الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {واذكر في الكتاب موسى}

          ░21▒ (بَابُ): بلا تنوين ((باب)) لإضافتهِ إلى قولِ الله، ولا داعِي لقول القسطلانيِّ ((بابٌ)) بالتَّنوين، مع أنَّ بعدَه في نسخةٍ لفظ: <قول الله>، وسقطَ لفظ: <باب> فقط لأبي ذرٍّ، وثبتَ ما بعدَه إلى قوله: <{نَجِيًّا}>.
          وجملة: ({وَاذْكُرْ...}): إلخ مقول ((قول))، وهذه الآيات الثَّلاثة في أثناءِ سورة مريم ثابتةٌ مع لفظ: <باب> لكريمةَ ({فِي الكِتَابِ}): أي: في القرآنِ ({مُوسَى}): هو ابنُ عمران بن يصهر بن ماهت بن لاوى بن يعقوب بن إسحاقَ بن إبراهيم خليل الرَّحمن، وعمرانُ والد موسى غير عمران والد مريم أمِّ عيسى، فإنَّه متأخِّرٌ، وكان بين العمرانين ألفٌ وثمانمائة سنةٍ، كما قاله البيضاويُّ، وقال القسطلانيُّ تبعاً لـ((الفتح)): هو ابنُ عمران بن لاهب بن عازر بن لاوى بن يعقوب.
          وقال في ((الفتح)): روى السدِّيُّ بأسانيدِهِ: أنَّ بدء أمر موسَى أنَّ فرعون رأى كأنَّ ناراً أقبلَتْ من بيت المقدِس، فأحرقَتْ دُور مصر وجميعَ القبط إلَّا دور بني إسرائيل، فلمَّا استيقظ جمع الكهنة والسَّحَرة، فقالوا: هذا غلامٌ يُولَد من هؤلاء يكون خَراب مصر على يده، فأمر بقتل الغِلمان، فلمَّا ولد موسى أوحى الله إلى أمِّه: أن أرضعيه، فإذا خِفت عليه فألقيه في اليمِّ، قالوا: وكانت تُرضِعه، فإذا خافت عليه شيئاً جعلته في تابوتٍ وألقته في اليمِّ، وجعلت الحبل عندها، فنسيت الحبل يوماً، فجرى به النِّيل حتَّى وقفَ على باب فرعونَ، فالتقطَه / الجواري، فأحضروهُ عند امرأتهِ، ففتحَتِ التَّابوت فرأتْه فأعجبَها، فاستوهبتْهُ من فرعون فوهبَه لها فربَّته، حتَّى كان من أمرِه ما كان.
          وعبارةُ العينيِّ في ((تاريخه)): هو مُوسى بنُ عمران بنِ قاهت بنِ لاوى بنِ يعقُوبَ بنِ إسحاق بنِ إبراهيمَ عليهم السَّلام، هكذا ذكرَ في ((المرآة)) و((تاريخ ابن كثير)) و((النويريِّ))، ولم يذكروا: يصهر، ولكن زادَ ابنُ كثيرٍ والنُّويريُّ: عاذر بعد قاهت.
          وقال الثَّعلبيُّ: وُلِد ليعقوب عليه السَّلام لاوى، وقد مضَى له من عمرهِ تسعٌ وثمانون سنةً، ثمَّ إنَّ لاوى نكحَ نابتة بنت بادي بن ليخر، فولدَتْ له عرسون ومرزي وقاهت، وذلك بعدَ أن مضَى من عمرِهِ ستٌّ وأربعون سنةً، ونكح قاهت بن لاوى ناهي بنت مبنين بن بنويل بن ليان، وولدَتْ له يصهر، فتزوَّج يصهر بن قاهت شميثَ بنت تناويب بن بركيا بن يغشار بن إبراهيم، فولدَتْ له هارون وموسَى عليهما السَّلام، وقيل: اسم أمِّهما ناجيةٌ، وقيل: أباذخت، وقال السُّهيليُّ: أباذخا، وقال ابنُ إسحاق: تجيبُ، وقال الثَّعلبيُّ: لوخايد، وهو المشهور.
          وولِد موسى وقد مضَى من عمر عمران سبعونَ سنةً، وجميع عمر عمران مائةٌ وسبعٌ وثلاثون سنةً، وكان هارون أسنَّ منه بثلاث سنين، وكانَتْ مريمُ بنت عمران أختهما أسنَّ منهما، وكانَتْ تحتَ كالب بن يوقنا بن فارص بن يهودا بن يعقوبَ عليهما السَّلام، وكانَ في أرنبةِ أنفِ موسى شامةٌ، وكذلك على طرفِ لسَانهِ شامةٌ، وهي العقدةُ التي ذكرها الله تعالى في قوله: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:27].
          وقال ابنُ قتيبةَ في ((المعارفِ)): ولا يُعرَف أحدٌ قبله ولا بعدَه على طرفِ لسَانه شامةٌ غيره، قال: وكانَ في وجهِ أخيهِ هارون شامةٌ، وكان هارون أخاهُ لأبيه وأمِّه، وقال ابنُ عبَّاسٍ: مات موسَى وهارون ولم يَريَا الشَّيبَ، وكان بين موسَى وإبراهيم عليهما الصَّلاة والسَّلام ألف سنةٍ، انتهى.
          ({إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصًا}): بكسر اللَّام؛ أي: موحِّداً أخلصَ عبادتَهُ لله عن الشِّرك والرِّياء، أو مسلماً وجهه لله مخلصاً نفسه عمَّا سواهُ، وروى الثَّوريُّ عن أبي أمامةَ: قال الحواريُّون: يا روحَ الله، أخبِرنَا عن المخلِص لله، قال: الذي يعملُ لله، لا يحبُّ أن يحمدَه النَّاس، وقرأَ الكوفيُّون بفتح اللَّام على أنَّ الله أخلصَهُ؛ أي: اختارَهُ فهو مختارٌ له تعالى، وقيل: مخلَصاً؛ لأنَّ اللهَ خلَّصَه من الدَّنَس.
          ({وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:51]): أي: نبَّأه اللهُ تعالى وأرسلَهُ إلى بني إسرائيل، وقال البيضَاويُّ: أرسلَهُ الله إلى الخلقِ فأنبأَهُم عنه؛ ولذلك قدَّم {رَسُولًا} مع أنَّه أخصُّ وأعلى ({وَنَادَيْنَاهُ}): أي: دعوناه وكلَّمنَاه، وكان ذلك ليلة الجمعة ({مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ}): الجارُّ والمجرور متعلِّقٌ بـ{نَادَيْنَاهُ} أو بمحذوفٍ حالٌ من الفاعلِ أو المفعول أو من المصدرِ، و{الْأَيْمَنِ} صفةٌ لـ{الطُّورِ}، وقيل: للجانبِ، وقيل: لموسى فإنَّه جاءَ النِّداء من يمينهِ، كذا في ((العمدة)).
          وقال البيضَاويُّ: أي: من ناحيتِهِ اليُمنى من اليمينِ، وهي الَّتي على يمين مُوسى أو من جانبهِ الميمُون من اليمن، بأن تمثَّل له الكلامُ من تلكَ الجهةَ، فـ{الطُّورِ} كما قال البغويُّ: جبلٌ بين مصر ومدين، ويُقال: اسمه الزُّبير، وذلك حين أقبل من مدين ورأى النَّار نودي: يا موسى، إنِّي أنا الله ربُّ العالمين، انتهى، وقال البيضاويُّ في تفسير {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ}[المؤمنون:20] من سورة المؤمنون: جبل موسى بين مصر وأيلة، وقيل: بفلسطين، وقد يُقال له: طورُ سينين.
          ({وَقَرَّبْنَاهُ}): أي: موسى تقريبَ تشريفٍ، شبَّهه بمَن قرَّبه الملك لمناجاته ({نَجِيًّا} [مريم:52]): أي: مناجياً، حالٌ من أحد الضَّميرين، وهو معنى قوله: <كلَّمه> الواقع في روايةِ أبي ذرٍّ، وقيل: مرتفعاً من النَّجوةِ، وهو الارتفاع؛ لما روي أنَّه رفعَ فوقَ السَّماوات حتَّى سمعَ صريرَ الأقلامِ، كذا في البيضاويِّ.
          وقال البغويُّ: قال ابن عبَّاسٍ: معناه: قرَّبه وكلَّمَه، ومعنى التَّقريب: إسماعه / كلامه، وقيل: رفعَه على الحُجُب حتَّى سمعَ صريرَ الأقلام، زاد العينيُّ: حين كتبَ له في الألواحِ، وقال القسطلانيُّ: صريفُ الأقلامِ: صوتُ جريانهِ بما يكتبُه من أقضيةِ الله ووحيهِ وما ينسخُه من اللَّوح المحفوظِ، وقال ابنُ كثيرٍ: صريفُ القلمِ بكتابةِ التَّوراة، وقال السُّدِّي: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} قال: أُدخلَ في السَّماء فكُلِّم.
          ({وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا}): أي: لأجلِ رحمتِنَا له أو بعضَ رحمتنا؛ أي: نعمتنا، قال في ((فتوح الغيب)): وهو الوجهُ؛ لما فيه من التَّنبيه على سِعَة رحمة الله تعالى، فإنَّ الأنبياءَ مع جلالتِهِم ورفعةِ منزلتهِم منحوا بعضاً منها.
          ({أَخَاهُ}): أي: هارون مؤازراً له إجابةً لدعوتهِ، حيث قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي. هَارُونَ أَخِي} [طه:29-30] الآية، فـ{أَخَاهُ} مفعول {وَهَبْنَا} على جعل {مِنْ} للتَّعليل، وأمَّا على جعلها تبعيضيَّةً اسماً فهي المفعول، و{أَخَاهُ} بدلٌ أو عطف بيانٍ.
          لقوله: ({هَارُونَ}): وهو شقيق موسى، وأمُّهما أناجيا، وقيل: أباذخت، وقال السُّهيليُّ: أباذخا، وقال ابن إسحاق: تجيب، وقال الثَّعلبيُّ: يوخايذ، وهو المشهور، وكان هارونُ أكبرَ من موسى بثلاث سنين، فإنَّ موسى مات وله مائةٌ وعشرون سنةً، ومات هارون وله مائةٌ وثلاثةٌ وعشرون سنةً، وذكره الله في القرآن في أحد عشرَ موضعاً، وأمَّا موسى فقد ذُكِر في القرآن في مائةٍ وثمانيةَ عشرَ موضعاً، ولمَّا وُلِد موسى كان لأبيهِ عمران سبعون سنةً، ولمَّا مات عمران كان عمره مائةً وسبعةً وثلاثين سنةً.
          ({نَبِيًّا} [مريم:53]}): حالٌ من {هَارُونَ}، وزادَ المستمليُّ بعدَ هذا كلمة؛ يعني: <{نَجِيًّا}> (يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَالاثْنَيْنِ وَالجَمعِ: نَجِيٌّ): بفتح النُّون وكسر الجيم وتشديد التَّحتيَّة، نائب فاعل ((يُقال))؛ يعني: يستوي نجيٌّ في المفرد والمثنَّى والمجموع؛ لأنَّه فعيلٌ بزنة المصادر كظَهِير، فيقال: رجلٌ نجيٌّ، ورجلان نجيٌّ، ورجالٌ نجيٌّ، وقد يشمل الواحد المؤنَّث فيقال: امرأةٌ نجيٌّ.
          (وَيُقَالُ: {خَلَصُوا نَجِيًّا} اعْتَزَلُوا نَجِيًّا): يريد تفسير {خَلَصُوا} بـ((اعتزلوا))، وأنَّ {نَجِيًّا} استُعمل للجماعة، وهو _أي: {نَجِيًّا}_ منصوبٌ على الحال، وهذا كسابقه إشارةٌ إلى {نَجِيًّا} من قوله تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}، ومن قوله تعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} [يوسف:80] في سورة يوسف، وضمير {مِنْهُ} ليوسف، وسقطَ: <{نَجِيًّا}> الثَّاني لأبي ذرٍّ.
          وقال الزَّمخشريُّ: النَّجيُّ: على معنيين بمعنى: المُنَاجي كالعَشِير والسَّمِير، بمعنى: المُعاشر والمُسامر، ومنه قوله تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا}، وبمعنى المصدر الذي هو التَّناجي كما قيل: النَّجوى بمعناه، ومنه قيل: قومٌ نجيٌّ كما قيل: هم صديقٌ؛ لأنَّه بزنة المصادر.
          (وَالجَمعُ: أَنْجِيَةٌ): يريد بهذا أنَّ النَّجيَّ إذا أُريد به المفرد فقط يُجمعُ على أنجيَة، ومنه قول لبيدٍ:
وَشَهِدْتُ أَنْجِيَةَ الإقامة تألياً                     حسبي وَأَرْدَافُ الْمُلُوكِ شُهُودُ
          وقوله: ({يَتَنَاجَوْنَ}): أشار به إلى ما في قولِ تعالى في سورةِ قد سمعَ: {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة:8]، فإنَّ الآيةَ نزلَتْ في اليهود، وذكرها المصنِّفُ لمناسبتِهَا لقولهِ: {نَجِيًّا}، وقوله؛ أي: في سورةِ الأعرافِ: ({تَلْقَفُ} [الأعراف:117]: تَلْقَمُ): يريد تفسير {تَلْقَفُ} بــ((تلقم))، وفي {تَلْقَفُ} قراءتان: إحداهما: ▬تَلَقَّف↨ بفتح الفوقيَّة واللَّام والقاف المشدَّدة، وثانيتهما: {تَلْقَفُ} بسكون اللَّام وتخفيف القاف، فعلى القراءة الأُولى وهي قراءة الجمهور: ((تلَقَّم)) بوزنه، وعلى الثَّانية وهي قراءة حفصٍ عن عاصمٍ بوزن: تَفْتَح.