مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمر الناس

          ░14▒ باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه في أمور الناس إذا لم يخف الظنون والتهمة.. إلى آخره
          ثم ساقه من حديث عائشة وسلف.
          واختلف هل القاضي يقضي بعلمه؟
          فقال الشافعي وأبو ثور: جائز له ذلك في حقوق الله وحقوق الناس سواء، علم ذلك قبل القضاء أو بعده.
          واستثنى الشافعي حدود الله تعالى؛ لأن المقصود فيها الستر. وقال الكوفيون: ما شاهده الحاكم من الأفعال الموجبة للحدود قبل القضاء أو بعده فإنه لا يحكم فيها بعلمه إلا القذف وما علمه قبل القضاء من حقوق الناس لم يحكم فيه بعلمه؛ في قول أبي حنيفة بخلاف ما إذا علم بعده، وقال أبو يوسف ومحمد: يحكم فيما علمه قبل القضاء بعلمه.
          وقالت طائفة: لا يقضي بعلمه أصلاً في حقوق الله وحقوق الآدميين، علم ذلك قبل القضاء أو بعده أو في مجلسه، هذا قول شريح والشعبي، وهو مشهور قول مالك، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو عبيد، وقال الأوزاعي: ما أقر به الخصمان عنده أخذهما به، وأنفذه عليهما إلا الحد، وقال عبد الملك: يحكم بعلمه فيما كان في مجلس حكمه.
          واحتج الشافعي بحديث الباب وأنه ◙ قضى لها ولولدها على أبي سفيان بنفقتهم ولم يسألها على ذلك بينة؛ لعلمه بأنها زوجته وأن نفقتها ونفقة ولدها واجبة في ماله، فحكم بذلك على أبي سفيان؛ لعلمه بوجوب ذلك، وأيضاً فإنه متيقن لصحة ما يقضي به إذا علمه علم يقين، وليست كذلك الشهادة؛ لأنها قد تكون كاذبة أو واهمة.
          وقد قام الإجماع على أنه له أن يُعدِّل ويسقط العدول بعلمه إذا علم أن ما شهدوا به على غير ما شهدوا به، وينفذ علمه في ذلك ولا يقضي بشهادتهم، مثاله: أن يعلم بنتاً لرجل ولدت على فراشه، فإن أقام شاهدين أنها مملوكته / فلا يجوز أن يقبلهما ويبيح له فرجاً حراماً.
          وكذلك لو رأى رجلاً قتل رجلاً ثم جيء بغير القاتل، وشهد شاهدان أنه القاتل فلا يجوز أن يقبلهما.
          واحتج أصحاب أبي حنيفة بأن ما علمه الحاكم قبل القضاء إنما حصل في الابتداء على طريق الشهادة، فلم يجز أن يجعله حاكماً؛ لأنه لو حكم به لكان قد حكم بشهادة نفسه فكان متهماً، وصار بمنزلة من قضى بدعواه على غيره.
          واحتج أصحاب مالك بأن قالوا: الحاكم غير معصوم، ويجوز أن تلحقه الظنة في أن يحكم لوليه على عدوه، فحسمت المادة في ذلك بأن لا يحكم بعلمه؛ لأنه ينفرد به ولا يشركه فيه غيره.
          قوله: (خذي ما يكفيك..) الحديث، قال الداودي: إنما أمرت بأخذ ذلك في خفية من حيث لا يعلم، وارتفعت التهمة؛ لأنها لو شاءت لم تسأل عن ذلك، وإنما قالته في شيء لم يأت بعد.
          وفيه: أن للمظلوم أن يذكر الظالم ببعض ما فيه، قال تعالى: {لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء:148].
          وفيه: أن الرجل يجوز أن يقال فيه ما يظهر من أمره، ولم يخفه عن الناس.
          قولها: (أهل خباء..) إلى آخره، فيه: أن الدار تسمى خباء وأن القبيل تسمي خباءً، وهذا من الاستعارة والمجاز.
          وفي رواية أنه قال لها: ((أنت هند؟)) لما ذكرت له اسمها قبل أن تتكلم قالت: أنا يا رسول الله. ثم تكلمت وكانت من الدهاة.
          قولها: (رجل مسيك) أي: بخيل، وكذلك المسك بضم الميم والسين، وقيل له ذلك؛ لأنه يمسك ما في يديه لا يخرجه إلى أحد.
          وفيه: أن للمرء أن يأخذ لنفسه ولغيره ما يجب لهم من مال المطلوب وإن لم يعلم، وإن أجاز ذلك من أصحاب مالك تأول حديث: ((أد(1) الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك)) أي: لا تأخذ أكثر من حقك.
          قوله: (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
          واستنبط منه بعضهم أن الولد يلزم أباه نفقته وإن كان كبيراً، وليس بجيد؛ لأن أبا سفيان لعل ولده كان صغيراً، وإن احتمل كبره فهي قصة عين لا حجة فيها.


[1] في المخطوط: ((أداء)) ولعل الصواب ما أثبتناه.