الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد}

          ░12▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ): وفي بعضِ الأصُولِ: <باب قوله تعالى>، وفي بعضِ آخر: <باب قول الله ╡> أي: في أثناء سورة مريم ({وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ}): أي: في القرآن ({إِسْمَاعِيلَ}): أي: ابن إبراهيمَ الخليل عليهما الصَّلاة والتَّسليم، جد نبيِّنا الرَّؤوف الرَّحيم، وتقدَّم بقيَّة نسبه في أبيه، وهو كأبيه ممنوعٌ من الصَّرف للعلميَّة والعجمة، وفيه لغاتٌ منها أنَّه يقال فيه: إسماعين، بإبدال اللَّام نوناً ككلِّ أعجميٍّ آخره لام.
          ({إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54]): قال البيضَاويُّ: ذكره بذلك؛ لأنَّه المشهور به الموصوف بأشياء في هذا الباب لم تُعهَد من غيره، وناهيك أنَّه وعد بالصَّبر على الذَّبح فقال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] فوفَّى، وقال البغويُّ: قال مجاهدٌ: لم يَعِد شيئاً إلَّا وفَّى به، وقال مقاتلٌ: وعد رجلاً أن يُقيم مكانه حتَّى يرجع إليه الرَّجل، فأقام إسماعيلُ مكانه ثلاثة أيَّامٍ للميعاد حتَّى رجع إليه الرَّجل، وقال الكلبيُّ: انتظره حتَّى حال عليه الحولُ.
          وقال العينيُّ: قال المفسِّرون: كان بينه وبين رجلٍ ميعادٌ، فأقام ينتظره مدَّةً، قال: واختلفوا في تلك المدَّة، فقيل: كانت حَولاً حتَّى أتاه جبريل عليه السَّلام، فقال له: إنَّ الفاجر الذي وعدتَه بالقعود إبليس عليه اللَّعنة، وقال ابن جريجٍ: لم يَعِد ربَّه عِدَةً إلَّا أنجزها، قال ابن كثيرٍ: يعني: ما التزم عبادةً قطُّ بنذرٍ إلَّا قام بها ووفاها حقَّها، وروى ابن جريرٍ عن سهل بن عقيلٍ: أنَّ إسماعيل / وعدَ رجلاً مكاناً أن يأتيَه، فجاء ونسي الرَّجل، فظلَّ به إسماعيل وبات حتَّى جاء الرَّجل من الغد، فقال: ما برحت من هاهنا؟ قال: لا، قال: إنِّي نسيتُ، قال: لم أكن لأبرح حتَّى تأتيَني، فلذلك {كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}، وقال ابن شوذب: بلغني أنَّه اتَّخذ ذلك المكان مسكناً، وكان إسماعيلُ رسولاً نبيًّا، كما في قوله تعالى له كان رسولاً إلى جرهُم مخبراً لهم عن الله تعالى.
          وقال البيضاويُّ: يدلُّ على أنَّ الرَّسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعةٍ، فإنَّ أولاد إبراهيم كانوا على شريعته، {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم:55]، قال البغويُّ: {أَهْلَهُ} أي: قومه، وقيل: جميع أمَّته، فيبين أنَّ الله تعالى افترضها عليهم، وهي الحنيفيَّة التي افتُرضت علينا، انتهى، وقال البيضاويُّ: {كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ} اشتغالاً بالأهمِّ، وهو أن يُقبِل الرَّجل على نفسه ومن هو أقرب النَّاس إليه بالتَّكميل، قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} [طه:132]، {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم:6].
          وقيل: {أَهْلَهُ}: أمَّته، فإنَّ الأنبياء آباء الأمم، {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} [مريم:55]، قال البيضاويُّ: لاستقامة أحواله وأقواله وأفعاله، وقال البغويُّ: {مَرْضِيًّا}: قائماً لله بطاعته، وقيلَ: رضيه الله لنبوَّته ورسالته.