الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قصة إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام

          ░13▒ (قِصَّةُ إِسْحاقَ بْنِ إِبْراهِيمَ النَّبِيِّ صلعم): كذا لأبي ذرٍّ، وثبتَ لغيرِهِ: <باب قصَّة إسحاقَ بنِ إبراهيمَ عليهما السَّلام>.
          قال في ((الفتح)): ذكرَ ابنُ إسحاق أنَّ هاجر لمَّا حملت بإسماعيلَ غارَتْ سارةُ، فحملَتْ بإسحاقَ، فوضعتَا معاً، فشبَّ الغلامانُ، / قال: ونُقِل عن بعضِ أهلِ الكتابِ خلافُ ذلك، وأنَّ بينَ مولدَيهما ثلاث عشرة سنةً، والأوَّل أَولى، انتهى، أي: وإنَّ إسماعيل وُلد قبلُ، وقد يُقال: صنيع البخاريِّ يميلُ إلى ترجيحِ الثَّاني، وأنَّ إسماعيل هو أكبرُ من إسحاق، وبذلكَ صرَّح النوويُّ في ((التَّهذيب))، فليُتأمَّل.
          قال ابنُ الجوزيِّ: عاش إسحاق مائةً وثمانين سنةً، وقال غيره: مائة وخمساً وثمانين، كذا في ((المنحة))، ولم أرَ مَن تعرَّضَ هنا لعمر إسماعيل، وقدَّمنا في أوَّل بدء الوحِي أنَّ إسماعيل عاش مائةً وسبعة وثلاثين سنةً، وأنَّ إسحاق عاش مائةً وثمانين سنةً، وأنَّ إسماعيل أكبر أولاد إبراهيم عليهم السَّلام أجمعين.
          (فِيهِ): أي: في الباب (ابْنُ عُمَرَ): أي: حديث عبدِ الله بن عُمر بن الخطَّاب ☺ (وَأَبُو هُرَيْرَةَ): أي: حديثه ☺ (عَنِ النَّبِيِّ صلعم)، قال في ((الفتح)): كأنَّه يُشير بحديث ابن عُمر إلى ما سيأتي في قصَّة يوسف، وبحديثِ أبي هريرةَ إلى الحديثِ المذكورِ في البابِ الذي يَليهِ، قال: وأغربَ ابنُ التِّين فقال: لم يقفِ البخاريُّ على سندِه فأرسلَهُ، انتهى.
          قال: وهو كلامُ مَن لم يفهمْ مقاصدَ البخاريِّ، ونحوه قول الكرمانيِّ: قوله: ((فيه)) أي: في الباب حديثٌ من رواية ابن عُمر في قصَّة إسحاق بن إبراهيم عليهما السَّلام، فأشار البخاريُّ إليه إجمالاً ولم يذكره بعينه؛ لأنَّه لم يكن على شرطه، انتهى، قال: وليس الأمر كذلك لِما بيَّنته، وتعقَّبه العينيُّ فقال: هذه مناقشةٌ باردة؛ لأنَّ كلَّ من له أدنى فهمٍ يفهم أنَّ ما قاله ابن التِّين والكرمانيُّ هو الكلام الواقع في محلِّه، وكلاهما أوجه من كلامه المشتمل على التردُّد في قوله: كأنَّه يشير... إلى آخره، فلينظر المتأمِّل الحاذق في حديث ابن عُمر الذي في قصَّة يوسف، هل يجد لِما ذكره من الإشارة إليه وجهاً قريباً أو بعيداً؟
          وأجاب الحافظ ابن حجرٍ في ((الانتقاض)) بأنَّه لمَّا أورد في آخر قصَّة يوسف حديث ابن عُمر: ((الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسفُ بن يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيم))، وكأنَّ معناه: أنَّ جملة قصَّته أنَّه من أنبياء الله، وأن النَّبيَّ صلعم ساوى بينَه وبينَ مَن ذكر مِن آبائهِ في صفةِ الكريمِ، فأشارَ إلى ذلك في قصَّة والدهِ للتَّسويةِ المذكورة، وأمَّا حديث أبي هريرةَ الذي في البابِ الذي يليهِ، فإنَّه يشتملُ على ما تضمَّنه حديث ابنِ عُمر مع بيان سبب الحديثِ وغير ذلك من الزِّيادة فيه، وإنَّما قال في حقِّ ابن التِّين: إنَّ كلامه يقتضي أنَّه ما فهم مقصد البخاريِّ؛ لأنَّه ادَّعى وجود حديثٍ يتعلَّق بقصَّة إسحاق بن إبراهيم ووجده البخاريُّ، ولم يقف على سندِهِ فذكره مرسلاً، وليس هذه طريقة البخاريِّ أنَّه يعتمد على حديثٍ لم يقف على إسناده، قال: وأمَّا الكرمانيُّ فقوله أقرب من قول ابن التِّين؛ لأنَّه يقتضي إثبات وجود الحديث بسنده ومَتنه، لكنَّه ليس على شرط البخاريِّ فلذلك علَّقه، ولكنَّه لم يطَّرد ذلك من صنيعه؛ لأنَّه لا يقتصر في التَّعليق على ما لم يكن بشرطه، بل تارةً يكون بشرطه ويكون قد ذكره في مكانٍ آخر، وتارةً لا يوجد إلَّا معلَّقاً وإن كان بشرطه، وتارةً لا يكون على شرطه، انتهى.
          وإذا تأمَّلته أدنى تأمُّلٍ ظهر لك أنَّ اعتراض العينيِّ غير واردٍ، وأنَّه من قبيل ابن التِّين، فتأمَّله بإنصاف.