الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {يزفون}: النسلان في المشي

          ░9▒ (باب {يَزِفُّونَ}: النَّسْلَانُ فِي الْمَشْيِ): أرادَ تفسير ({يَزِفُّونَ}): في سورةِ الصَّافَّات من قوله تعالى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيهِ يَزِفُّونَ}، وضمير: {إِلَيهِ} لإبراهيم، و{يَزِفُّونَ} بفتح التحتيَّة وكسر الزَّاي وتشديد الفاء، فسَّره البخاريُّ بقوله: ((النسلان في المشي))، وفيه تجوُّزٌ حيث فسَّر الفعل بالمصدر، لكنَّ مراده تفسير الزَّفيف مصدر: {يَزِفُّونَ}، وهو مصدر زفَّه، ومثله: الوزيفُ، مصدر وزف، و((النَّسلَان)) بفتح النُّون وسكون السِّين المهملة فلام فألف فنون: / الإسراعُ في المشِي.
          وجملة: {يَزِفُّونَ} حالٌ من واو {وَأَقْبَلُوا}، وقال البيضاويُّ: {يَزِفُّونَ} أي: يُسرعون، من زفيف النَّعام، وقرأ حمزة: {يُزِفُّون} على بناء المعلوم من أزفه؛ أي: يحملون على الزَّفيف، وقُرئ: ▬يُزَفُّون↨ أي: يزفُّ بعضهم بعضاً، و▬يَزِفُون↨ من وَزَف يَزِف إذا أسرع، و▬يَزْفُون↨ من زفَاهُ: إذا حدَاه، كأنَّ بعضَهم يزفُّ بعضاً لتسَارعِهِم إليه، انتهى.
          واعلمْ أنَّ في النُّسخِ هنا اختلافاً، قال شيخُ الإسلامِ: هذه التَّرجمةُ ساقِطةٌ من نسخةٍ، فالبابُ كالفصلِ من سابقِهِ، وفي أخرَى: <بابُ قولِ اللهِ تعالى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيهِ يَزِفُّونَ}>، انتهى، وقال القسطلانيُّ: وقعَ في فرع ((اليونينيَّةِ)) علامةُ سقوطِ البابِ لأبي ذرٍّ، وثبوتُ ما بعدَه للحمويِّ والكشميهنيِّ، وثبوتُ كلٍّ لابنِ عسَاكرَ، وقال الحافظُ ابنُ حجرٍ: سقطَ ذلك من رواية النَّسفيِّ، وثبتَ في روايةِ المستمليِّ والبَاقين: <باب> بغيرِ ترجمةٍ، قال: ووهمَ من وقعَ عندَه: <باب: {يَزِفُّونَ}: النسلان في المشي> فإنَّه كلامٌ لا معنَى له، قال: والَّذي يظهرُ ترجيحُ ما وقعَ عندَ المستمليِّ؛ لأنَّ ((باب)) بغيرِ ترجمةٍ كالفصْلِ من سابقِهِ، وتعلُّقُه بما قبلَه واضحٌ؛ لأنَّ الكلَّ من ترجمةِ إبراهيم، انتهى.
          واعترضَه العينيُّ في قوله: ووهم...إلخ فقالَ: بل له معنًى جيِّدٌ؛ لأنَّ قوله: ((باب)) كالفصْلِ، فلا يحتَاجُ إلى التَّرجمةِ؛ لأنَّه من البابِ السَّابقِ، انتهى فليُتأمَّل، ثمَّ قالَ في ((الفتح)): وأمَّا تفسيرُ هذه الكلمةِ من القرآنِ، فإنَّها من جملةِ قصَّة إبراهيمَ معَ قومِه حين كسرَ أصنامَهُم، قالَ تعالى: {فَأَقْبَلُوا إِلَيهِ يَزِفُّونَ}، قال مجاهدٌ: الوزيفُ: النَّسلان، أخرجَهُ الطَّبرانيُّ وابنُ أبي حاتمٍ.
          وروى ابنُ أبي حاتمٍ من طريق السدِّيِّ قال: رجعَ إبراهيمُ عليه السَّلام إلى آلهتهِم، فإذا هي في بهوٍ عظيمٍ، مستقبل باب البهو صنمٌ عظيمٌ، إلى جنبهِ أصغرُ منه بعضها إلى جنبِ بعضٍ، فإذا هم قد جعلوا طعاماً بين يدَي الأصنامِ، وقالوا: إذا رجعْنَا وجدْنَا الآلهةَ برَّكتْ في طعَامنَا فأكلنَا، فلمَّا نظرَ إليهم إبراهيمُ قال: ألَا تأكلونَ؟ ما لكُم لا تنطقُونَ؟ فأخذَ حديدةً، فبقرَ كلَّ صنمٍ في حافتيهِ، ثمَّ علَّقَ الفأسَ في الصَّنمِ الأكبرِ، ثمَّ خرجَ، فلمَّا رجعُوا جمعُوا لإبراهيمَ الحطَبَ، حتَّى إنَّ المرأةَ لتمرضُ فتقولُ: لئنْ عافَاني اللهُ لأجمعنَّ لإبراهيمَ الحطبَ، فلمَّا جمعُوا له وأكثَرُوا من الحطَبِ وأرادُوا إحراقَهُ، قالَتْ السَّماءُ والأرضُ والجبالُ والملائكةُ: ربَّنا خليلكُ إبراهيمُ يُحرَقُ، قال: أنا أعلمُ بهِ، وإن دعَاكُم فأغيثُوهُ، فقال إبراهيمُ: اللَّهمَّ أنتَ الواحدُ في السَّماءِ، وأنا الواحدُ في الأرضِ، ليسَ أحدٌ في الأرضِ يعبدُكَ غيرِي، حسبي الله ونعم الوكيل، انتهى.
          قال: وأظنُّ البخاريَّ _إن كانت التَّرجمة محفوظةً_ أشارَ إلى هذا القدرِ، فإنَّه يُناسبُ قولهم في حديثِ الشَّفاعة: ((أنتَ خليلُ اللهِ من الأرضِ))، انتهى كلامُ ((الفتح))، فليُتأمَّل.