الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون

          3477- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عُمَرُ) بضمِّ العينِ (ابْنُ حَفْصٍ) قالَ: (حَدَّثَنَا أَبِي) قالَ: (حَدَّثَنِي) بالإفرادِ (شَقِيقٌ) بفتحِ الشِّين المعجمةِ؛ أي: ابنُ سلَمةَ (قَالَ عَبْدُ اللَّهِ) أي: ابنُ مسعودٍ ☺ (كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صلعم يَحْكِي) بسكونِ الحاءِ المهملةِ وكسرِ الكافِ؛ يعني: يذكرُ (نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ) بفتحِ الميم، وجملةُ: (وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ) حاليةٌ، وجملةُ: (وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ) معطوفةٌ على: ((يمسَحُ))، وسقطَ لفظُ: <اللَّهمَّ> لغيرِ الكُشميهنيِّ.
          قال في ((الفتح)): لم أقِفْ على اسمِ هذا النَّبيِّ صَريحاً، ويحتمِلُ أنَّهُ نوحٌ عليه السَّلامُ، فقد ذكرَ ابنُ إسحاقَ في ((المبتدأ))، وأخرجَه ابنُ أبي حاتمٍ من طريقِ ابنِ إسحاقَ قال: حدَّثَني مَن لا أتَّهمُ، عن عُبيدِ بنِ عُميرٍ اللَّيثيِّ أنَّهُ بلَغَه أنَّ قومَ نوحٍ كانُوا يبطِشُون به، فيخنُقونَه حتَّى يغشَى عليه، فإذا أفاقَ قال: اللَّهمَّ اغفِرْ لقومِي، فإنَّهُم لا يعلمُون، قال: فإن صحَّ ذلك كانَ في ابتداءِ الأمرِ، ثم لمَّا يئسَ منهم قال: {رَبِّ لَا تَذِرْ عَلَىْ الْأَرْضِ مِنَ الكَافِرِيْنَ دَيَّارَاً} [نوح:26].
          قال: وذكرَ مسلمٌ بعد تخريجِ هذا الحديثِ حديثَ أنَّه عليه السَّلام قالَ في قصَّةِ أُحدٍ: ((كيف يفلِحُ قومٌ دمَوا وجهَ نبيِّهم؟)) فأنزلَ اللهُ تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، ومن ثمَّ قال القرطبيُّ: إنَّ النبيَّ صلعم هو الحاكِي والمحكيُّ عنه، قال: وإنَّه أُوحيَ إليه بذلك قبلَ وقُوعِ القصَّةِ، انتهى.
          وقال النوويُّ: هذا النَّبيُّ الذي جرَى له ما حكاه النَّبيُّ من المتقدِّمين، وقد جرَى له يومَ أُحدٍ نحوُ ذلك لمَّا شُجَّ وجهُه الشريفُ، انتهى.
          وعلى كلٍّ؛ فذِكرُ هذا الحديثِ تسليةً له وتطييباً لقلوبِ أصحابِه، لكن يعكِّرُ على كونِه نوحاً أو نبيَّنا أو أنَّه من المتقدِّمين أنَّه لا يبقَى فيه مطابقةٌ للترجمةِ، فلو قيل: الظَّاهرُ أنَّه نبيٌّ من بني إسرائيلَ، وفي ((مسندِ أحمدَ)) عن أبي وائلٍ أنَّ هذا قالَه عليه السَّلامُ لمَّا قسمَ غنائمَ حُنينٍ بالجعِرَّانةِ، فازدحمُوا عليه، فقال: ((إنَّ عبداً من عبادِ الله بعثَه اللهُ إلى قومِه، فكذَّبُوه وشجُّوه، فجعلَ يمسَحُ الدَّمَ على جبينِه ويقولُ: ربِّ اغفِرْ لقومي فإنَّهم لا يعلمون)).
          وقولُ عبدِ اللهِ: ((وكأنِّي أنظرُ إلى رسولِ الله صلعم يمسحُ جبهتَهُ يحكي الرجلَ)) لا يلزَمُ منه أن يكونَ نبيُّنا مسَحَ جبهتَه أيضاً، بل الظَّاهرُ أنَّه حكَى صفةَ مسحِ جبهتِهِ خاصَّةً، كما مسَحَها ذلك النَّبيُّ عليه السَّلامُ، قال: وبذلكَ يظهرُ فسَادُ ما زعمَه القُرطبيُّ، انتهى ملخَّصاً من ((الفتحِ))، فتأمَّله.
          وهذا الحديثُ أخرجَه المصنفُ في استِتابةِ المرتدِّين، ومسلمٌ في المغازِي، وابنُ ماجه في الفتنِ.