الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها نساؤهم

          3468-وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) بفتح الميم واللام؛ أي: القعنَبيُّ المدنيُّ (عَنْ مَالِكٍ) أي: ابنِ أنسٍ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) أي: محمد بنِ مسلمٍ الزُّهريِّ (عَنْ حُمَيْدِ) بالتصغير (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) أي: ابنِ عوفٍ (أنَّه سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أبي سُفْيَانَ) هو: صخرُ بنُ حربِ بنِ أميةَ الأمويُّ، أسلمَ قبلَ الفتحِ، وكان من كُتَّابِ الوحيِ (عَامَ حَجَّ) بنصبِ: ((عامَ)) على أنَّه ظرفٌ لـ((سمِعَ))، وهو مُضافٌ لجملةِ: ((حَجَّ)) الماضَويةِ، وكان سنةَ إحدى وخمسين، وهي آخرُ حَجَّةٍ حَجَّها في خلافتِه.
          (عَلَى المِنْبَرِ) أي: منبرِ رسولِ اللهِ صلعم (فَتَنَاوَلَ) أي: حين خرَجَ كما عبر به في حديثٍ (قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ) ((القُصَّةُ)) بضم القاف وتشديد الصاد المهملة فهاء تأنيث، وهي: شَعرُ الناصيةِ، والمرادُ هنا: قطعةٌ من شعْرٍ، من: قصَصتُ الشعرَ: قطَعتُه.
          وجملة: (كَانَتْ فِي يَدِ حَرَسِيٍّ) في موضعِ الصفةِ الثانيةِ لـ((قُصةً))، أو حالٌ، وفي بعضِ الأصُولِ: <وكانت> بالواو على أنَّها حالٌ، ونسبَ هذه القسطلانيُّ لغيرِ أبوَي ذرٍّ والوقتِ، وقولُهُ: <في يدَي> بالتثنيةِ للأكثرِ، ولأبي ذرٍّ بالإفرادِ، و((حَرَسِيٍّ)) بفتح الحاء المهملة والراء وسين مهملة فتحتية مشددة، لم يُسمَّ.
          قال البرماويُّ كالكرمانيِّ: هو واحدُ الحرَّاسِ الذين يحرُسُون السُّلطانَ، لكن لمَّا صارَ اسمَ جنسٍ نُسبَ إليه، ولا تقُلْ: حارسٍ، إلَّا أن تذهبَ به إلى معنى الحراسةِ دونَ الجنسِ، ويُطلقُ الحرَسيُّ ويُرادُ به الجنسُ، انتهى.
          ويُجمعُ حارسٌ المذكورُ، وكذا الحرَسيُّ على حُرَّاسٍ _بضم الحاء وتشديد الراء بعدها ألف_، ففي ((المصباح)): حَرَسَه _من بابَي: قتلَ وضربَ_، وحَفِظَه، والاسمُ: الحِراسةُ، فهو: حارسٌ، والجمعُ: حرَسٌ وحُرَّاسٌ.
          (فَقَالَ) أي: معاويةُ ☺ (يَا أَهْلَ المَدِينَةِ، أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟) أي: فقهاؤكُم، سؤالُ إنكارٍ لتوبيخِهِم على عدمِ إنكارِ المنكَرِ، وغفلتِهم عن إنكارِ المنكَرِ.
          قال في ((الفتح)): فيه إشارةٌ إلى أنَّ العلماءَ إذ ذاك فيهم كانوا قد قلُّوا؛ لأنَّ غالبَ الصحابةِ كانوا ماتُوا، قال: وكأنَّه رأى جُهَّالَ عوامِّهم صنعُوا ذلك، فأراد أن يذكِّرَ علماءَهم ويؤنِّبَهم بما تركُوه من إنكارِ ذلك.
          قال: ويحتمِلُ أن يكونَ تَركُ مَن بقيَ من الصحابةِ ومن أكابرِ التابعين الإنكارَ حينئذٍ لاعتقادِهِم عدَمَ التحريمِ ممن بلغَه الخبرُ، وحملُوه على كراهةِ التَّنزيهِ، أو لأنَّهم خافوا من سَطوةِ الأمراءِ في ذلك الزمانِ، أو لأنَّهم لم يبلُغْهم الخبرُ أصلاً، أو بلغَ بعضَهم لكن لم يتذكَّرُوه حتى ذكَّرَهم به معاويةُ.
          قال: فكلُّ هذه أعذارٌ ممكنةٌ لمَن كان موجوداً من العلماءِ، ولعلَّ ذلك كان في خُطبةِ غيرِ الجمُعةِ؛ أي: أو فيها، ولم يتَّفِقْ أن يحضُرَه إلا مَن ليس من أهلِ العلمِ، فلذا قال: ((أين علماؤكم))؛ لأنَّ الإنكارَ لا يتوجَّهُ إلا على مَن عَلِمَ بالحُكمِ وأقرَّه، انتهى ملخصاً.
          ويجوزُ أن يكونَ إنكارُه عليهم مع حضورِهم، لكن لم يُخاطِبْهم لنُكتةٍ.
          (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَنْهَى) بفتح التحتية أوله والهاء (عَنْ مِثْلِ هَذِهِ؟) أي: القُصَّةِ؛ / أي: عن فعلِها وفعلِ أمثالِها (وَيَقُولُ) عطفٌ على: ((ينهى))، ففاعلُه ضميرُ: ((النبيَّ)) عليه السلامُ (إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ) أي: جماعتَهم، فلذا أنَّثَ الفعلَ (حِينَ اتَّخَذَهَا) أي: ((القُصَّةَ)) ولأبي ذرٍّ: <حين اتخذَ هذه> باسمِ الإشارةِ والضميرِ (نِسَاؤُهُمْ) أي: وصلْنَ بها شعورَهنَّ للزينةِ، والغرضُ: نهيُ النساءِ عن وصلِ شعرِهنَّ بمثلِه، ولا سيَّما إذا كان من شعرِ أجنبيةٍ.
          قال القاضي عياضٌ: يحتمِلُ أنَّه كان محرَّماً على بني إسرائيلَ، فعُوقِبُوا بفعلِه، فصار سبباً لهلاكِهم، ويحتمِلُ أنَّ الهلاكَ كان به وبغيرِه من المعاصي.
          وفيه: معاقبةُ العامَّةِ بظهورِ المنكَرِ فيهم، وفيه المطابقةُ بالتحديثِ عن بني إسرائيلَ.
          وأخرجَه المصنِّفُ في اللباسِ، وكذا مسلمٌ، وأخرجه أبو داودَ في التَّرجُّلِ، والترمذيُّ في الاستئذانِ، والنسائيُّ في الزينةِ.