الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب غزوة ذات الرقاع

          ░31▒ (باب: غَزْوة ذاتِ الرِّقاع)
          قال الحافظ: هذه الغزوة اختُلف فيها متى كانت؟ واختُلف في سبب تسميتها بذلك كما سيأتي، وقد جنح البخاريُّ إلى أنَّها كانت بعد خيبر، واستدلَّ لذلك في هذا الباب بأمور سيأتي الكلام عليها مفصَّلًا، ومع ذلك فذَكَرها قبل خيبر فلا أدري هل تعمَّد ذلك تسليمًا لأصحاب المغازي أنَّها كانت قبلها_كما سيأتي_ أو أنَّ ذلك مِنَ الرُّواة عنه أو إشارة إلى احتمال أن تكون ذات الرِّقاع اسمًا لغزوتين مختلفتين كما أشار إليه البَيْهقيُّ، على أنَّ أصحاب المغازي مع جزمهم بأنَّها كانت قبل خيبر مختلفون في زمانها، فعند ابن إسحاق أنَّها بعد بني النَّضير وقبل الخندق سنة أربع.
          قال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلعم بعد غزوة بني النَّضير شهر ربيع وبعض جمادى يعني: مِنْ سَنته، وغزا نجدًا يريد بني محارب وبني ثعلبة مِنْ غَطَفان حتَّى نزل نخلًا وهي غزوة ذات الرِّقاع، وعند ابن سعد وابن حبَّان أنَّها كانت في المحرَّم سنة خمس، وأمَّا أبو معشر فجزم بأنَّها كانت بعد بني قُريظة والخندق، وهو موافق لصنيع المصنِّف، وقد تقدَّم أنَّ غزوة قُريظة كانت في ذي القَعدة سنة خمسٍ، فتكون ذات الرِّقاع في آخر السَّنة وأوَّل الَّتي تليها، وأمَّا موسى بن عقبة فجزم بتقديم وقوع غزوة ذات الرِّقاع، لكنْ تردَّد في وقتها، فقال: لا ندري كانت قبل بدر أو بعدها [أو قبل أحد أو بعدها]، وهذا التَّردُّد لا حاصل له بل الَّذِي ينبغي الجزم به أنَّها بعد غزوة بني قُرَيظة، لأنَّه تقدَّم أنَّ صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شُرعت، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرِّقاع، / فدلَّ على تأخُّرها بعد الخندق، وسأذكر بيان ذلك واضحًا.
          وفي «هامش اللَّامع» عن العينيِّ: والحاصل أنَّ غزوة ذات الرِّقاع عند ابن إسحاق كان بعد بني النَّضِير وقبل الخندق سنة أربع، وعند ابن سعدٍ وابن حبَّان أنَّها كانت في محرَّم سنة خمس، ومال البخاريُّ إلى أنَّها كانت بعد خيبر كما سيأتي، ومع هذا ذكرها قبل خيبر، والظَّاهر أنَّ ذلك مِنَ الرُّواة. انتهى مختصرًا.
          قوله: (وهي غزوة مُحَارِب خَصَفَة) كذا فيه وهو متابع في ذلك لرواية مذكورة في أواخر الباب، وخَصَفَة: هو ابن قَيْس بنِ غَيْلَان بن إلياس بن مُضَر، ومُحَارب: هو ابن خَصَفَة، والمحاربيُّون مِنْ قيس يُنسبون إلى مُحَارب بن خَصَفَة هذا، وفي مُضَر[ محاربيُّون أيضًا لكونهم يُنسَبون إلى محارب بن فِهْر بن مالك بن النَّضْر بن كنانة بن خُزيمة بن مُدْرِكة بن إلياس بن مُضَر] وهم بطن مِنْ قريش، ولم يحرِّر الكرمانيُّ هذا الموضع فإنَّه قال: قوله: (مُحَارب) هي قبيلة مِنْ فِهْر، و(خَصَفَة) هو ابن قيس بن غيلان (1).
          قال الحافظ: وفي شرح قول البخاريِّ: (مُحَارب خَصَفَة) بهذا الكلام مِنَ الفساد ما لا يخفى، ويوضِّحه أنَّ بني فهر لا يُنْسبون إلى قيسٍ بوجهٍ، نعم وفي العُرَنيِّين مُحَارب بن صبَّاح، وفي عبد القيس مُحَارب بن عَمْرو، ذكر ذلك الدِّمْياطيُّ وغيره، فلهذه النُّكتة أضيفت مُحَارب إلى خَصَفَة لقصد التَّمييز عن غيرهم مِنَ المحاربين، كأنَّه قال: محارب الَّذِينَ ينسبون إلى خَصَفَة لا الَّذِينَ ينسبون إلى فِهر ولا غيرهم.
          قوله: (مِنْ بني ثعلبة بن غَطفان) قال الحافظ: كذا وقع فيه، وهو يقتضي أنَّ ثعلبة جدٌّ لمحارب، وليس كذلك، ووقع في رواية القابسيِّ: <خَصَفَة بن ثعلبة> بن غطفان(2) وهو أشدُّ في الوهم، والصَّواب ما وقع عند ابن إسحاق وغيره(3)، و(بني ثعلبة) بواو العطف، فإن غطفان هو ابن سعد بن قيس بن غيلان، فمحارب وغطفان ابنا عمٍّ، فكيف يكون الأعلى منسوبًا إلى الأدنى؟! وسيأتي في الباب مِنْ حديث جابر بلفظ: ((محارب وثعلبة)) بواو العطف على الصَّواب، وفي قوله: (ثعلبة بن غطفان) بباء موحَّدة ونون نظر أيضًا، والأولى ما وقع عند ابن إسحاق: (وبني ثعلبة مِنْ غَطفان)_بميم ونون_ فإنَّه ثعلبة بن سعد بن دينار بن مَغيص(4) بن رَيْث بن غطفان، على أنَّ لقوله: (ابن غطفان) وجهًا بأن يكون نسبه إلى جدِّه الأعلى. انتهى مِنَ «الفتح».
          قلت: وهذا على نسخة «الفتح»، وفي «النُّسخ الهنديَّة» على الصَّواب (مِنْ غطفان) بدل (بن غطفان)، وكتب الشَّيخ قُدِّس سرُّه في «اللَّامع»: ومقصود المصنِّف مِنْ إيراد الآثار المختلفة في التَّرجمة بيان ما في صلاة الخوف مِنَ الاختلاف أين صلَّاها أوَّلًا؟ والجمع بينهما أنْ تُحمل على الصَّلاة المطلقة عن قيد الأوَّليَّة، فإنَّه صلعم صلى في جملة تلك الغزوات. انتهى.
          وقال الحافظ: (تنبيه): جمهور أهل المغازي على أنَّ غزوة ذات الرِّقاع هي غزوة مُحَارب كما جزم به ابن إسحاق، وعند الواقديِّ أنَّهما ثنتان، وتبعه القطب الحلبيُّ في «شرح السِّيرة». انتهى.
          قلت: وإلى مسلك الجمهور مال المصنِّف كما صرَّح هو بنفسه في التَّرجمة. وأمَّا سبب تسميتها بذات الرِّقاع فقال ابن هشام وغيره: سُمِّيت بذلك لأنَّهم رقعوا [فيها] راياتهم، وَقِيلَ: بِشَجَرٍ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ يُقَالُ لَهُ: ذَاتُ الرِّقَاعِ، وقيل: بل الأرض الَّتي [كانوا] نزلوا بها كانت ذات ألوان تشبه الرِّقاع، وقيل: لأنَّ خَيْلَهم كان بها سواد وبياض، قاله ابن حبِّان.
          وقال الواقديُّ: [سُمِّيت] بجبل هناك فيه بقع، وهذا لعلَّه مستند ابن حبَّان، ويكون قد تصحَّف (جبل) بـ(خيل) وقد رجَّح السُّهيليُّ السَّبب الَّذِي ذكره أبو موسى وهو ما سيأتي في البخاريِّ، وكذلك النَّوويُّ، ثمَّ قال: يحتمل أن تكون سُمِّيت بالمجموع، وأغرب الدَّاوديُّ فقال: سُمِّيت ذات الرِّقاع لوقوع صلاة الخوف فيها، فسُمِّيت بذلك لترقيع الصَّلاة فيها، وذكر الحافظ الكلام على تعدُّد غزوة سُمِّيت بذات الرِّقاع كما قيل، فارجع إليه لو شئت.


[1] كذا في الأصل وفي الفتح عيلان بالمهملة، وهو ما ذكره السمهودي في وفاء الوفا، منازل مزينة ومن حل بها... إلخ (وفاء الوفا:2/266)
[2] قوله: ((ابن غطفان)) ليس (المطبوع).
[3] في (المطبوع): ((غيره)).
[4] في (المطبوع): ((معيص)).