مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب الاستخلاف

          ░51▒ باب الاستخلاف
          فيه حديث عائشة أنها قالت: وارأساه.. الحديث.
          وحديث ابن عمر، قيل لعمر: ألا تستخلف.
          وحديث الزهري، عن أنس: أنه سمع خطبة عمر الأخيرة حين جلس على المنبر قال الزهري عن أنس قال سمعت عمر يقول لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر. فلم يزل به حتى صعد.
          وحديث محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال: أتت امرأة النبي صلعم فكلمته في شيء الحديث.
          وحديث أبي بكر أنه قال لوفد بزاخة.
          فيه دليل قاطع كما قال المهلب على خلافة الصديق: ((ولقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر)) الحديث.
          وشك المحدث بأي اللفظين بدأ النبي صلعم ولم يشك في صحة المعنى، وهذا مما وعد به فكان كما وعد، وذلك من أعلام نبوته.
          وقد روى (م) هذا الحديث في كتابه فقال فيه: ((يأبى الله ويدفع المؤمنون إلا أبا بكر)).
          فإن قلت: فإذا ثبت أن الشارع لم يستخلف أحداً، فما معنى ما رواه إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس ابن أبي حازم قال: رأيت عمر وبيده عسيب وهو يجلس الناس، ويقول: اسمعوا لخليفة رسول الله، وهذا خلاف لحديث ابن عمر؟
          فالجواب: أنه ليس في أحد الخبرين خلاف للآخر، ومعنى قول عمر: إن أترك فقد ترك رسول الله. يعني: ترك التصريح والإعلان بتعين شخص / ما وعقد الأمر له، وأما قول عمر: اسمعوا لخليفة رسول الله. فمعناه: أنه استخلف عليهم أبا بكر بالأدلة التي نصبها لأمته أنه الخليفة بعده، فكان أبو بكر خليفة رسول الله؛ لقيام الدليل على استخلافه، ولما كان قد أعلمه الله أنه لا يكون غيره.
          ولذلك قال: ((يأبى الله ويدفع المؤمنون)) ومن أبين الدليل في استخلاف أبي بكر قول المرأة لرسول الله: إن لم أجدك حيًّا إلى من ألجأ بالحكم؟ فقال ◙: ((ائت أبا بكر)).
          ولم يكن للبشر من علم الغيب ما كان لرسول الله في ذلك، فرأى أن الاستخلاف أضبط لأمر المسلمين، وإن لم يوقف الأمر على رجل بعينه؛ لكن جعله لمعينين لا يخرج عنهم إلى سواهم، فكان نوعاً من أنواع الاستخلاف والعقد، وإنما فعل هذا عمر، وتوسط حاله بين حالتين خشية الفتنة بعده، كما خشيت بعد رسول الله وقت قول الأنصار ما قالوا، فلذلك جعل عمر الأمر معقوداً موقوفاً على الستة؛ لئلا يترك الاقتداء برسول الله في ترك الأمر إلى الشورى مع ما قام من الدليل على فضل الصديق فأخذ من فعل أبي بكر طرفاً آخر وهو العقد لأجل الستة ليجمع لنفسه فضل السنتين ولم يترك الترك الكلي، ولم يعين التعيين الكلي، وجعلها شورى بين من شهد لهم بالجنة، وأبقى النظر للمسلمين في تعيين من اتفق أمرهم عليه ممن جعل الشورى فيهم.
          وأما قول عمر حين أثنوا عليه: ((راغب وراهبٌ ووددت أني نجوت منه كفافا)) فيحتمل معنيين: أحدهما: راغب بثنائه في حسن رأي وتقرير له، وراهب من إظهار ما بنفسه من كراهية، وثانيهما: راغب يعني: أن الناس في هذا الأمر راغب فيه يعني في الخلافة، وراهب منها، فإن وليت الراغب فيها خشيت أن لا يعان عليها للحديث، وإن وليت الراهبَ منها خشيت أن لا يقوم بها، وهذا من حقيقة الإشفاق، وفي هذا كله دليل على جواز عقد الخلافة من الإمام لغيره بعده، وإن أمره في ذلك على جماعة المسلمين جائز(1).
          فإن قلت: لم جاز للإمام تولية العهد، والإمام إنما يملك النظر في المسلمين حياته ويزول عنه بوفاته، وتولية العهد استخلاف بعد وفاته في وقت زوال أمره وارتفاع نظره وهو لا يملك ذلك الوقت ما يجوز عليه توليته أو تنفذ فيه وصيته؟
          فالجواب: إنما جاز ذلك لأمور منها إجماع الأمة من الصحابة ومن بعدهم على استخلاف الصديق الفاروق على الأمة بعده، وأمضت الصحابة ذلك منه على أنفسها، وجعل عمر الأمر بعده في ستة فألزم ذلك من حكمه، وعمل فيه على رأيه وعقده، ألا ترى رضا علي بالدخول في الشورى مع الخمسة وجوابه للعباس بن عبد المطلب حين عاتبه على ذلك، بأن قال: الشورى كان أمراً عظيماً من أمور المسلمين، فلم أر أن أخرج نفسي منه.
          ولما جاز لهم الدخول معهم فيه.
          ومنها أن المسلمين إنما يقيمون الإمام إذا لم يكن لهم؛ لحاجتهم إليه وضرورتهم إلى إقامته؛ ليكفيهم مؤنة النظر في مصالحهم، فلما لم يكن لهم مع رأيه وأمره فيما يتعلق بمصالحهم رأي ولا نظر فلذلك في إقامة الإمام بعده؛ لأنه من الأمور المتعلقة بكافتهم، فكان رأيه في ذلك ماضياً عليهم، وجرى مجرى الأب في توليتهم على ابنه الصغير بعد وفاته عند عدم الأب.
          وأما قول عمر: (كنت أرجو أن يعيش رسول الله حتى يدبرنا) يعني: حتى يكون آخرنا، فإنما قال ذلك يوم وفاته حين قال: إن محمداً لم يمت، وإنه سيرجع ويقطع أيدي رجال وأرجلهم حتى قام الصديق فخطب.. الحديث.
          وقد ذكر ابن إسحاق، عن ابن عباس عن عمر أنه قال: إنما حملني على مقالتي حين مات رسول الله قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] الآية، فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله سيبقى في أمته حتى يشهد علينا بآخر أعمالها.
          وكان في هذه الرزية الشنيعة والمصيبة النازلة بالأمة من موت نبيها من ثبات نفس الصديق ووفور عقله ومكانته من الإسلام ما لا مطمع فيه لأحد غيره.
          قال سعيد بن / زيد: بايعوا الصديق يوم مات رسول الله كرهوا بقاء بعض يوم وليسوا في جماعة.
          وذكر ابن إسحاق، عن الزهري، عن عروة أن الناس بكوا على رسول الله حين مات وقالوا: لوددنا أنا متنا قبله، إنا نخشى أن نفتن بعده.
          وقال معن بن عدي العجلاني: والله ما أحب أني مت قبله حتى أصدقه ميتاً كما صدقته حيًّا. فقتل يوم اليمامة في خلافة أبي بكر.
          ومعنى (يدبرنا) قال الخليل: دبرت الشيء دبراً تبعته، وعلى هذا قرأ من قرأ: والليل إذا دبر يعني: إذا تبع النهار، ودبرني فلان: خلفني.
          و(بزاخة) بباء موحدة مضمومة ثم زاي ثم ألف ثم خاء معجمة ثم هاء: موضع كانت فيه وقعة للمسلمين في خلافة الصديق، ووفد بزاخة ارتدوا ثم تابوا، فأوفدوا رسلهم إلى الصديق يعتذرون إليه، فأحب أبو بكر أن لا يقضي فيهم إلا بعد المشاورة في أمرهم، فقال لهم: ارجعوا واتبعوا أذناب الإبل في الصحارى حتى يرى المهاجرون وخليفة رسول الله ما يريهم الله في مشاورتهم أمراً يعذرونكم فيه.
          قوله: (ذلك لو كان وأنا حي..) إلى آخره كأنها فهمت من قوله تمني الموت لها، وقولها: معرساً ببعض أزواجك: أخذتها الغيرة؛ لأنها كانت تحب قربه.
          قوله: (بل أنا وارأساه) يريد والله أعلم أنها تنفي بعده.
          قوله: (أو يتمنى المتمنون) يريد والله أعلم تتمنوا غير خلافة أبي بكر.
          قوله: (ويأبا الله) إلى آخره يريد أن يستخلف غير أبي بكر.
          قوله: (لا أحملها حيا ولا ميتا) أي: لا أجمع بينهما بأن أتحملها حيًّا وأعين فأتحملها ميتاً.
          ومبادرة الفاروق صبيحة اليوم الذي توفي فيه رسول الله بتقديم الصديق؛ لأنه أهم الأمور بعد وفاة رسول الله وبه يحسن حال المسلمين ويرتفع الحرج بينهم.
          قوله: (قد جعل بين أظهركم نورا) يعني: القرآن.
          قوله: (وإن أبا بكر صاحب رسول الله ثاني اثنين) ذكر هذه بعد الأولى؛ لانفراده بها، وهي أعظم فضائله التي يستحق من اتصف بها الخلافة بعده، وغيره اشترك معه في مسمى الصحبة مع ما له من الفضائل الجمة.
          قوله: (وإنه أولى المسلمين بأموركم فقوموا فبايعوه) هذا منه رضى بتقديمه ومبايعته(2).
          وقوله لأبي بكر: (اصعد المنبر) وإلحاحه عليه في ذلك حتى يشهده من عرفه ومن لم يعرفه.
          قوله: (إن لم تجديني فأتي أبا بكر) هذا منه إشارة لخلافته بعده، وقوله لوفد بزاخة ما قال فيه إشارة إلى ما فعله الصديق بعده في أهل الردة، فأعز الله به الإسلام، وتقديمه للصلاة أيضاً إشارة للخلافة بعده؛ لأن من رضيه للدين رضيه للدنيا.


[1] في هامش المخطوط: ((أقول: ويمكن أن يقال إن تولية العهد من الإمام لمن بعده هو برضى أهل زمانه من أهل العقد والحل، فكأنهم رضوا به أن يكون حاكماً عليهم بعد المولى له فصار كمن ولوه وأجمعوا على إمامته وإقامته)).
[2] في هامش المخطوط: ((أقول: دلائل خلافته من الحديث كثيرة منها: تقديمه في الصلاة في حياته، ومنها: قوله يأبى الله إلا أبا بكر ومنها: إن لم تجدينني فأتي أبا بكر وهو تصريح لا يمكن لما مضى تأويله، ومنها: اقتدوا باللذين من بعدي ودلنا تقدم أبو بكر وهو دليل قوي ومنها)).