الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب ذكر إدريس عليه السلام

          ░5▒ (باب ذِكْرِ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ والسَّلاَمُ) قال في ((الفتح)) في البابِ السَّابقِ: وكأنَّ المصنِّفَ ترجَّحَ عنده كون إدريسَ ليس من أجدادِ نوحٍ فلهذا ذكرَهُ بعدَهُ، انتهى.
          وذكرَ في ذلك البابِ أنَّ استدلالَ أبي بكرِ بن العربيِّ على ذلك جيِّدٌ بقول إدريسَ: ((مرحباً بالأخِ الصَّالحِ)) دونَ الابنِ الصالحِ، وقال: وقد يُجابُ عنه بأنَّ إدريسَ قالَهُ على سبيلِ التَّلطُّفِ والتَّواضعِ.
          وقال القسطلَّانيُّ: بكسرِ ذال: ((ذِكر)) وضمِّها في ((اليونينيَّة)).
          (وَهُوَ جَدُّ أَبِي نُوحٍ) لأنَّهُ نوحُ بنُ لامك بن متوشلخ بن أخنوخَ وهو إدريس.
          (وَيُقَالُ جَدُّ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ) أي: مجازاً؛ لأنَّ جدِّ الأبِ جدٌّ، وقولهُ: ((وهو جدُّ... إلخ)) ثابتٌ لابنِ عساكرَ، وسقط لغيرِهِ، وقال في ((الفتح)): سقطَ لفظ: <باب> من روايةِ أبي ذرٍّ، وزادَ في روايةِ الحفصيِّ: ((وهو جدُّ أبي نُوحٍ)) وقيلَ: ((جدُّ نُوحٍ)) والأوَّلُ أولى.
          ولعلَّ الثَّاني أُطلِقَ مجازاً؛ لأنَّ جدَّ الأبِ جدٌّ، ونقلَ بعضهم الإجماعَ على أنَّهُ جدُّ نوحٍ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّهُ إن ثبتَ ما قال ابنُ عبَّاس: أنَّ إلياسَ هو إدريسُ، لزمَ أن يكون إدريسُ من ذريَّةِ نوحٍ لا أنَّ نوحاً من ذريَّتهِ؛ لقولِهِ تعالى في سورة الأنعام: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إلى أن قالَ: {وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ} [الأنعام:84-85] فدلَّ على أنَّ إلياس من ذريَّةِ نوحٍ، سواءٌ قلنا أنَّ الضَّميرَ في قولِهِ: {ومن ذريته} لـ((نوحٍ)) أو لـ((إبراهيمَ))؛ لأنَّ إبراهيمَ من ذريَّة نوحٍ، فمن كان من ذريَّةِ إبراهيمَ فهو من ذريَّةِ نوحٍ لا محالةَ.
          قال: وذكر ابنُ إسحاقَ في ((المبتدأ)): أنَّ إلياسَ هو ابن نسي بن فنحاصَ بن العيزارِ بن هارونَ أخِي موسى بن عمرانَ، قال: وذكرَ وهبٌ في ((المبتدأ)) أنَّ إلياسَ عمَّر كما عمَّر الخضِرُ، وأنَّهُ يبقى إلى آخرِ الدُّنيا في قصَّةٍ طويلةٍ.
          قال: وأخرجَ الحاكمُ في ((المستدرك)) عمَّن حدَّثَ أنس: أنَّ إلياسَ اجتمعَ بالنَّبيِّ صلعم فأَكَلا جميعاً، وأنَّ طولَهُ ثلاثمائة ذراعٍ، وأنَّهُ قال: إنَّهُ لا يأكلُ في السَّنَةِ إلا مرَّةً واحدةً، لكن قال الذَّهبيُّ: إنَّهُ خبرٌ باطلٌ، انتهى.
          وقال: قيلَ ذلك، واختُلِفَ في لفظِ إدريسَ، فقيل: عربيٌّ واشتقاقُهُ من الدِّراسةِ، وقيلَ له ذلكَ لكثرَةِ درسِهِ في الصُّحفِ.
          قال: وقيل: هو سُريانيٌّ، وفي حديثِ أبي داودَ الطَّويل الذي صحَّحهُ ابنُ حبَّان: ((أنَّهُ كان سُريانيًّا)) ولكن لا يمنعُ ذلك كون لفظ إدريسَ عربيًّا إذا ثبتَ أنَّ له اسمين.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجرِّ عطفٌ على ((ذِكرِ)) أو ((إدريس)) في سورةِ مريمَ ({وَرَفَعْنَاهُ}) أي: إدريسُ ({مَكَانًا عَلِيًّا} [مريم:57]) أي: عالياً نعت: {مكاناً} المنصُوبُ على الظَّرفيَّةِ أو التمييزُ المحوَّلُ عن المفعولِ، فافهم.
          قال البيضَاويُّ: هو سِبْطُ شيث، وجدُّ أبي نوحٍ واسمه: أخنوخ، واشتقاقُ إدريسَ من الدَّرسِ يردُّهُ منع صرفِهِ، نعم لا يبعدُ أن يكون معناهُ في تلك اللُّغة قريباً من ذلك فلقِّبَ به لكثرةِ درسِهِ، إذ رويَ: ((أنَّهُ تعالى أنزَلَ عليه ثلاثينَ صحيفةً)) وأنَّهُ أوَّلُ من خطَّ ونظرَ في علْمِ النُّجومِ والحسَابِ، انتهى.
          وقال غيرُهُ: وقد أدركَ من حياةِ آدم ثلاثمائة سنةٍ وثمان سنينَ وهو أوَّلُ من أُعطِيَ النُّبوَّةَ بعد آدمَ وشيث عليهم الصلاة والسلام، وأوَّلُ من خطَّ / بالقلمِ، قال ابنُ كثير نقلاً عن طائفةٍ: إنَّهُ المشارُ إليه في حديثِ معاويةَ بن الحكمِ السلميِّ لمَّا سأل النَّبيَّ صلعم عن الخطِّ بالرَّملِ، فقال: ((إنَّهُ كان نبيٌّ يخطُّ بالرَّملِ فمن وافَقَ خطَّهُ فذاكَ)).
          وزعم كثيرٌ من المفسرينَ أنَّهُ أوَّلُ من تكلَّمَ في ذلك ويسمونَهُ: هرمسَ الهرامسةِ، ويكذِبُونَ عليه في أشياءَ كثيرةَ كما كذَبُوا على غيرِهِ من الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام.
          وقال في ((الفتح)): في حديثِ أبي ذرٍّ الطَّويلِ الذي صحَّحهُ ابنُ حبَّان: ((أنَّ إدريسَ كان نبيًّا رسولًا، وأنَّهُ أوَّلُ من خطَّ بالقلمِ)) قال: وذكرَ ابنُ إسحاقَ له أوليَّاتٍ كثيرةٍ منها: أنَّهُ أوَّلُ من خاطَ الثِّيابَ ولبسها وكان مَن قبلَهُ يلبسُونَ الجلودَ، وهو أوَّلُ من اتَّخذَ السلاحَ وقاتلَ الكفَّارَ.
          واختُلِفَ في المراد بقولِهِ: {مكاناً عليًّا} فقيل: السَّماءُ الرابعةُ، وقيل: السَّماء السادسةُ، وقيل: الجنَّة، وقيل: شرفُ النُّبوَّةِ والزُّلفى عند الله تعالى، ولمَّا رُفِعَ كان ابنَ ثلاثمائةٍ وخمسينَ سنةً، كما قالَهُ ابنُ قتيبةَ، وعن مجاهدٍ: أنَّهُ رُفِعَ إلى السَّماء ولم يمُت كما رُفِعَ عيسى عليهما السلام.
          واعترضَهُ في ((البداية والنهاية)) فقال: إن أرادَ أنَّهُ لم يمتْ إلى الآن ففيهِ نظرٌ، وإن أرادَ أنَّهُ رُفِعَ حيًّا ثم ماتَ فلا ينافي ما وردَ عن كعبٍ أنَّهُ قُبض في السَّماءِ الرابعةِ، وعن ابنِ عبَّاسٍ أنَّهُ قُبض في السادسةِ.
          وقال في ((الفتح)): وكأنَّ المصنِّفَ أشارَ بالترجمةِ إلى ما وقعَ في حديثِ الإسراءِ أنَّهُ وجدَهُ في السماء الرابعةِ، وهو مكانٌ عليٌّ بلا شكٍّ، واستشكلَهُ بعضُهم بأنَّ غيرَهُ من الأنبياءِ أرفعُ مكاناً منه.
          ثم أجابَ بأنَّ المراد لم يُرفع إلى السَّماء حيٌّ غيرُهُ، وفيه أن عيسى رُفِعَ حيًّا على الصَّحيحِ على أنَّ كونَ إدريس رُفِعَ حيًّا لم يثبت من طريقٍ مرفوعةٍ قويَّةٍ.
          قال: وروى الطَّبريُّ: أنَّ كعباً قال لابن عبَّاسٍ، في قولِهِ تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} بأنَّ إدريسَ سألَ صَدِيقاً له من الملائكةِ وهو المَلَكُ الموكَّلُ بالشمسِ أن يُرِيَهُ الجنة فأذِنَ اللهُ له في ذلك فحملَهُ بين جناحيهِ وصعدَ به فلما كان في السماءِ الرابعةِ تلقاهُ مَلَكُ الموتِ، فقال له: أريدُ أن تُعلِمَني كم بقيَ من أجَلِ إدريسَ؟ قال: وأينَ إدريسُ؟ قال: هو معي، فقال: إنَّ هذا لشيءٌ عجيبٌ، أُمرْتُ بأن أقبضَ روحَهُ في السَّماءِ الرابعةِ، فقلت: فكيفَ ذلك وهو في الأرضِ؟ فقَبَضَ روحَهُ هناك فذلكَ قولَهُ تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} وهذا من الإسرائيليَّاتِ، والله أعلم بصحَّةِ ذلك، انتهى بزيادة.
          وقال الغيطيُّ: فإنْ كانَ إدريسُ اختُصَّ بأنَّهُ أُدخل الجنةَ فقد شاركَهُ النَّبيُّ صلعم في ذلك، وزادَ عليه أنَّهُ دخلَها حيًّا، وإدريسُ إنَّما دخلها بعد أن ماتَ، بل زادَ عليهِ صلعم في الارتفاعِ إلى أعلَى الجنَّاتِ وأرفعِ الدَّرجاتِ، انتهى.
          وذكر البغويُّ قصَّةَ إدريسَ مبسُوطةً، وسبب صداقةِ مَلَكِ الشَّمسِ له عليهما السَّلام وذَكَرَ أيضاً أنَّ العلماءَ اختلفُوا في أنَّهُ حيٌّ في السَّماء أم ميِّتٌ؟
          فقال قومٌ: هو ميِّتٌ، وقال قومٌ: هو حيٌّ، وقالوا: أربعةٌ من الأنبياءِ أحياءُ اثنانِ في الأرضِ الخضرُ وإلياسُ، واثنانَ في السَّماءِ إدريسُ وعيسى.