مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب: متى يستوجب الرجل القضاء؟

          ░16▒ باب متى يستوجب الرجل القضاء؟
          وقال الحسن: أخذ الله على الحكام.. إلى آخره.
          قول الحسن: أسنده أبو نعيم الحافظ من حديث أبي العوام القطان، عن قتادة، عنه، وكذا قول مزاحم أخرجه من حديث أسماء بن عبيد، عنه.
          واعلم أن شرط القاضي أن يكون مجتهداً، وطرق الاجتهاد مقررة في الأصول والفروع، فإن لم يكن مجتهداً فيها، ومن رآه الناس أهلاً للقضاء، ورأى هو نفسه أهلاً فقد استحقه، ولا يكفي الناس فقط؛ لأنه إذا علم الناس منه هذا الرأي لم يفقد من يزين له ذلك ويستحمد إليه، فقال مالك: ولا يستقضى من ليس بفقيه.
          وذكر ابن حبيب عنه أنه قال: إذا اجتمع في الرجل خصلتان رأيت أن يولى: العلم والورع.
          قال ابن حبيب: فإن لم يكن علم فعقل وورع؛ لأنه بالورع يقف، وبالعقل يسأل. وإذا طلب العلم وجده، وإن طلب العقل لم يجده، وهذا فيه دلالة على جواز تولية القضاء لغير عالم، وهو مذهب أبي حنيفة، ودليلنا عليه قوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ} [النساء:105].
          وإذا استوجب القضاء، فهل للسلطان إجباره عليه؟ قال ابن القاسم عن مالك: لا إلا أن لا يوجد منه عوض. قيل له: أيجبرك بالحبس والضرب؟ قال: نعم. قلت: وقد جبر غير واحد إليه، وجماعة امتنعوا من الدخول فيه لعظمه.
          قال المهلب: والحكم الذي ينبغي للقاضي أن يلزمه هو توسعة خلقه للسماع من الخصمين، وأن لا يحرج بطول ما يخرجه أحدهما.
          وإن رآه غير نافع في خصامه فليصبر عليه حتى يبلغ المتكلم مراده؛ وأيضاً فإنه إذا لم يترك أن يتكلم بما يريد نسب إليه الخصم أنه جار عليه ومنعه الإدلاء بحجته، وأثار على نفسه عداوة.
          والنفش في الآية: الرعي ليلاً، نفشت الدابة تنفش نفوشاً: إذا رعت ليلاً بلا راع، وهملت إذا رعت نهاراً بلا راع، والوصمة: العيب والعار.
          قوله: (صليبا) يريد الصلابة في إنفاذ الحق حتى لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يهاب ذا سلطان أو ذا مال وغيره، وليكن عنده الضعيف والقوي والصغير والكبير في الحق سواء.
          وقول الحسن: (أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى، وما استشهد عليه من كتاب الله) فكل ذلك يدل أن الله فرض على الحكام أن يحكموا بالعدل ولذلك فرض عليهم ألا يخشوا الناس، ولهذا قال عمر بن عبد العزيز في صفة القاضي: (أن يكون صليبا) وعنه: حتى يكون ورعاً نزهاً مستشيراً لذوي الرأي، عارفا بآثار من مضى.
          قوله: (أن يكون عفيفا) أخذه من قوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً} [البقرة:41].
          واختلف في قوله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26].
          فقالت طائفة: الآية عامة في كل الناس، وكل خصمين تقدما إلى حاكم، فعليه أن يحكم بينهما. والناس في ذلك سواء. وسواء كان للحاكم ولد أو والد أو زوجة، وهم وسائر الناس في ذلك سواء. وذهب الكوفيون والشافعي: إلى أنه لا يجوز شهادته له، ويحكم لسائر الناس.
          وزاد أبو حنيفة: ولا يحكم لولد ولده؛ لأن هؤلاء لا تجوز شهادته لهم. واختلف / أصحاب مالك في ذلك.
          والآية الأولى قيل فيها: جاز أن يقال خلقاً، قوله: {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص:26] أي: ترك العمل له فكانوا ناسين له، قاله السدي، وقال عكرمة: هو من التقديم والتأخير أي: لهم يوم الحساب عذاب شديد بما نسوا؛ أي: بما تركوا أمر الله والقضاء بالعدل.
          والآية الثانية: يجوز أن يكون المعنى: فيها هدى ونور للذين هادوا عليهم، ثم حذف، وقيل: (لهم) بمعنى عليهم مثل: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7] و{الَّذِينَ أَسْلَمُواْ} [المائدة:44] نعت في معنى المدح و{الرَّبَّانِيُّونَ}: العلماء الحكماء، وأصله رب العلم، والألف والنون للمبالغة، وقال مجاهد: هم فوق الأحبار، والأحبار للعلماء؛ لأنهم يحبرون الشيء وهو في صدورهم محبر.
          واختلف لم سمي حبراً؟
          فقال الفراء: أي: مداد حبر، ثم حذف مثل: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، وأنكره الأصمعي وقال: إنما سمي حبراً لتأثير. يقال: على أسنانه حبرة. أي: صفرة وسواد.
          والآية الثالثة قال مسروق: كان الحرث عنباً فنفشت فيه الغنم؛ أي: رعت ليلاً. وهو ما قاله الهروي في ((غريبيه))، وفي ((الصحاح)): الهمل بالتحريك يكون ليلاً ونهاراً، فقضى داود بالغنم لأصحاب الحرث فمروا بسليمان فأخبروه، فقال: نعم أقضي به وغيره كان أرفق للفريقين، فدخل أصحاب الغنم على داود فأخبروه، فأرسل إلى سليمان فعزم عليه بحق النبوة والملك والولد كيف رأيت فيما قضيت؟ فقال: عدل الملك وأحسن، و غيره كان أرفق بهما جميعاً، قال: ما هو؟ قال: تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فلهم لبنها وسمنها وأولادها، وعلى أهل الغنم أن يزرعوا لأهل الحرث حرثهم، فقال داود ◙: نعم ما قضيت. قيل: علم سليمان أن قيمة ما أفسدته مثل ما يصير إليهم من لبنها وصوفها.
          وقد أسلفنا أن ناقة للبراء أفسدت في حائط، فقضى ◙ أن على أهل الحوائط حفظها نهاراً، وأن ما أفسدته المواشي ضامن على أهلها؛ أي: ضمان قيمته، وهذا خلاف شرع سليمان.
          قوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79] يعني: القضية.
          قوله: (لولا ما أمر الله من أمر هذين الرجلين..) إلى آخره، قال الداودي: وإنما أثنى عليهما بقوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79] ولم يعذر الجاهل.
          وقد صح أن القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة.
          قال طاوس: أشر الناس عند الله يوم القيامة إمام قاسط.
          وقال مكحول: لو خيرت بين القضاء وبين المال لاخترت القضاء، ولو خيرت بينه وبين ضرب عنقي اخترت ضرب عنقي.