التوضيح لشرح الجامع البخاري

باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة

          ░10▒ بَابٌ اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَالْقَلِيلِ مِنَ الصَّدَقَةِ.
          {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} إِلَى قَوْلِهِ {فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:265-266].
          1415- 1416- 1417- 1448- ذَكَرَ فيه أربعةَ أحاديثَ:
          حديثَ أبي مَسعودٍ: (لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ، فَقَالُوا: مُرَائِي. وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصاعٍ، فَقَالُوا: إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنْ صَاعِ هَذا، فَنَزَلَتْ: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ} الآية [التوبة:79]).
          وحديثَ أبي مَسعودٍ الأنصاريِّ قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم إِذَا أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ) الحديث.
          وحديثَ عَديِّ بن حاتمٍ: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)
          وحديثَ عائشةَ في التَّمْرَةِ.
          الشَّرح: معنى {تَثْبِيتًا} [البقرة:265] تصديقًا ويقينًا قالَهُ الشَّعْبيُّ، وهو حثٌّ أي على إنفاقِها في الطَّاعةِ، ووعَدَ اللهُ على ذلكَ بالإثابةِ، وقال قتادةُ: احتسابًا، وكان الحسنُ إذا أرادَ أن ينفقَ تثبَّتَ فإنْ كان لله أمضى وإلَّا أمسك.
          والجَنَّةُ البُستانُ، والرَّبوةُ الأرضُ المرتفعةُ المستويةُ كما قاله مجاهدٌ، أُضعِفَتْ في ثمرِها، وهو مَثَلٌ ضربَه الله لفضْلِ المؤمِنِ، يقولُ: ليس لخيرِهِ خَلَفٌ كما أَنَّهُ ليس لِخَيْرِ الجَنَّة خَلَفٌ على أيِّ حالٍ أصابَها مطرٌ شديدٌ أو طَلٌّ.
          وقولُه: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} [البقرة:266] هو ضرْبُ مَثَلٍ للعمَلِ كان طائعًا فعَصَى فاحترقتْ أعمالُه كما قالهُ عمرُ وابنُ عبَّاسٍ، فتبطُلُ أحوجَ ما كانوا إِلَيْهَا، كمَثَلِ رَجُلٍ كانت له جنَّةٌ وكنزٌ وله أطفالٌ لا ينفعونَهُ، فأصاب الجَنَّةَ إعصارُ ريحٍ عاصفٍ كالزَّوْبَعَةِ فيها سَمومٌ شديدٌ فاحترقتْ.
          وحديثُ أبي مسعودٍ أخرجهُ في التَّفسير مِن حديث غُنْدَرٍ عن شعبةَ وفيهِ هنا: بصاعٍ [خ¦4668] وأخرجهُ مسلمٌ مِن حديثِ جماعةٍ عن شعبةَ.
          ومعنى (نُحَامِلُ) نحمِلُ للغيرِ بالأُجرةِ لنتصدَّقَ بها، و(نُحَامِلُ) وزنُهُ نُفَاعِل والمفاعلةُ لا تكون إلَّا مِن اثنينِ غالبًا كالمبايعةِ والمعاملةِ، ألا ترى أَنَّهُ حينَ نزلَتْ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا} [المجادلة:12] شقَّ عليهم العملُ بها، فنُسِخَتْ عنهم بقولِهِ: {فِإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ} الآية [المجادلة:13] وقال عليٌّ: لم يعملْ بها غيرِي لا قبْلِي ولا أحدٌ بعدي، كان لي دينارٌ فصرَفْتُهُ، فكنتُ إِذَا ناجيتُ الرَّسُولَ تصدَّقْتُ بدرهمٍ حَتَّى نَفِدَ ثُمَّ نُسخَتْ.
          ولَمَّا ذَكَرَهُ شيخُنا علاءُ الدِّين في «شرحِه» (نُحَامِلُ) نقلَ عن ابن سِيدَهْ أَنَّهُ قال: تحامَلَ في الأمرِ وتكلَّفهُ على مشقَّةٍ وإعياءٍ، وتحامل عليه كلَّفَهُ ما لا يُطيقُ، وهذا ليس مِن معنى مادَّةِ ما نحنُ فيه.
          وقولُهُ: (فَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ) هو عبدُ الرَّحمن بنُ عوفٍ تصدَّق بنصْفِ مالِهِ، وكان مالُهُ ثمانيةَ آلافِ دينارٍ ذكرهُ ابنُ التِّين، (فَقَالُوا: مُرَائِي) وسيأتِي في التَّفسيرِ أربعةُ آلافِ درهمٍ أو أربعُ مئة دينارٍ. وفي «أسبابِ النُّزول» للواحديِّ أَنَّهُ صلعم حثَّ على الصَّدَقةِ فجاءَ عبدُ الرَّحمنِ بن عوفٍ بأربعة آلافِ درهمٍ شطرِ مالِه يومئذٍ، وتصدَّق يومئذٍ عاصمُ بنُ عَدِيِّ بن عَجْلان بمئة وَسْقٍ مِن تمرٍ، وجاء أبو عَقيلٍ بصاعٍ مِن تمرٍ فلمزهم المنافقونَ فنزلَتْ هذه الآية.
          وقولُه: (وَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بِصَاعٍ) وفي أُخرى سلفتْ: بنصفِ صاعٍ. وفي أُخرى: بنصْفِ صُبْرةِ تمرٍ. هو أبو عَقيلٍ كما جاء في البُخاريِّ في موضعٍ آخر [خ¦4668] وفي «صحيح مسلمٍ» في قصَّةِ كعبِ بن مالكٍ وقولِه صلعم: ((كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ)) فإذَا هو أبُو خَيْثَمَة يعني عبدَ الرَّحمن بن نيحاز الأنصاريَّ / الَّذِي تصدَّق بتمرٍ فلمزهُ المنافقون. وقال السُّهيلي في «تعريفِه»: أبو عَقِيلٍ اسمُه جثجاثٌ أحدُ بني أُنَيْفٍ، وقيل: الملموزُ رِفاعةُ بن سهلٍ، وفي «المعاني» للفرَّاء: حثَّ النَّبِيُّ صلعم على الصَّدَقةِ فجاءَ عمَرُ بصدقةٍ وعثمانُ بصدقةٍ عظيمةٍ وجاء أبو عَقِيلٍ. الحديث.
          وفي «تفسير الثَّعلبيِّ» عن أبي السَّلِيل قال: وقف رجلٌ على الحيِّ فقالَ: حَدَّثَنِي أبي أو عمِّي أَنَّهُ شهِدَ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: ((مَنْ يتصدَّقُ اليوم بصدقةٍ أَشهدُ له بها)) فجاء رجلٌ ما بالبقيع أقصرُ قامةً منهُ يقودُ ناقةً لا أرى بالبقيع أحسنَ منها فقال: هي وذو بطْنِها صدقةٌ يا رسول الله، قال: فلمَزَهُ رجلٌ وقال: إِنَّهُ ليتصدَّقُ بها وهي خيرٌ منْهُ، فقال صلعم: ((بل هو خيرٌ منكَ ومنها)) يقولُها ثلاثًا فنزلَتِ الآيةُ.
          و{يَلْمِزُونَ} يَعيبونَ، يُقال: لمَزهُ يَلْمِزُهُ وَيَلْمُزُه إذا عابَهُ، وكذلك همَزَهُ يَهمِزُهُ.
          والجَهد والجُهْدُ بمعنًى واحدٍ عندَ البصريِّينَ، وقال بعضُ الكوفيِّين: هو بالفتْحِ المشقَّةُ وبالضَّمِّ الطَّاقةُ، وقال الشَّعبيُّ: بالضَّمِّ في الفِتنةِ _يعني المشقَّةَ_ وبالفتحِ في العملِ، وذكرَ القزَّازُ نحوَهُ قال: الجَهْدُ ما يُجهِدُ المؤمنَ مِن مرضٍ وغيرِه، والجُهد شيءٌ قليلٌ يعيش به المُقِلُّ، والَّذي ذكرَهُ ابنُ فارسٍ وغيرُهُ مِثْلُ قولِ بعضِ الكوفيِّينَ، واحتجَّ ابنُ فارِسٍ بهذِه الآيةِ أي لا يجِدُونَ إلَّا طاقتَهم.
          وقال الجوهريُّ: الجَهدُ والجُهدُ الطَّاقَةُ وقُرِئَ بهمَا الآيةُ، وقال ابنُ عُيَينَة في «تفسيره»: الجَهدُ جهد الإنسان، والجُهد في ذاتِ اليدِ، وحكى الزَّجَاج يَلْمزُون بكسْرِ الميمِ وضمِّها وقد تقدَّمَ، وكانوا عابُوا الصَّحَابةَ في صدقاتٍ أتَوا بها رسُولَ اللهِ صلعم، يُروَى أَنَّ ابنَ عوفٍ أتى بِصُرَّةٍ تملأُ الكفَّ وأنَّ أبا عَقِيلٍ. الحديث.
          ومحلُّ {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ} [التوبة:79] نَصْبٌ بالذَّمِّ أو رَفْعٌ على الذَّمِّ، أو جَرٌّ بدلًا مِن الضَّمِير في {سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة:78].
          و{الْمُطَّوِّعِينَ} المتطوِّعين المتبرِّعين، وزعمَ أبو إسحاقَ أَنَّ الرِّوايةَ عن ثعلبٍ بتخفيفِ الطَّاءِ وتشديدِ الواوِ وقال: وهو غيرُ جيِّدٍ والصَّحيحُ تشديدُهما، وأنكرَ ذلك ثعلبٌ عليه وقال: إِنَّمَا هو بالتَّشديدِ، وقال التَّدْمُريُّ في «شرحه»: هم الَّذِين يَخرُجونَ إلى الغزو بنفَقَاتِ أنفُسِهم مِن غيرِ استعانةٍ منهم برزقٍ وسلطانٍ وغيرِهم، قال: ووزْنُهم المُفَعِّلة مِنَ الطَّوْعِ، يُقال: طاع له كذا وكذا أي أتاه طَوعًا، ولِساني لا يتطوَّع أي لا ينقادُ، وقد طوَّعُوا يُطَوِّعُونَ وهم المُطَوِّعة مِن ذلكَ.
          وقولُه: (إِنَّ لِبَعْضِهِمُ اليَوْمَ لَمِئَةَ أَلْفٍ) قال شقيقٌ أَحَدُ رُواتِهِ: فرأيتُ أَنَّهُ يعني نفْسَهُ، كذا في «صحيح الإسماعيليِّ» وقولهُ: (مِئَةَ أَلْفٍ) كذا هو في البُخاريِّ، وكذا شَرَحَهُ ابنُ التِّين وذَكَرَه ابنُ بطَّالٍ أيضًا، وأمَّا شيخُنا علاءُ الدِّين فكتبَ بِخَطِّه في الأصل: وإنَّ لبعضِهِم اليومَ ثمانيةَ آلافٍ، ثمَّ قال: وفي «فضل الصَّدقة» لابنِ أبي الدُّنيا: مئةَ ألفٍ، فأبعدَ النُّجْعَةَ وصحَّفَ ما في البُخاريِّ فاحذَرْهُ.
          ومعنى (وَإِنَّ لِبَعْضِهِمُ اليَوْمَ لَمِئَةَ أَلْفٍ) أَنَّهُمْ كانوا يتصدَّقون بما يجِدُونَ، وهؤلاءِ يكنِزونَ المالَ ولا يتصدَّقونَ. وفيه ما كان عليه السَّلفُ مِن التَّواضُعِ والحرصِ على الخيرِ واستعْمَالَةِ أنفُسِهم في المهَنِ والخدمةِ رَغبةً منهم في الوقوفِ عندَ حدودِ الله تعالى والاقتداءِ بكتابِهِ، وكانوا لا يتعلَّمُون شيئًا مِن القرآن إِلَّا للعملِ بهِ، فكَانُوا يحمِلُونَ على ظُهورهم للنَّاسِ ويتصدَّقُونَ بالثَّمَنِ لعدمِ المال عندَهم ذلكَ الوقتَ.
          وحديثُ: (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ) سلفَ في البابِ قبلَهُ، وأخرجهُ ابنُ خُزَيمةَ مِن حديثِ أنسٍ بلفظِ: ((افتدوا مِنَ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)) ومِن حديثِ ابنِ عبَّاسٍ بلفظِ: ((اتَّقُوا)) وأخرجهُ ابنُ أبي الدُّنيا في «فضل الصَّدقة» مِن حديثِ أبي هُريرةَ أيضًا. وفيهِ حضٌّ على الصَّدَقَة بالقليلِ كما سَلَفَ.
          وإعطاءُ عائشةَ التَّمْرَةَ لئلَّا تَرُدَّ السَّائلَ خائبًا وهي تجدُ شيئًا، ورُوي أَنَّهَا أعطتْ سائلًا حبَّةَ عِنَبٍ فجعلَ يتعجَّبُ، فقالتْ: كم ترى فيها مِن مِثقالِ ذَرَّةٍ؟ ومثلُهُ قولُه صلعم لأبي تَمِيْمةَ الهُجَيْميِّ: ((لا تَحْقِرنَّ شيئًا مِنَ المعروفِ ولو أن تضعَ مِنْ دلوِكَ في إناءِ المستقي)).
          وقَسْمُ المرأةِ التَّمرةَ بينَ ابنتَيْها لِمَا جعلَ اللهُ في قلوبِ الأُمَّهاتِ مِن الرَّحمةِ. وفيهِ أَنَّ النَّفقَةَ على البناتِ والسَّعيَ عليهنَّ مِن أفضلِ أعمالِ البِرِّ المجنِّبَةِ مِن النَّارِ، وكانت عائشةُ مِن أَجْوَدِ النَّاسِ أعطتْ بَنِي أَخَوَيْهَا ريعًا أُعطِيتْ به مئةَ ألفِ درهمٍ، وأَعتقَتْ في كفَّارةِ يمينٍ أربعينَ رقبةً، وقيل: فعلتْ ذلكَ في نذْرٍ مُبهمٍ، وكانت ترى أَنَّهَا لم تُوَفِّ بما يلزمها، وأعانت المُنْكَدِرَ في كتابتِهِ بعشرةِ آلافِ درهمٍ.
          وقولُه: (مَن ابْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ بِشَيْءٍ) سمَّاهُ ابتلاءً لموضِعِ الكراهةِ لهنَّ كما أخبر ربُّنا جلَّ جلالُهُ.