الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب غزوة تبوك

          ░78▒ (باب: غَزْوَة تَبُوك وهي غزوة العُسْرَة)
          هكذا أورد المصنِّف هذه التَّرجمة بعد حَجَّة الوداع، وهو خطأ، وما أظنُّ ذلك إلَّا مِنَ النُّسَّاخ، فإنَّ غزوة تبوك كانت في شهر رجب مِنْ سنة تسع قبل حجَّة الوداع بلا خلاف، وعند ابن عائذ مِنْ حديث ابن عبَّاسٍ أنَّها كانت بعد الطَّائف بستَّة أشهر، وليس مخالفًا لقول مَنْ قال: في رجب إذا حذفنا الكسور، لأنَّه صلعم قد دخل المدينة مِنْ رُجُوعه مِنَ الطَّائف في ذي الحجَّة.
          وتَبوك: مكان معروف هو نصف طريق المدينة إلى دمشق، ويقال: بين المدينة وبينها أربع عشرة مرحلة، وذكرها في «المحكم» في الثُّلاثيِّ الصَّحيح، وكلام ابن قُتَيْبَة يقتضي أنَّها مِنَ المعتلِّ فإنَّه قال: جاءها النَّبيُّ صلعم وهم يبَوُكُون (1) مكان مائها بقدح فقال: ما زلتم تَبُوكونها! فسُمِّيت حينئذ تبوك.
          قوله: (وهي غزوة العُسْرة) بمُهْمَلتين الأولى مضْمُومة بعدها سُكُون مأخوذ مِنْ قوله تعالى: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التَّوبة:117] وهي غزوة تبوك، وفي حديث ابن عبَّاسٍ: ((قيل لعمر: حدِّثْنا عن شأن سَاعة العُسْرَة قال: خرجنا إلى تبوك في قَيْظٍ شَدِيد فأصَابَنا عطش)) الحديث أخرجه ابن خُزيمة، وفي «تفسير عبد الرَّزَّاق» عن مَعْمر عن ابن عقيل قال: ((خرجوا في قلَّة مِنَ الظَّهر وفي حرٍّ شديد حتَّى كانوا ينحرون البعير فيشربون ما في كرشه مِنَ الماء، فكان ذلك عُسْرة مِنَ الماء وفي الظَّهر وفي النَّفقة فسُمِّيت غزوة العُسْرَة)).
          وتبوك والمشهور فيها عدم الصَّرف للتَّأنيث والعلميَّة، ومَنْ صَرَفَها أراد الموضع، ووقعت تسميتها بذلك في الأحاديث الصَّحيحة، ثمَّ ذكر الحافظ عدَّة روايات مِنْ حديث مسلم وأحمد وغيرهما.
          وكان السَّبب فيها ما ذكره ابن سعد وشيخه وغيره قالوا: بلغ المسلمين مِنَ الأنباط الَّذِينَ يقدُمون بالزَّيت مِنَ الشَّام إلى المدينة أنَّ الرُّوم جمعت جموعًا، وأجلَبَت معهم لَخْم وجُذَام وغيرهم مِنْ متنصِّرة العرب، وجاءت مقَدِّمتُهم إلى البلقاء، فندب النَّبيُّ صلعم النَّاس إلى الخروج، وأعلَمَهم بجهة غزوهم.
          وروى الطَّبَرانيُّ مِنْ حديث عِمْران بن حُصَين قال: ((كانت نصارى العرب كتبت إلى هِرَقْل إنَّ هذا الرَّجل الَّذِي خرج يدَّعِي النُّبوَّة هلك وأصابتهم سنون فهلكت أموالهم، فبعث رجلًا مِنْ عظمائهم يقال له: قُبَاذ، وجهَّز معه أربعين ألفًا، فبلغَ النَّبيَّ صلعم ذلك ولم يكن للنَّاس قوَّة، وكان عثمان قد جهَّز عِيرًا إلى الشَّام، فقال: يا رسول الله صلعم هذه مئتا بعير بأَقْتَابها وأَحْلَاسِها، ومئتا أوقيَّة، قال: فسمعته يقول: لا يضرُّ عثمان ما عمل بعدها)) وأخرجه التِّرمذيُّ / والحاكم مِنْ حديث عبد الرَّحمن بن حبَّان(2) نحوه.
          وذكر أبو سعيد في «شرف المصطفى» والبيهقيُّ في «الدَّلائل» أنَّ اليهود قالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقًا فالحقْ بالشَّام فإنَّها أرض المحشر وأرض الأنبياء، فغزا تبوك لا يريد إلَّا الشَّام، فلمَّا بلغ تبوك أنزل الله تعالى الآيات مِنْ سورة بني إسرائيل {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} الآية [الإسراء:76] ). انتهى.
          وإسناده حسن مع كونه مرسلًا (3). انتهى.
          وفي «تاريخ الخميس»: وفي رجب هذه السَّنة لستَّة أشهر وخمسة أيَّام خلت منها وقعت غزوة تبوك، وهي غزوة العُسْرَة وتُعْرَف بالفاضحة لافتضاح المنافقين فيها، وكانت يوم الخميس في رجب سنة تسع مِنَ الهجرة بلا خلاف... ولم يقع في هذه الغزوة قتال، ولكن فتحوا في هذا السَّفر دُومَة الجندل وكانت الرُّوم والشَّام مِنْ أعظم أعداء الإسلام وأهيبهم عندهم، وكان رسول الله صلعم إذا غزا غزوة وَرَّى بغيرها إلَّا غزوة تبوك، فإنَّه أخبر النَّاس بها وأظهر ليتأهَّبوا لها الأهبة ويستعدُّوا لبعد السَّفر وشدَّة الزَّمان، وفي «المنتقى»: استخلف على المدينة سِبَاع بن عَرْفَطَة الغِفَاريَّ، وقيل: محمَّد بن مسلمة. انتهى.
          وقالَ الدِّمْياطيُّ: استخلاف محمَّد بن مسلمة هو أثبت عندنا ممَّن قال: استخلف غيره... وفي «المواهب اللَّدنِّيَّة»: أمر رسول الله صلعم لكلِّ(4) بطن مِنَ الأنصار والقبائل مِنَ العرب أنْ يتَّخِذوا لواءً ورايةً، وكان معه ثلاثون ألفًا، وعند أبي زُرعة: سبعون ألفًا، وفي رواية عنه أيضًا: أربعون ألفًا، وكانت الخيل عشرة آلاف فرس... وفي كلِّ منزل نزل اتَّخذ مسجدًا وجميعها معروفة إلى مسجد تبوك. انتهى مختصرًا.


[1] قال في مشارق الأنوار مادة تبوك: وجَدَهُم يبوكون حَسْيَها بقَدَح فَقَالَ مَا زِلْتُم تَبُوكُونَها فسُمِّيَت بِهِ وَمعنى تَبُوكون تُحَرِّكون.
[2] في (المطبوع): ((حباب)).
[3] كله من فتح الباري:8/111 وما بعدها باختصار.
[4] في (المطبوع): ((بكل)).