الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد كل أمة

          3486- 3487- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أي: المنقَريُّ، قال: (حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ) تصغيرُ: وهبٍ؛ أي: ابنُ خالدٍ، قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (ابْنُ طَاوُسٍ) هو: عبدُ اللهِ (عَنْ أَبِيهِ) أي: طاوسٍ (عَنْ أبي هُرَيْرَةَ) ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: نَحْنُ) أي: أنا وأمَّتي (الآخِرُونَ) بكسرِ الخاء؛ أي: المتأخِّرون في الدنيا (السَّابِقُونَ) أي: المتقدِّمون في الآخرة (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) أي: لِما منحَنا اللهُ بفضلِه من الكراماتِ (بَيْدَ) بفتحِ الموحدة أوله والدَّال المهملة آخره بينهما تحتية ساكنةٌ، بمعنى: غيرَ، يقالُ: فلانٌ كثيرُ المالِ بيدَ أنَّه بخيلٌ، أو بمعنى: من أجْلِ، أو: إلَّا، أو: لكن، فإنها تجيءُ بهذه المعاني، وقد تُبدَلُ باؤها ميماً، وقال ابنُ مالكٍ: المختارُ عندي في: ((بَيدَ)) أن تُجعلَ حرفَ استثناءٍ بمعنى: لكن؛ لأنَّ معنى: إلا، مفهومٌ منها.
          وقال الخطَّابيُّ: كأنَّه استثنى لهم هذه الفضيلةَ الخاصةَ؛ وهو إيتاءُ الكتابِ لهم أولاً، والكثيرُ استعمالُها متلوَّةً بأنَّ، كما في روايةِ: ((بَيْدَ أنَّهم))، وكقولِ الشاعرِ:
بَيدَ أنَّ اللهَ قد فضَّلَكم
          بل قال ابنُ هشامٍ بلزومِ إضافتِها إلى: ((أن)) وصِلتِها، ورُدَّ بقولِه هنا: ((بيْدَ)).
          (كُلُّ أُمَّةٍ أُوتُوا الْكِتَابَ) أي: جِنسَه (مِنْ قَبْلِنَا، وَأُوتِينَا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي: كتابَنا؛ وهو القرآنُ، وأُجيبَ عن هذه الروايةِ بأنَّ الأصلَ: بَيدَ أنَّ كلَّ أمَّةٍ، فحُذفَت: ((أنَّ)) وبطَلَ عملُها، فجُرَّ ما بعدَها، وقد يُرفعُ كقولِ الزُّبيرِ ☺:
ولولا بنُوها حَولَها لَخبطتُها                     كخَبطةِ عصفُورٍ ولم أتلعثَمِ
          وحُذفت: أنَّ المشدَّدةِ قياساً على أنِ المخفَّفةِ في قولِه تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُريْكُمُ البَرْقَ خَوْفَاً وَطَمَعَاً} [الروم:24]؛ لأنَّهما أختانِ في الحرفيَّةِ والمصدريَّةِ، والحديثُ _كما قال الطِّيبيُّ وغيرُه_ من بابِ تأكيدِ المدحِ بما يُشبهُ الذَّمَّ، إذ المعنى: نحن السابقون يومَ القيامةِ بما لنا من الفضائلِ والخصائصِ، غيرَ أنَّ كلَّ أمَّةٍ أوتوا الكتابَ من قبلِنا، على حدِّ قولِه:
ولا عيبَ فيهم غيرَ أنَّ سيوفَهم                      بهنَّ فُلولٌ من قِراعِ الكتائبِ
          وقولِ النابغةِ:
قد كمُلتْ أخلاقُه غيرَ أنَّه                      جوادٌ فما يُبقي من المالِ باقياً /
          (فَهَذَا) أي: يومُ الجمعةِ (الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيْهِ) بإثباتِ لفظِ: ((فيه)) لأبي ذرٍّ وحدَه، واختلافُهم في ذلك اليومِ بأنْ قال بعضُهم: يلزمُ تعظيمُه بعينِه، وقال بعضُهم: لا يلزمُ، فيسُوغُ إبدالُه بغيرِه، فاجتهدوا فيه فأخطؤُوا، فاختارتِ اليهودُ السبتَ، والنصارى الأحدَ، وهو المشارُ إليه بقولِه: (فغداً) بالتنوين؛ أي: السبتُ لليهودِ (وَبَعْدَ غَدٍ) أي: الأحدُ للنصارى.
          وقال العينيُّ: معنى اختلافِهم فيه أنَّه فُرضَ يومٌ يجتمِعون فيه للعبادةِ، ووُكلَ إلى اختيارِهم، فمالتِ اليهودُ للسبتِ، والنَّصَارى للأحدِ، وهدانا اللهُ إلى يومِ الجمُعةِ الذي هو أفضلُ الأيامِ، انتهى.
          وقوله: (عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، يَوْمٌ يَغْسِلُ) بكسرِ السين (رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ) مستأنَفٌ لبيانِ أنَّه يطلُبُ لنا معشَرَ المسلمين أن نغتسِلَ في كلِّ أسبوع يومَ الجمُعةِ لحضورِ صلاتِها، فقولُه: ((يومٌ)) أي: من السبعةِ، وجملةُ: ((يغسِلُ... إلخ)) صفةُ: ((يومٌ)) الواقعِ مبتدأً، أو فاعلُ الظرفِ على رأيٍ، والعائدُ محذوفٌ؛ أي: فيه، وعطفُ الجسدِ على الرأسِ من عطفِ العامِّ على الخاصِّ، والتنصيصُ على الرأسِ لمزيدِ التأكيدِ.
          وظاهرُ الحديثِ يقتضي وجوبَ الغُسلِ؛ كحديثِ: ((غُسلُ الجمُعةِ واجبٌ على كلِّ محتلِمٍ))، وبه قالَ مالكٌ، فهو محمولٌ عند الجمهورِ على التأكيدِ، ولا يجِبُ لحديثِ التِّرمذيِّ وحسَّنَه: ((مَن توضَّأَ يومَ الجمُعةِ فبها ونِعمَتْ، ومنِ اغتسَلَ فالغُسلُ أفضلُ)) وقد قال الشافعيُّ: ما تركتُ غُسلَ الجمُعةِ حضَراً ولا سفَراً.
          وسبقَ الحديثُ في أوائلِ كتابِ الجمعةِ مع الكلامِ عليه بأبسطَ.