الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى:{وإلى عاد أخاهم هودًا قال يا قوم اعبدوا الله}

          ░6▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وفي بعضِ الأصُولِ: / <╡> بدل: ((تعالى)) أي: في سورةِ هودَ ({وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً}) الجارُ والمجرورُ متعلِّقٌ بـ((أرسلنا)) محذُوفاً للدَلالةِ عليه، و{أَخَاهُمْ} مفعولُهُ و{هُوداً} بدلٌ من {أَخَاهُمْ} أو عطفُ بيانٍ عليه، والجملةُ معطُوفةٌ على جملةِ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} وسمَّاهُ: {أَخَاهُمْ} باعتبارِ النَّسبِ لا الدِّينِ؛ لأنَّهُ كانَ من قبيلةِ عادٍ وهُم قبيلةٌ من العرَبِ بنَاحيةِ اليمنِ.
          وقال البيضَاويُّ: عطف على قولِهِ: {نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [نوح:1] أي: فهو من عطفِ المفرداتِ، لكنَّ الأوَّل أولى لطولِ الفصْلِ.
          وقال القسطلانيُّ: وليسَ من بابِ ما فصلَ فيه بينَ حرفِ العطْفِ والمعطوفِ بالجارِّ والمجرورِ نحو: ضربتُ زيداً، وفي السُّوق عَمراً، فيجِيءُ فيه الخلافُ المشهورُ، انتهى.
          وفيه: أنَّ هذا من العطفِ على معمولَي عاملٍ واحدٍ، وهو جائزٌ إجماعاً كما في ((مغني)) ابن هشامٍ، وإنَّما الخلافُ في العطْفِ على معمُولَي عاملينِ مختلفينِ على تفصيلٍ مذكُورٍ فيه، فاعرفهُ.
          و((هود)) كمَا في ((الفتح)) والبغويِّ: ابنُ عبدِ الله بن رياحِ بنِ جاور بنِ عادِ بنِ عوص بنِ أرم بنِ سامِ بن نوح، هذا هو الرَّاجح في نسبِهِ.
          وقال ابنُ هشامٍ: اسمُه عابرُ بنُ شالخِ بنِ أرفخشذ بنِ سامِ بنِ نوحٍ.
          وقال البغويُّ: قال ابنُ إسحاق: هود بنُ شالخ بنِ أرفخشذَ بنِ سام بنِ نوحٍ، ووقعَ في القسطلانيِّ: شارخ بالرَّاء بدل شالخ باللام، وفي العينيِّ: قال مجاهدٌ: هودُ بنُ عابر، إلى آخر ما مرَّ عن ابنِ هشامٍ، ثمَّ قال: وقال ابنُ هشامٍ: هود اسمُه عابرٌ، ويقال: عبيرُ بنُ أرفخشَذَ، ويقال: الفخشِدُ بن سامِ بنِ نوحٍ، انتهى.
          ولعلَّ ما نقله عن ابنِ هشام وهمٌ في الفهمِ، إذ الذي نقلَهُ في ((الفتح)) عنه بقوله: فقالَ اسمُه عابر يحتملُ أنَّه يعني اسمَ أبيهِ لا هو، فتأمَّل.
          ثمَّ قال العينيُّ: وكانَ هود أشبهُ ولدِ آدمَ بآدمَ خلا يوسفَ، وكانتْ عادٌ ثلاثةَ عشرَ قبيلةٍ ينزلونَ الرَّملَ بالدَّوِّ والدَّهناءِ [وعالج ووبار ويبرين وعمَّان إلى حضرمَوْت] قال: وكان هود من قبيلةٍ يقال لهم: عاد بن عوص بنِ أرم بنِ سام بنِ نوح، وهم عادٌ الأولى وكانوا عرباً يسكنونَ في المواضعِ المذكورةِ، فأرسلَ اللهُ تعالى هوداً إليهم، وكانت عادٌ الذي تسمَّتْ به القبيلة مَلِكُهم، وكان يعبدُ القمر وطال عمرُهُ، فرأى من صلبِهِ أربعةَ آلاف، ولد وتزوَّج ألفَ امرأةٍ، وهو أوَّل من ملَكَ الأرض بعد نوحٍ عليه السَّلام، وعاشَ ألف سنةٍ ومئتي سنة، ولمَّا مات انتقل الملْكُ إلى أكبرِ أولادِهِ، وهو شديد بنُ عاد، فأقامَ خمس مئة سنة وثمانين سنة، ثمَّ مات، وانتقلَ الملكُ إلى أخيهِ شدَّاد بن عاد، وهو الذي بنى إرمَ ذاتِ العمَادِ، وكانت قبائلُ عادٍ التي تسمَّتْ به قد ملكُوا الأرضَ وافتخروا، وقالوا: من أشدُّ منَّا قوَّة، فلمَّا كثرَ طغيانُهم بعثَ الله إليهم هوداً عليه الصَّلاة والسَّلام.
          وجملةُ: ({قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [الأعراف:73]) أي: وحدَهُ ولا تشركُوا به شيئاً، سقطَتْ لأبي ذرٍّ (وَقَوْلِهِ) بالجرِّ معطوفٌ على ((قول)) ويجوزُ رفعُه على وجهين، فافهم ({إذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ} [الأحقاف:21]) في سورة الأحقافِ وصدرُ الآيةِ: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} أي: هوداً.
          والأحقاف _بفتحِ الهمزة وبفاء آخره_،جمع: حِقف _بكسر الحاء المهملةِ_ وهو المعوجُّ من الرَّملِ المستطيلِ المرتفعِ من احقَوقَفَ الشَّيءُ: إذا اعوجَّ، وقال ابن عبَّاس: الأحقاف: سوادٌ بين عمَّان ومُهرة، وعن مقاتلٍ: كانت منازلُ عادٍ باليمنِ في حضرَموتَ بموضعٍ يقال له: مُهرَةَ، إليه تُنسَبُ الجِمالُ المهريَّة، والمرادُ به هاهنا مساكنَ عادٍ.
          وروى عبدُ بن حميدٍ من طريق قتادةَ: أنَّ عاداً كانوا ينزلون الرَّملَ بأرضِ الشَّجر وما والاها، وذكر ابن قتيبةَ: / أنَّهم كانوا ثلاثةَ عشر قبيلةٍ ينزلون الرَّمل بالدَّوِّ والدَّهناءِ وعالِجَ ووِبَار ويبرين وعمَّان إلى حضرموت، وكانت ديارهم أخصبُ البلادِ وأكثرها جِناناً، فلمَّا سخطَ الله عليهم جعلها مفاوزَ، انتهى.
          وقال القسطلانيُّ: وكان قومُ هودٍ يسكنون بين رمالٍ مشرفةٍ على البحرِ بالشَّجرِ من اليمن، وكانوا كثيراً ما يسكنونَ الخيامَ ذواتِ الأعمدَةِ الضِّخامِ، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ. إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر:6-7] وهي عادٌ الأولى التي هي عاد إرم ذات العمَادِ التي لم يخلقْ مثلَهَا في البلادِ؛ أي: مثل قبيلتِهِ، وقيل: مثلَ العمدِ، بخلاف عاد الثَّانية فإنَّها متأخِّرةٌ، قال: ومَن زعمَ أنَّ إرم مدينةٌ تدورُ في الأرضِ فقد أبعدَ النُّجْعةَ، وقالَ: ما لا دليلَ عليهِ ولا برهانَ يعوَّلُ عليه.
          (إِلَى قَوْلِهِ: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس:13]) الجارُ والمجرور متعلِقٌ بمحذوفٍ نحو: اقرأ الآيات إلى: {الْمُجْرِمِينَ} فنتكلَّم عليها على سبيلِ الاختصار فنقول: الغرضُ منها تخويف كفَّارِ مكَّة بما ذكرَ ممَّا وقع لقومِ هودٍ حيث كذَّبوه.
          وجملة: {أَنْذَرَ} متعلِّق بـ{اذْكُرْ} وجملة: {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} حاليَّةٌ أو اعتراضيَّةٌ والمعنى: أنَّ الرُّسل الذين بُعثوا قبل هودٍ، والذين في زمانِهِ، والذين يُبعثون بعدَهُ كلهم مُنذرون نحو إنذارِهِ: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} أي: لا تعبدوا، أو بأن لا تعبدوا، فإنَّ النَّهي عن الشَّيءِ إنذارٌ عن مضرَّتِهِ، {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}؛ أي: هائلٍ بسببِ شِركِكُم {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا}؛ أي: لتصرفنَا {عَنْ آَلِهَتِنَا} عن عبَادتهَا {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} من العذَابِ على الشِّرك {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في وعدك {قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} لا علمَ لي بوقتِ عذَابكُم، ولا مدخلَ لي فيه فأستعجلَ بهِ، وإنَّما علَّمَه عندَ اللهِ فيأتيَكُم به في وقتِهِ المقدَّر له {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} وما على الرَّسولِ إلا البلاغ.
          {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} لا تعلمون أنَّ الرُّسلَ بُعثِوا مبلِّغين منذِرينَ لا معذِّبين مقترحين {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً} سحاباً عَرَضَ في أفقِ السَّماء {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} متوجِّهَ أوديتهِم، والإضافة فيه لفظيَّةٌ، وكذا في قوله: {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} أي: يأتينا بالمطرِ {بَلْ هُوَ}؛ أي: قال هودٌ بل هو {مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ} من العذابِ، وقرئ: ▬قل بل ريح↨ هي ريحُ، ويجوزُ أن يكونَ بدل: {مَا} {فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} صفتها، وكذا قوله: {تُدَمِّرُ} تهلك {كُلَّ شَيْءٍ} من نفوسهِم وأموالهم {بِأَمْرِ رَبِّهَا} وقرئ: ▬تدمر كل شيء↨ من دمَّر دماراً: إذا هلَكَ، فيكون العائدُ محذوفاً، أو الهاء في {رَبِّهَا} ويحتملُ أن يكونَ استئنافاً لدلالة على أنَّ لكلِّ ممكنٍ فناءٌ مقضياً لا يتقَدَّم ولا يتأخَّر، وتكون الهاء لـ{كُلَّ شَيْءٍ} فإنَّهُ بمعنى: الأشياء إذ لا يوجدُ قابضة حركةٍ ولا قابضة سكونٍ إلا بمشيئةٍ، وفي ذكر الأمرِ والربِّ وإضافتهِ إلى الرِّيحِ فوائدٌ سبقَ ذكرهَا مراراً.
          {فَأَصْبَحُوا لَا تُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} فجاءتهم الرِّيحُ فدمَّرتهم بحيث لو حضرْتَ بلادَهُم لا تَرى إلَّا مساكنهُم، وقرأَ عاصم وحمزةُ والكسَائي: {لا يُرى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} بالياءِ المضمومةِ مع رفعِ المسَاكن {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}.
          روي: أنَّ هوداً لما أحسَّ بالرِّيحِ اعتزلَ بالمؤمنينِ في الحَظِيرةِ، وجاءت الرِّيحُ فأمالَتِ الأحقافُ على الكفرةِ، وكانوا تحتَها سبعَ ليالٍ وثمانية أيَّام، ثمَّ كشفَتْ عنهُم واحتملتْهُم وقذفتهُم في البحرِ.
          (فِيْهِ) أي: في هذا البابِ (عَنْ عَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ، عَنْ عَائِشَةَ ♦، عَنِ النَّبِيِّ صلعم) قال في ((الفتح)): أمَّا رواية عطاءٍ وهو: ابنُ أبي رباحٍ، فوصلهَا المؤلِّفُ في باب: ذكرِ الرِّيحِ / من بدءِ الخلقِ، وأوَّله: ((كان إذا رأى مخيَّلةً أقبلَ وأدبرَ)) وفي آخرِهِ: ((وما أدرِي لعلَّه كانَ كما قالَ قوم عادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} الآية)).
          وأمَّا روايةُ سليمان وهو: ابنُ يسار فوَصَلَها المؤلِّفُ في تفسيرِ سورةِ الأحقافِ.
          (وقَوْلِ اللَّهِ ╡) بجرِّ: ((قول)) عطفاً على: ((قول)) السَّابق، فهو من جملةِ التَّرجمة، كذا لأبي ذرٍّ وابنِ عسَاكرَ، ولغيرِهِما: