الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث أبي هريرة: كان رجل يسرف على نفسه

          3481- وبالسند قال: (حَدَّثَنِي) بالإفرادِ لغير أبي ذرٍّ (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) أي: المسنَديُّ، قال: (حَدَّثَنَا هِشَامٌ) بكسرِ الهاء؛ أي: ابنُ يوسُفَ الصنعانيُّ، قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) بفتحِ الميمين؛ أي: ابنُ راشدٍ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) أي: ابنِ شهابٍ (عَنْ حُمَيْدِ) بالتَّصغيرِ (ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: كَانَ رَجُلٌ) أي: مِنْ بني إسرائيلَ، وبه تحصُلُ المطابقةُ (يُسْرِفُ) بضمِّ أوَّله، مضَارعُ الغائبِ، مِن الإسرَافِ؛ وهو: مجاوزةُ الحدِّ (عَلَى نَفْسِهِ) أي: يبالِغُ في ارتكابِ المعاصِي، والجملةُ: خبرُ: ((كان))، وفي بعضِ الأصُولِ الصَّحيحةِ: <مُسرفٌ> بميم اسمِ فاعلٍ، نعتُ: ((رجلٌ)).
          قال في ((الفتح)): وتقدَّمَ في حديثٍ أنَّهُ كان نبَّاشاً، فلمَّا حضرَه الموتُ قال لبنيه: (إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي) بقطع الهمزةِ (ثُمَّ اطْحَنُونِي) بهمزة الوصل (ثُمَّ ذَرُّونِي) بتشديد الرَّاء وبتخفيفها (فِي الرِّيحِ) أي: لتُفرِّقَ أجزائي عند هبوبِها)، ولا يُنافيهِ ما في روايةِ: ((قال رجلٌ لم يعمَلْ حسنةً قطُّ لأهلِهِ: إذا متُّ فحرِّقوه، ثمَّ ذرُوا نصفَهُ في البرِّ ونصْفَه في البَحرِ...)) الحديثَ، وفيه: ((فأمرَ اللهُ البرَّ، فجمَعَ ما فيهِ، وأمرَ اللهُ البحرَ، فجمَعَ ما فيهِ))، فتأمَّل.
          (فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ) بتشديدِ ياءِ المتكلِّم (رَبِّي) فاعلٌ، و((قدَرَ)) بتخفيفِ الدَّال المهملةِ، ولأبي ذرٍّ عن الحمويِّ والمستمليِّ: <لئِنْ قدَرَ اللهُ عليَّ> (لَيُعَذِّبَنِّي) بفتحِ اللامِ وضمِّ الياء والموحَّدة، جوابُ القسَمِ من غَيرِ تأكيدٍ بالنونِ، وجوابُ الشَّرطِ محذوفٌ مدلولٌ عليه بالمذكورِ.
          وقال القسطلانيُّ: ((لَيُعذِّبَنِّي)) بفتحِ الموحَّدة، وفي ((اليونينيَّةِ)): بجزمِهَا، وبرفعِها في الفرعِ، لكنَّه مصلَّحٌ على كشطٍ، انتهى.
          وفي كلا الضبطَينِ إشكالٌ لمَنْ تأمَّلَ، إلَّا إن ثبتَ في أوَّلِها تشديدُ النونِ، فتدبَّرْ.
          (عَذَاباً مَا عَذَّبَهُ أَحَداً) أي: لن يعذِّبَه أحداً، قال القسطلانيُّ: وفي روايةٍ: ((فوَاللهِ لئِنْ قدَرَ اللهُ عليه لَيُعذِّبَه عذاباً لا يعذِّبُه أحداً من العَالمينَ)).
          تنبيه: وليسَ قولُه: ((لئِنْ قدَرَ اللهُ...)) إلخ، شكًّا في قُدرةِ اللهِ، وإن كان ظاهرُه ذلك، وحاصلُ ما ذكرَه الشرَّاحُ في ذلك أنَّ قولَه ليس على ظاهرِه، بل بمعنى: إنْ ضيَّقَ أو حكَمَ وقضى، أو هو على ظاهرِه، وقاله وهو غيرُ ضابطٍ لنفسِه ولا قاصدٌ معناه، بل في حالِ الدهشةِ وشدَّةِ الخوفِ بحيثُ ذهبَ تدبُّرُه فيما يقولُ، فصارَ كالغافلِ والنَّاسي، فهو كمَن قالَ لله: ((أنت عبدي وأنا ربُّك))، أو أنَّه جهِلَ صفةً من صفاتِ اللهِ تعالى؛ كالقدرةِ عليه، وفي تكفيرِه بذلك خلافٌ.
          لكن قال ابنُ الجوزيِّ كما في ((الفتح)): جحْدُ صفةِ القدرةِ كفرٌ اتفاقاً، انتهى، فتأمله.
          أو كان في زمانٍ ينفعُ فيه مجرَّدُ التوحيدِ، أو لا يلزمُ ذلك أيضاً، وهو زمانُ الفَترةِ، أو كانَ في شرعِهِم جوازُ العفوِ عن الكافرِ.
          وقال الخطابيُّ: أو إنَّه رجلٌ جاهلٌ ظنَّ أنَّه إذا فعَلَ ذلك تُرِكَ، فلم يُبعَث ولم يُعذَّبْ، وحيثُ قال: ((خَشيَتُك)) عُلمَ أنَّه مؤمنٌ فعلَ ذلك خشيةً من اللهِ تعالى، ولجهلِه ظنَّ أنَّ هذه / الحيلةَ تُنجيه مما يخافُه، انتهى، فتأمل.
          وقال في ((الفتح)): وأظهرُ الأقوالِ أنَّه قال ذلك في حالِ دهشتِهِ، وأبعدُها أنَّه كان في شرعِهم جوازُ المغفرةِ للكافرِ.
          (فَلَمَّا مَاتَ) أي: الرجلُ الموصي لبنيه بما تقدَّمَ (فُعِلَ) بالبناء للمفعول (بِهِ ذَلِكَ) أي: ما أوصى به (فَأَمَرَ اللَّهُ الأَرْضَ) أي: حقيقةً، أو سخَّرَها لذلك، والمرادُ: الأرضُ التي تفرَّقَت فيها أجزاؤه، ووقعَ في غيرِ ((اليونينيَّةِ)) زيادةُ: <تعالى> (فَقَالَ) أي: اللهُ تعالى لها (اجْمَعِي) بوصلِ الهمزةِ (مَا فِيكِ) بكسرِ الكافِ (مِنْهُ فَفَعَلَتْ) بسكونِ الفوقيَّة، ولأبي عَوانةَ في ((صَحيحِهِ)) عن سلمانَ الفارسيِّ: ((فقال اللهُ له: كُنْ، فكانَ كأسرعَ من طرْفِ العينِ)).
          وفي هذه الأحاديثِ ردٌّ على مَن قال كابنِ عَقيلٍ الحنبليِّ وأنَّ الخطابَ والأمرَ لروحِ هذا الرجلِ؛ لأنَّ ذلك لا يناسِبُ قولَه: ((اجمعِي ما فيكِ))؛ لأنَّ التحريقَ والتفريقَ إنما وقعَ على الجسدِ، وهو الذي يُجمعُ ويُعادُ عند البعثِ، وحينئذٍ يكونُ هذا إخباراً عمَّا سيقعُ لهذا الرجلِ يومَ القيامةِ، ويحتملُ أن يقَعَ له بعد تحريقِه وتفريقِه، فتأمل.
          (فَإِذَا هُوَ) أي: الرجلُ (قَائِمٌ) أي: واقفٌ بين يدَي اللهِ تعالى (فَقَالَ) أي: اللهُ له (مَا حَمَلَكَ) أي: أيُّ شيءٍ بعثَك (عَلَى مَا صَنَعْتَ) أي: من الوصيةِ المذكورةِ (قَالَ: يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ) بالرفعِ، فاعلٌ لحملَني مقدَّرٍ (فَغَفَرَ لَهُ) أي: للرجلِ، وسقطَ لفظُ: <خشيتُك> لأبي ذرٍّ.
          وقال القسطلانيُّ: في الفرعِ ما صُورتُه: <قال: يا ربِّ>، وعلى الحاشيةِ: <خشيتُك، فغفَرَ له، وقال غيرُه: مخافتُك>، انتهى.
          وقال أيضاً: ولأبي ذرٍّ: <مخافتُك يا ربِّ، فغفرَ له> وفي نسخةٍ: <خَشِيتُكَ> بكسرِ الشينِ المعجمةِ وسكونِ التحتيَّة؛ أي: خشِيتُكَ فصنعْتُ ذلك، وفي نُسخِ القسطلانيِّ هنا اختلافٌ.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غيرُ أبي هريرةَ، قال في ((الفتح)): الغيرُ المذكورُ هو عبدُ الرَّزاقِ، أخرجَهُ عنه أحمدُ (مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ) أي: بدلَ قولِه: ((يا ربِّ خشيتُك)) ولأبي ذرٍّ: <خشيتُكَ> بدلَ: ((مخافتُك))؛ لأنَّ ((خشيَتُك)) الأولى ساقطةٌ عنده كما مرَّ.