الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب حجة الوداع

          ░77▒ (باب: حجَّة الودَاع)
          بكسر الحاء المهملة وبفتحها، [وبكسر الواو وبفتحها]، ذكر جابر في حديثه الطَّويل في صفتها كما أخرجه مسلم وغيره: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم مكَثَ تِسْعَ سِنِين_أي منذُ قَدِم المدينة_ لم يحجَّ ثمَّ أذَّن في النَّاس في العَاشرة أنَّ النَّبيَّ صلعم حَاجٌّ، فقَدِم المدينة بشَرٌ كثير كلُّهم يلْتَمِس أن يأتمَّ برسول الله صلعم))... الحديث، وعند التِّرمذيِّ مِنْ حديث جَابر: ((أنَّه صلعم حجَّ قَبْل أنْ يُهَاجر ثَلاثَ حِجَج)) وعن ابن عبَّاسٍ مثله أخرجه ابن ماجَهْ والحاكم، قلت: وهو مبنيٌّ على عدد وفود الأنصار إلى العَقَبة بمنًى بعد الحَجِّ، فإنَّهم قَدِموا أوَّلًا فتواعدوا، ثمَّ قَدِمُوا ثانيًا فبايعوا البيعة الأولى، ثمَّ قَدِمُوا ثالثًا فبايعوا ثالثًا(1) فبايعوا البيعة الثَّانية كما تقدَّم بيانه أوَّل الهجرة، وهذا لا يقتضي نفي الحجِّ قبل ذلك، وقد أخرج الحاكم بسند صحيح إلى الثَّوريِّ: ((أنَّ النَّبيَّ صلعم حجَّ قبل أن يُهاجِر حِجَجًا)) وفي حديث ابن عبَّاسٍ: ((أنَّ خُرُوجَه مِنَ المدينةِ كان لخمس بقين مِنْ ذي القَعدة)) أخرجه المصنِّف في الحجِّ، وأخرجه هو ومسلم مِنْ حديث عائشة مثله، وجَزَم ابن حزم بأنَّ خروجه مِنَ المدينةِ كان يوم الخميس، وفيه نظر، لأنَّ أوَّل ذي الحجَّة كان يوم الخميس قطعًا، لِما ثَبَت وتَواتَر أنَّ وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة، فتعَيَّن أنَّ أوَّل الشَّهر يوم الخميس، فلا يصِحُّ أن يكون خُرُوجه يوم الخميس، بل ظَاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة، لكن ثبت في «الصَّحيحين» عن أنس: ((صَلَّيْنَا الظُّهر مع النَّبيِّ صلعم بالمدينة أربعًا والعصرَ بذي الحُلَيْفَة ركعتين)) فدلَّ على أن خُروجَهُم لم يكن يوم الجمعة، فما بقي إلَّا أن يكون خُرُوجهم يوم السَّبت، ويُحْمَل قول مَنْ قال: ((لخمس بَقِين)) أي: إن كان الشَّهر ثلاثين، فاتَّفق أن جاء تسعًا وعشرين فيكون يوم الخميس أوَّل ذي الحجَّة بعد مضيِّ أربع ليال لا خمس، وبهذا تتَّفق الأخبار، هكذا جمع الحافظ عماد الدِّين بن كثير بين الرِّوايات.
          وكان دخوله صلعم مكَّة صُبْحَ رَابِعهِ كما ثبت في حديث عائشة، وذلك يوم الأحد، وهذا يؤيِّد أنَّ خروجه مِنَ المدينةِ كان يوم السَّبت كما تقدَّم، فيكون مُكْثُه في الطَّريق ثمان ليالٍ وهي المسافة الوسطى، ثمَّ ذَكَر المصنِّف في الباب سبعة عشر حديثًا تقدَّم غالبها في كتاب الحجِّ. انتهى.
          قلت: واختار ابن القيِّم أيضًا في «زاد المعاد» خروجه صلعم مِنَ المدينةِ يوم السَّبت وهو الرَّاجح عندما(2) حقَّقته في «جزء حجَّة الوداع» لهذا العبد الضَّعيف، وتقدَّم تعريفُه في كتاب الحجِّ، وذكرتُ فيه أنَّ هذه الحَجَّة كما تسمَّى بحَجَّة الوداع تسمَّى بحَجَّة الإسلام، وبحَجَّة البلاغ، وبحَجَّة التَّمام أيضًا، وفيه أيضًا: حكى صاحب «الخميس» عن ابن عبَّاسٍ ☺ أنَّه كره أن تسمَّى بحَجَّة الوداع، قلت: لكنَّ تسميته بحَجَّة الوداع هو الأشهر مِنْ بين أساميه كما قالَ العلَّامةُ العينيُّ، ووقع هذه التَّسمية في عدَّة أحاديث صحيحة، فكان ما ذهب إليه ابن عبَّاسٍ مذهبًا تفرَّد به.
          ثمَّ لا يذهب عليك أنَّ الشُّرَّاح استشكلوا ذكر حجَّة الوداع هاهنا قبل غزوة تبوك، وجعلوا ذلك مِنْ تصرُّف النُّسَّاخ، كما سيأتي هناك، وفي «الفيض»: ولم يظهر لي وجه / تقديمها على غزوة تبوك مع كونها في السَّنة التاسعة وتلك في العاشرة. انتهى.
          والأوجَهُ عند هذا العبد الضَّعيف أنَّ المصنِّف ☼ قصد بذكر (3) [بذكرها] (4) هاهنا بعد الفراغ مِنْ بيان الوفود الإشارة إلى أنَّ سلسلة الوفود انجرَّت إلى حجَّة الوداع، ولذا لم يذكر بعدها وفدًا كما ترى، وأمَّا كونها بعد غزوة تبوك فكان معروفًا بين العامِّ والخاصِّ فلم يلتفت إلى ذلك، والله تعالى أعلم.
          ثمَّ إنِّ المصنِّف ذكر [في] (5) هذا الباب حديث ابن عمر سادس أحاديث الباب، قالَ القَسْطَلَّانيُّ تبعًا للحافظ: قد استُشكل دخول هذا الحديث في (باب: حجَّة الوداع) لأنَّ فيه التَّصريح بأنَّ القصَّة كانت عام الفَتْح، وعام الفَتْح كان سنة ثمانٍ وحَجَّة الوَدَاع كانت سنة عشر. انتهى.
          والعجب مِنَ العلَّامة العينيِّ إذ قال: مطابقته للتَّرجمة في قوله: (عام الفتح) لأنَّ حجَّة الإسلام كانت فيه، وهو حَجَّة الوداع (6). انتهى.
          ولم أتحصَّل ما قال.
          وكتب الشَّيخ قُدِّس سرُّه في «اللَّامع» بعد ذكر الإشكال والجواب: أنَّه إثبات لما اختلفوا فيه مِنْ دخوله في البيت يوم حجَّة الوداع فمِنْ مثبت لذلك ونافٍ له، فأورد هذا الحديث تنبيهًا على أنَّه إذا دخل البيت يوم الفتح ولم يكن سفره هذا لقصد زيارة البيت بل للجهاد والغزو فأَولى أن يكون دخله في الحجِّ لوقوع سفره هذا للبيت خاصَّة. انتهى.
          قلت: وهذا يقال له: الإثبات بالأولويَّة، وهو أصل مطَّرد مِنْ أصولِ التَّراجم.


[1] قوله: ((فبايعوا ثالثًا)) ليس في (المطبوع).
[2] في (المطبوع): ((الراجح عندي كما)).
[3] هكذا وردت في الأصل وما بين معقوفتين أوضح للسياق والله أعلم
[4] قوله: (([بذكرها])) ليس في المطبوع.
[5] في (المطبوع): ((تحت)).
[6] عمدة القاري:18/38