مجمع البحرين وجواهر الحبرين

باب موعظة الإمام للخصوم

          ░20▒ باب موعظة الإمام للخصوم
          فيه حديث أم سلمة أنه ◙ قال: ((إنما أنا بشر مثلكم)) الحديث.
          وسلف في المظالم، وأوائل كتاب الحيل، وأم سلمة اسمها: هند، وهي ابنة عم أبي جهل، ماتت سنة تسع وخمسين وهي أول ظعينة دخلت المدينة.
          ومعنى: ألحن بحجته: أفطن لها وأجدل. وقال ابن حبيب: أنطق وأقوى مأخوذ من قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] أي: في نطق القول.
          وقيل معناه: أن يكون أحدهما أعلم بمواقع الحجج وأهدى لإيرادها ولا يخلطها بغيرها.
          قال أبو عبيد: اللحن بفتح الحاء الفطن، وبالإسكان الخطأ في القول. ويؤيده روايته في كتاب المظالم بلفظ: ((أبلغ من بعض))، ويأتي بعد أيضاً.
          وذكر ابن سيده: لحن الرجل لحناً: تكلم بلغته، ولحن له يلحن لحناً: قال له قولاً يفهمه عنه ويخفى على غيره، وألحنَه القول أفهمه إياه، فلحنه لحنا: فهمه، ولحنه لحناً عن كراع كذلك، وهي قليلة، والأول أعرف، ورجل لحن: عالم بعواقب الكلام ظريف، ولحن لحناً: فطن لحجته وانتبه لها، ولاحن الناس: فاطنهم.
          ورجل لاحن الناس ولاحنوه لا غير: إذا صرف كلامه عن جهته، ولا يقال: لحان. وعرف ذلك في لحن كلامه؛ أي: فيما يميل إليه، وفي التنزيل: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] وفي ((جامع القزاز)) عن الخليل إن ترك الصواب يجوز فيه التحريك. وأنكره بعضهم، وقال غيره: بالسكون يكون: إزالة الشيء عن جهته وفي الخطأ، وأنشد:
منطق صائب ويلحن أحيانا                     وخير الحديث ما كان لحنا
          فهنا في اللحن التعميم وإزالته عن وجهه، ولذلك جعله خير الحديث؛ لأنه إنما يعلمه من يفطن له وليس كالذي يعلمه كل سامع.
          ومعنى (صائب) في هذا؛ أي: من صاب يصوب أي: هو غزير كثير متين. وقيل: إنما يريد هنا اللحن الذي هو إزالة الإعراب؛ لأن الجارية ليُستملح ذلك فيها.
          وقال ثعلبة: اللحن قبيح من كل أحد. قال معاوية: كيف أمسى زياد فيكم؟ قالوا: ظريف على أنه يلحن، قال: فذلك أظرف له، ذهب معاوية إلى اللحن الذي هو الفطنة، وذهبوا هم إلى اللحن الذي هو الخطأ. وقال عمر: تعلموا الفرائض واللحن كما تعلمون القرآن. قيل: أراد اللغة، وقيل: أراد الخطأ؛ لأن من تعلم الخطأ فقد تعلم الصواب، والعرب تقول: هذا لحن بني فلان إنما تريد لغتهم، ومنه قول عمر في أبي بن كعب: وإنما أرغب عن كثير من لحنه. يريد: لغته.
          فيه ما ترجم له أنه ينبغي للحاكم أن يعظ الخصمين ويحذر من المظالم ومطالبة الباطل؛ لأنه ◙ وعظ أمته بقوله هذا.
          قوله: (إنما أنا بشر) على معنى الإقرار على نفسه بصفة البشرية من أنه لا يعلم الغيب إلا ما أعلمه الله منه.
          قوله: (إنكم تختصمون إلي) يريد والله أعلم وأنا لا أعرف المحق منكم من المبطل حتى يميز المحق منكم من المبطل؛ فلا يأخذ المبطل ما نعطيه.
          قوله: (فأقضي له بنحو ما أسمع) وفي رواية: ((فأتي بذلك)) وهذا يقتضي أن الحاكم مأمور بأن يقضي بما يقر به الخصم عنده.
          قوله: (فمن قضيت له) هو خطاب للمقضي له؛ لأنه يعلم من نفسه هل هو محق أو مبطل؟ فبين له أنه لا يضر بالحكم؛ لأن الحكم لا ينقل الأصل عما كان عليه.
          وفيه: أن القاضي لا يقضي بعلمه. وفيه نظر، وذلك أنه إذا علم شيئاً لا يمكنه أن يقضي بخلافه، بل يرفع ما علمه إلى غيره، أو لا يحكم بظاهر قول الخصم إلا إذا لم يكن عنده علم المحق منهما، ومن قال: يقضي بعلمه، فإنه ينفذ ما علمه من غير التفات إلى قول الخصم.