الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب حديث بنى النضير

          ░14▒ (باب: حَدِيثُ بَنِي النَّضِير)
          قال الحافظ: هم قبيلة كبيرة مِنَ اليهود، وقد مضت الإشارة إلى التَّعريف بهم في أوائل الكلام على أحاديث الهجرة، وكان الكفَّار بعد الهجرة مع النَّبيِّ صلعم على ثلاثة أقسام:
          قسم وادعهم على ألَّا يحاربوه ولا يُمَالئوا عليه عَدُوَّه، وهم طوائف اليهود الثَّلاثة قُرَيظة والنَّضِير وقَيْنُقَاع.
          وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة كقريش.
          وقسم تارَكُوه وانتظروا مَا يَؤُول إليه أمره كطوائف مِنَ العرب، فمنهم مَنْ كان يحبُّ ظُهُوره في الباطن كخُزَاعة، وبالعكس كبني بكر، ومنهم مَنْ كان معه ظاهرًا ومع عَدُوِّه باطنًا، وهم المنافقون، فكان أوَّل مَنْ نقض العهد مِنَ اليهود بنو قَيْنُقَاع، فحارَبَهم في شوَّالٍ بعد وقعة بدر، فنزلوا على حُكْمِه، وأرادَ قَتْلَهم، فاستوهبهم منه عبد الله بن أُبَيٍّ، وكانوا حلفاءه(1) فوهَبَهم له، وأخرجهم مِنَ المدينةِ إلى أَذْرِعات، ثمَّ نقض العهدَ بنو النَّضِير كما سيأتي، وكان رَئِيْسُهم حُيَيَّ بن أَخْطَب، ثمَّ نقَضَت قُرَيْظَة، كما سيأتي شرح حالهم بعد غزوة الخندق إن شاء الله تعالى. انتهى.
          ثم اعلم أنَّ الإمام البخاريَّ ☼ ذكر غزوة بني النَّضِير هاهنا بعد غزوة بَدْر، وعامة أهل السِّير ذكروها بعد أُحُد، فجمهور أهل السِّير على أنَّ قصَّتَهم كانت بعد بِئْر مَعُونة كما حكاه البخاريُّ عن ابن إسحاق، وبعضهم كعروة على أنَّ قِصَّتَهم إنَّما وقعت بعد بدر بستَّة أشهر، كما حكاه البخاريُّ عنه أوَّلًا، وذلك لأنَّهم اختلفوا في سبب هذه الغزوة ما هو؟ فالجمهور ومنهم ابن إسحاق ذكروا في سبب هذه الغزوة أنَّه خرج رسول الله صلعم إلى بني النَّضِير ليستعين بهم في دِيَة القتيلين اللَّذين قُتِلا بعد وقعة بئر مَعُونة، وكان بين بني النَّضير وبني عامر عقدٌ وحلف، فلمَّا أتاهم ╕ ليستعينهم في ديتها(2) قالوا: نعم، يا أبا القاسم، اجلس فنتشاور فيما جئتنا به، ثمَّ خلا بعضهم ببعض، فقالوا: إنَّكم لن تجدوه على مثل هذا الحال منفردًا ليس معه مِنْ أصحابه إلَّا نحو العشرة، فقالوا: مَنْ رَجل يعلو على هذا البيت فيُلقي هذه الصَّخرة عليه فيقتله ويُرِيحنا منه؟ وأتى رسولَ الله صلعم الخبرُ مِنَ السَّماء بما أراد القوم، فقام ╕، ورجع مسرعًا إلى المدينة.
          والسَّبب الآخر لهذه الغزوة ما روى ابن مَرْدَويهِ بسند صحيح عن الزُّهْريِّ أنَّه قال: كتب كفَّار قريش إلى عبد الله بن أُبَيٍّ وغَيرِه ممَّن يعبدُ الأوثَان قبل بدر يُهدِّدُونَهُم بإيْوَائِهِم النَّبيَّ صلعم وأصحابه، ويتَوَعَّدُونهم أن يغْزُوهم بجميع العرب إلى أن قال: فلمَّا كانت وَقْعَة بدرٍ كتب كفَّارُ قريش بعدها إلى اليهود أنَّكم أهل الحلقة والحُصُون يتَهَدَّدُونَهُم، فاجتمع بنو النَّضِير على الغدر، فأرسلوا إليه صلعم: اخْرُج إلينا في ثلاثة مِنْ أصحابك، ويلقاك ثلاثة مِنْ علمائنا... إلى آخر القصَّة.
          قال الحافظ: هذا أقوى ممَّا ذكر ابن إسحاق أنَّ سبب غزوة بني النَّضير ديةُ الرَّجلين، لكن وافق ابنَ إسحاق(3) جلُّ أهل المغازي. انتهى مختصرًا.
          فمَنْ قال بالسَّبب الأوَّل ذكرها بعد غزوة أُحد كما هو قول الجمهور، لأنَّ قصَّة بئر معونة كانت بعد أحدٍ بالاتِّفاق.
          ومَنْ قال بالسَّبب الثَّاني ذكرها بعد بدر، ومنهم عروة وإليه ميلُ البخاريِّ، لكن يشكل عليه أنَّ الإمام البخاريَّ ذكر بعد قولِه: (حَدِيثِ بَنِي النَّضِيرِ) قولَه: (وَمَخْرَجِ رَسُولِ اللَّهِ صلعم إِلَيْهِمْ فِي دِيَةِ الرَّجُلَيْنِ)، وهذا الخروج الَّذِي كان في قصَّة الدِّية كان بعد بئر معونة باتِّفاق المحدِّثين والمؤرِّخين، فكيف ذكره هاهنا بعد بدر؟ / اللَّهمَّ إلَّا أن يقال: إنَّه ذكره لكونه معروفًا فيما بين المؤرِّخين في سبب تلك الغزوة لا لأنَّه اختار بهذا(4) القول، ومِنْ دأب الإمام البخاريِّ أنَّه قد يذكر قولًا لكونه معروفًا فيما(5) بين العلماء مع أنَّه ليس مختارًا عنده، ويظهر هذا لمن أمعن النَّظر في كتابه، والله تعالى أعلم، والبسط في «هامش اللَّامع».


[1] في (المطبوع): ((خلفاء)).
[2] في (المطبوع): ((ديتهما)).
[3] في (المطبوع): ((لكن وافقه)).
[4] في (المطبوع): ((هذا)).
[5] قوله: ((فيما)) ليس في (المطبوع).