَّهُ يَطْهُرُ ظاهرُه فقطْ دونَ باطنِه، ويُستعمل في اليابساتِ دونَ المائعاتِ، ويُصلَّى عليه لا فيه، وهو مشهورُ مذهبِ مالكٍ فيما حكاه أصحابُه عنه.
          سادسُها: يَطْهُرُ الجميعُ والكلبُ والخنزيرُ ظاهرًا وباطنًا، وهو مذهبُ داودَ وأهلِ الظَّاهرِ وحُكِيَ عن أبي يوسُفَ.
          سابعُها: أَنَّهُ يُنتفع بجلودِ الميْتَةِ وإنْ لم تُدْبَغْ، ويجوزُ استعمالُها في المائعاتِ واليابساتِ، وهو وجهٌ شاذٌّ لبعضِ أصحابِنا، ومحلُّ بسْطِ المسألةِ كتبُ الخلافِ، وسيكون لنا عودةٌ إلى المسألةِ في أواخر الصَّيدِ والذَّبَائحِ حيثُ ذَكَرَها البُخاريُّ هناك [خ¦5531] [خ¦5532].
          واحتجَّ بعضُ المالكيَّةِ بحديثِ بَرِيرَةَ على أَنَّ التَّصرُّفَ في البيعِ الفاسدِ يُفِيتُه وهو مذهبُ مالكٍ، وقال الشَّافعيُّ: لا تأثيرَ للقبْضِ فيه بمِلْكٍ ولا شُبْهَةِ مِلْكٍ، وقال سُحنُون في الحرامِ البيِّن: ويُفِيتُهُ عندهم العيوبُ والقبضُ والنَّمَاءُ المنفصلُ والمتَّصلُ، وقال أبو حنيفة مثلَه إِلَّا أَنَّهُ قال: يُرَدُّ مع النَّمَاءِ، وإذا وَطِئَ غُرِّمَ الأرْشَ.
          واحتجَّ بعضُ المالكيَّة بحديث بَريرَةَ على أنَّ عائشةَ اشترتْها شراءً فاسدًا فأنفَذَ الشَّارعُ عتقَها، ومعلومٌ أَنَّ شرْطَ الولاءِ لغيرِ المعتِق يوجبُ فسادَ العقدِ، ثُمَّ أنفذَ الشَّارعُ العقدَ، واستدلَّ به أصحابُ أبي حنيفة على أَنَّهَا مُلِكَتْ بالقبضِ مِلكًا تامًّا، وهو بعيدٌ لأَنَّهُ ◙ في هذا الحديثِ وغيرِه أمَرَ عائشة بالشِّراءِ ولم يكن ليأمُرَ بفاسدٍ.
          وأجاب بعضُهم بأَنَّهَا خُصَّت بذلك كما خُصَّ غيرُها بخصائصَ، وهو بعيدٌ لأَنَّ ذَلِكَ لو وقعَ لنُقِلَ، وعدَّ ابنُ التِّينِ مِن ذَلِكَ تخصيصَ البراءِ بنِ عازب بتختُّم الذَّهبِ، وطلحةَ والزُّبيرِ بجوازِ لُبْسِ الحريرِ لحكَّةٍ كانت بهما، وحسَّان بن ثابت بجوازِ إنشاد الشِّعرِ في المسجدِ، وكلُّهُ غريبٌ. /
          وزيادةُ: ((اشتريها واشترطي لهم الولاءَ)) ما رواها إلَّا هشامُ بن عُروة، ساء حفظُه، وادَّعَى ابنُ القطَّانِ أَنَّهُ اختلط في آخر عمره، وسيأتي الكلامُ على ذَلكَ في موضعِه، فهو أَمَسُّ به.