الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {وآتينا داود زبورًا}

          ░37▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) أي: في آخرِ النِّساء ({وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} [الإسراء:55]) هو: داود بنُ إيشا _بهمزةٍ مكسورة وتحتيَّة ساكنة فشينٌ معجمة فألفٌ_ ابن عَوبَد _بالعينِ المهملة فواو فموحدةٌ فدالٌ مهملة بوزن جعفر_ ابن بَاعَر _بموحدةٍ فألف فعينٌ مهملة مفتوحةٌ فراء_ ابنِ سلمُون بنِ يارب _بتحتيَّة فألفٌ فراءٌ فموحَّدة_ ابنِ رامَ بنِ حضرُونَ _بحاء مهملةٍ فضاد معجمةٌ فراء فواو فنون_ ابنِ فارِصِ _بفاء فألف فراء فصاد مهملة_ ابنِ يهوذَا بنِ يعقُوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ الخليل عليهِم الصَّلاة والسَّلام.
          قال العينيُّ: ومنهم من زادَ بعدَ سلمون: بحشُون بنِ عَمِينَاء ذاب بن رامِ، وقيل: آرم. وقدَّمنا في أوَّل بدء الوحِي شيئاً من أخبَارهِ، ومن ذلك أنَّه عاشَ من العمرِ مائة سنةٍ وستَّة أشهر وعاشَ ولده سليمانُ ثلاثة وخمسينَ سنة كما يأتي.
          وقوله: ((زَبُوراً)) بفتح الزَّاي لجمهور القراء، وقرأ حمزةُ بضمِّ الزَّاي جمع زبُرٍ بكسرِهَا وفتحهَا و(الزُّبُرُ) بضمَّتين أو بسُكونِ الموحَّدة (الْكُتُبُ، وَاحِدُهَا: زَبورٌ) بفتحِ الزاي؛ أي: كتاب (زَبَرْتُ: كَتَبْتُ) وهذا ثابتٌ للكشميهنيِّ والمستمليِّ، والزبورُ: كتابُ داود عليه الصَّلاة والسَّلام أنزلَه اللهُ عليه مشتَملاً على مائةٍ وخمسين سورة بالعبرانيَّة، قال القرطبيُّ: ليسَ فيها حكمٌ من حلالٍ أو حرامٍ، / وإنَّما هي حكمٌ ومواعظ.
          وقال العينيُّ في ((تاريخه)): روى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ ☻ قالَ: أنزلَ اللهُ تعالى الزَّبورَ على داودَ مائةً وخمسين سورةً بالعبرَانيَّة في خمسينَ منها ما يلقونَ من بخت نصَّر وفي خمسينَ ما يلقون من الرُّوم وفي خمسين مواعظُ وحكم، ولم يكُنْ فيه حلالٌ ولا حرامٌ ولا حدودٌ ولا أحكامٌ، وروى الحديثُ أنَّه أنزلَ في شهرِ رمضانَ، قال وهبٌ: ومن الزَّبور: يا عبدِي الشَّكور إنِّي وهبتُكَ الزَّبورَ وأبقيتُ لك فيهِ الأمُورَ، وهو من لَوحِي المحفوظ المستُور، فاعبدْني على الأيَّام واللَّيالي والشُّهور، انتهى.
          وكان داود حسنَ الصَّوتِ إذا أخذَ في قراءة الزَّبورِ اجتمعَ عليه الإنسُ والجنُّ والطَّيرُ والوحشُ لحسنِ صوتهِ.
          ({وَلقَد آتَينَا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً} [سبأ:10]) وهذهِ الآيةُ في سورةِ سبأ، وقوله: {فَضْلاً}؛ أي: على سائرِ الأنبياءِ وهو ما ذكرَ بعدُ، أو على سائرِ النَّاس فتندَرجُ النُّبوَّة والكتابُ والصَّوت الحسن، قاله البيضَاويُّ، وقال غيرُه: أي: ملكاً ونبوَّة وكتاباً، وهو الزَّبورُ وصَوتاً بديعاً وقوَّةً وقدرةً وتسخير الجبال والطَّيرِ له بحيث كانَ إذا سبَّحَ تسبِّحُ معه الجبَالُ الرَّاسياتُ الصمُّ الشَّامخاتُ، وتقفُ له الطيورُ السَّارحاتُ والغَادياتُ والرَّائحاتُ وتجاوبُه بأنواعِ اللُّغاتِ.
          وقال البغويُّ في تفسيرِ النِّساء: كان داودُ يبرُزُ إلى البريةِ، فيقومُ ويقرأُ الزَّبورَ، ويقومُ معه علماءُ بني إسرائيلَ، فيقومونَ خلفَه، ويقومُ النَّاسُ خلف العلماءِ، ويقومُ الجنُّ خلف الناسِ، الأعظمُ فالأعظمُ، والشياطينُ خلف الجنِّ وتجيءُ الدوابُّ التي في الجبالِ، فيقُمنَ بين يدَيه تعجُّباً لِما يسمَعنَ منه، والطيرُ ترفرفُ على رؤوسِهم، فلمَّا قارفَ الذنْبَ لم يرَ ذلك، فقيلَ له: ذلك أُنسُ الطاعةِ، وهذا وَحشةُ المعصيةِ.
          ثم ذكر بسندِه إلى أبي موسى قال: قال رسولُ الله صلعم: ((لو رأيتَني البارحةَ وأنا أستمِعُ لقراءتِك، لقد أُعطيتَ مزماراً من مزاميرِ آلِ داودَ)) قال: أمَا واللهِ يا رسولَ اللهِ؛ لو علِمتُ أنَّك تسمعُ لَحبَّرتُه تحبيراً.
          وكانَ عمرُ ☺ إذا رآه قال: ذكِّرْنا يا أبا موسَى، فقرأَ عندَه: (({يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ})) بالواو المكسورة المشدَّدة، من: التأوُّبِ، أو من: الإيابِ، قال البغويُّ: قيل: هو تفعيلٌ من الإيابِ؛ وهو: الرجوعُ؛ أي: ارجِعي معه، وقال القتبيُّ: أصلُه: من التأويبِ في السَّيرِ؛ وهو: أن يسيرَ النَّهارَ كلَّه وينزِلَ اللَّيلَ، كأنَّه قال: أوِّبي النهارَ كلَّه بالتسبيحِ معه، انتهى، فتأمله.
          وقال البيضاويُّ: رجِّعي معه التَّسبيحَ على الذَّنبِ أو النَّوحةِ، وذلك إمَّا بخلقِ صوتٍ فيها مثلِ صوتِه، أو بحملِها إيَّاه على التسبيحِ إذا تأمَّل فيها، أو سيري معه حيثُ سار، وقُرئ: ▬آوِبي↨ بمد الهمزة، من: الأَوبِ؛ أي: ارجِعي في التسبيحِ كلَّما رجعَ فيه، وهو بدلٌ من: {فَضْلاً} أو من: {آتَينَا} بإضمارِ: قولُنا، أو: قُلنا.
          وقولهُ: (قَالَ مُجَاهِدٌ: سَبِّحِي مَعَهُ) سقطَ لغيرِ الكشميهنيِّ والمستملِي، وهذا تفسيرٌ لـ{أَوِّبِي} وصلَه الفِريابيُّ، وقال الضحَّاكُ: هو التسبيحُ بلغةِ الحبَشةِ، ونظرَ فيه ابنُ كثيرٍ بأنَّ التأويبَ في اللغةِ: التَّرجيعُ، والتَّضعيفُ للتَّكثيرِ.
          قال البغويُّ: كان داودُ إذا نادى بالنِّياحةِ أجابته الجبالُ بصدَاها، وعكفَتْ عليه الطَّيرُ من فوقِهِ، قيل: فصدَى الجبالِ الذي يسمعُه الناسُ من ذلك اليومِ، وقيل: كان داودُ إذا تخلَّلَ الجبالَ فسبَّحَ اللهَ، جعلَتِ الجبالُ تجاوبُه بالتَّسبيحِ، وقيل: كان داودُ إذا لحِقَه فتورٌ أسمعَه اللهُ تسبيحَ الجبالِ تنشيطاً له، انتهى / .
          ({وَالطَّيْرَ}) بالنصب، عطفٌ على محلِّ: {جِبَالُ} لأنَّ كلَّ منادًى مبنيٌّ في موضعِ نصبٍ، زاد البيضَاويُّ: أو عطفاً على: {فَضْلاً} أو مفعولٌ معه لـ{أوِّبِي} قال: وعلى هذا يجوزُ أن يكونَ الرَّفعُ بالعطفِ على ضميرِه.
          وقيل: منصوبٌ بمحذوفٍ؛ نحو: وسخَّرْنا، وقال البغويُّ: وقرأ يعقوبُ: ▬والطيرُ↨ بالرفع ردًّا على الجبالِ؛ أي: عطفاً على لفظِه، ونسبَ هذه القراءةَ القسطلانيُّ لرَوحٍ.
          وقال البيضاويُّ: وكأنَّ الأصلَ: ولقد آتيَنا داودَ منَّا فضلاً تأويبَ الجبالِ والطيرِ، فبدَّل بهذا النَّظمِ لِما فيه من الفخامةِ والدلالةِ على عِظَمِ داودَ وكبرياءِ سلطانِه، حيثُ جعلَ الجبالَ والطيورَ كالعقلاءِ المنقادينَ لأمرِه في نفاذِ مشيئتِه فيها، انتهى.
          قال القسطَلانيُّ: وليس التأويبُ منحصِراً في الطَّيرِ والجبالِ، ولكن ذكرَ الجبالَ؛ لأنَّ الصُّخورَ للجُمودِ، والطيرَ للنُّفورِ، وكلاهما يُستبعَدُ منه الموافقةُ، فإذا وافقَه هذه الأشياءُ، فغيرُها أَولى.
          ({وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}) عطفٌ على: {آتَينَا} أي: سهَّلناه له حتى جعَلْناه في يدِه كالشَّمعِ والعجينِ، يعملُ منه ما يشاءُ من غيرِ نارٍ ولا ضربٍ بمطرقةٍ.
          قال البغويُّ: وكان سببُ ذلك على ما رُويَ في الأخبارِ أنَّ داودَ عليه السلامُ لمَّا ملَكَ بني إسرائيلَ كان من عادتِه أن يخرُجَ للنَّاسِ متنكِّراً، فإذا رأى رجلاً لا يعرِفُه تقدَّمَ إليه يسألُه عن داودَ، ويقولُ له: ما تقولُ في داودَ واليكم هذا؟ أيُّ رجلٍ هو؟ فيُثنون عليه ويقولون خيراً، فقيَّضَ اللهُ له ملَكاً في صورةِ آدميٍّ، فلمَّا رآه داودُ تقدَّمَ إليه على عادتِه، فسأله، فقالَ الملَكُ: نِعمَ الرجلُ هو لولا خَصلةٌ فيه، فراعَ داودَ ذلك، وقال: ما هي يا عبدَ الله؟ قال: إنَّه يأكلُ ويُطعمُ عيالَه من بيتِ المالِ، فتنبَّهَ لذلك، وسألَ اللهَ أن يسبِّبَ له سبباً يستَغني به عن بيتِ المالِ، فيتقوَّتُ منه ويُطعمُ عيالَه، فألانَ اللهُ له الحديدَ، وعلَّمَه صَنعةَ الدِّرعِ، وهو أوَّلُ مَن اتَّخذَها من الخلقِ، وإنما كانت قبله صفائحَ، قاله قتادةُ.
          ويقالُ: إنَّه كان يبيعُ كلَّ درعٍ بأربعةِ آلافِ درهمٍ، فيأكلُ ويُطعمُ منها عيالَه، ويتصدَّقُ منها على الفقراءِ والمساكينِ.
          ويقالُ: كان يعملُ كلَّ يومٍ درعاً يبيعُه بستَّةِ آلافِ درهمٍ، فيُنفقُ منها ألفَينِ على نفسِه وعيالِ، ويتصدَّقُ بأربعةِ آلافٍ على فقراءِ بني إسرائيلَ، قال: قال رسولُ الله صلعم: ((كان داودُ لا يأكلُ إلا من عمَلِ يدِه)).
          قال القسطلانيُّ: وسقطَ لأبي ذرٍّ: <{وَالطَّيْرَ} إلى: {الْحَدِيدَ}>.
          ({أَنِ}) أي: بأنِ ({اعْمَلْ}) بهمزةِ الوصلِ، قال البيضَاويُّ: أمَرْناهُ أنِ اعمَلْ، فــ{أن} مفسِّرةٌ أو مصدريَّةٌ ({سَابِغَاتٍ}) أي: دروعاً واسعَاتٍ طَويلةً، وقُرئَ: ▬صابغاتٍ↨ أي: بالصَّاد.
          وقولُه: (الدُّرُوعَ) بيانٌ؛ لأنَّ الموصُوفَ محذوفٌ، ولو قدَّرَه منكَراً لَكان أَولى، ففي البغويِّ: دُروعاً كَواملَ واسِعاتٍ طِوالاً تُسحَبُ في الأرضِ.
          ({وقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} الْمَسَامِيرِ) بالجرِّ، بيانٌ لـ{السَّردِ} وفي بعضِ الأصُولِ: بالرفع، خبرٌ لمحذوفٍ، ويجوزُ النصبُ بفعلٍ محذوفٍ (وَالْحَلَقِ) بفتحتين أو بكسرٍ ففتحٍ، قاله في ((القاموس)) والمرادُ بها الدُّروعُ.
          وقال البغَويُّ: {السَّرْدِ}: نسجُ الدُّروعِ، ويقالُ لصانعِهِ: السَّرَّادُ والزرَّادُ.
          (وَلاَ تَدِقَّ) بضمِّ الفوقيَّة وكسرِ الدالِ المهملةِ؛ أي: المسَاميرَ والحلقَ، فالمفعولُ محذوفٌ، ولأبي ذرٍّ عن الكشميهنيِّ: <ولا ترِقَّ> بالرَّاء بدلَ الدال المهملةِ، والمعنى: لا تجعَلْ مِسمارَ الدِّرعِ دقيقاً أو رقيقاً.
          (فَيَتَسَلْسَلَ) بالنصبِ، ويجوزُ الرفعُ، وهو _بفوقيَّة بعد التحتية مفتوحتين_،يقالُ: / تسَلسَلَ الماءُ؛ أي: جرى، وقال في ((الفتح)): أي: يصيرُ كالسِّلسِلةِ في اللِّينِ، ولأبي ذرٍّ عن الكشميهنيِّ: <فيُسلسِلُ> بحذف الفوقية مع ضم التحتية؛ أي: فلا يستَمسِكُ، ويُروى: <فيَسلَسُ> بفتحِ التحتيَّة واللامِ بينَ سينين مهملتين، ونسَبَ هذه الرِّوايةَ في ((الفتح)) للأَصيليِّ، قال: ومعنَاها: فيخرُجُ من الثُّقبِ برفقٍ، أو يَصيرُ متحرِّكاً، فيلينُ عند الخروجِ.
          (وَلاَ تُعَظِّمْ) بضمِّ الفوقيَّة وكسرِ الظاءِ المشدَّدة، ولو قُرئَ: بتخفيفِ الظاء لم يمتنِعْ؛ أي: ولا تجعَلِ المسمارَ عظيماً (فَيَفْصِمَ) بكسرِ الصَّاد المهملةِ؛ أي: فيكسِرَ المسمَارُ الحلَقَ، والمرادُ: اجعَلْه مناسِباً على قدْرِ الحاجةِ.
          قال القسطلانيُّ: ولأبي ذرٍّ عن الكشميهنيِّ: <فينفَصِمَ> بزيادة نونٍ ساكنةٍ قبل الفاء، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ دروعَه لم تكُنْ مسمَّرةً، ويؤيدُه قولُه: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] والمعنى: قدِّرْ في السَّردِ؛ أي: في نَسجِها بحيثُ يتناسَبُ حلَقُها، وقال الكرمانيُّ: السَّردُ: اسمٌ جامعٌ للدُّروعِ، والسَّردُ أيضاً: تداخُل الحلَقِ بعضِه في بعضٍ.
          وقال في ((الفتح)): وروى إبراهيمُ الحربيُّ في ((غريب الحديثِ)) من طريقِ مجاهدٍ في قولِه: {وقدِّرْ في السَّردِ}: لا تدُقَّ المساميرَ فيسلَسَ، ولا تُغلِظْه فيَفصِمَها، وقال أبو عبيدةَ: يقالُ: دِرعٌ مسرَّدةٌ؛ أي: مستديرةُ الحلَقِ، قال أبو ذؤيبٍ: وعليهما مسرُودَتان قضاهما داودُ، أو صنعَ السوابغَ تُبَّعُ، وهو مثلُ مسمارِ السَّفينةِ.
          ({أَفرِغْ} أَنزِلْ) بفتح الهمزةِ في اللَّفظين وكسرِ الحرف الثالث فيهما، والثاني تفسيرٌ للأولِ من قولِهِ تعالى في أواخرِ البقرةِ في قصَّةِ طالوتَ: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [البقرة:250] قال في ((الفتح)): لم أعرفِ المرادَ من هذه الكلمةِ هنا، واستَقرَيتُ قصَّةَ داودَ في المواضعِ التي ذُكرَتْ، فيها فلم أجِدْها، انتهى.
          والجوابُ كما في ((المنحةِ)) تَبعاً ((للعمدةِ)) أنَّ هذا وإن كان في قصَّةِ طالوتَ، لكن فيها قصةُ داودَ، فكأنَّه ذكرَ ذلك هنا؛ لأنَّ قضيتَهما واحدةٌ، انتهى، فتأمَّله.
          ووقعَ للكشميهَنيِّ والمستملِي زيادةُ: <الزُّبُرِ> قبل: <{أفرِغْ}> وليُنظَرْ وجهُ ذكرِها هنا، فتأمَّل.
          ({بسطَةً}) أي: من قولِه تعالى أيضاً في قصَّةِ طالوتَ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247].
          قوله: (زِيادَةً وفَضلاً) تفسيرٌ لـ{بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} على اللَّفِّ والنَّشرِ الغيرِ المرتَّبِ في قولِهِ: ((زيادةً)) أي: في الجسمِ ((وفضلاً)): في العلمِ، فزادَه اللهُ في العلمِ ليتمكَّنَ به من معرفةِ الأمورِ السياسيَّةِ، وفي جسامةِ البدنِ ليكونَ أعظمَ خطَراً في القلوبِ وأقوى على مُقاومةِ العدوِّ ومكابَدةِ الحروبِ، كان الرجلُ القائمُ يمدُّ يدَه فيَنالُ رأسَه، قاله البيضاويُّ، وهذا الكلامُ ثابتٌ في روايةِ أبي ذرٍّ عن الكُشميهنيِّ، قال القسطلانيُّ تَبعاً للعينيِّ: والوجهُ إسقاطُه كما لا يخفَى، انتهى.
          وأقولُ: لإثباتهِ هنا وجهٌ، ففي ((الفتح)): وكأنَّه _أي: ذِكرَ قصَّةِ طالوتَ_ لمَّا كان آخرُها متعلِّقاً بداودَ، فلمَّحَ بشيءٍ من قصَّةِ طالوتَ المذكورةِ في القرآنِ، فتأمَّل.
          وقوله: ({وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ:11]) هذا في التِّلاوةِ عقِبَ: {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} وضميرُ الجمعِ لداودَ وآلِهِ؛ أي: واعمَلُوا في الذي أعطَاكُم من النِّعمِ عمَلاً صالحاً، فـ{صَالحاً} نعتُ: عمَلاً المقدَّرِ الواقعِ مفعولَ: {اعْمَلُوا} وقولُه: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} علةٌ لقولِه: {واعْمَلُوا صَالحاً} أي: لأني مراقبٌ لكم، بصيرٌ بأعمالِكم وأقوالِكم.