الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

{وإلى مدين أخاهم شعيبًا}

          ░34▒ (بابُ قولِ اللهِ تعَالَى) أي: في سورةِ الأعرافِ وغيرها ({وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف:85]) الجارُّ والمجرور متعلِّق بـــ{أَرْسَلنَا} مقدَّراً و{أَخَاهُمْ} مفعوله و{شُعَيباً} بدلٌ أو عطفُ بيان منه، وقوله: {مَدْيَنَ} عربيٌّ ممنوعٌ من الصَّرف للعلميَّة والتأنيث؛ لأنَّه اسم بلدةٍ، كما قال المصنِّف تبعاً لأبي عبيدةَ، أو قبيلةٌ على ما قالهُ غيره وهو في الأصلِ جدُّ قبيلةٍ فسمِّيت باسمه، وقيل: إنَّه أعجمِيٌّ فيكون المانعُ له العلميَّةُ والعجمةُ، وهو مدينُ بن إبراهيمَ عليه الصَّلاة والسَّلام وهو من الأعلامِ المنقولةِ عن مصغر شعب.
          قال في ((الفتح)): هو شعيبُ بنُ منكيل بنِ يشجرَ بنِ لاوى بنِ يعقوبَ، كذا قالَ ابنُ إسحاق، ولا يثبُتُ، وقيل: ابن يشجنُ بنُ عنقاءَ بنِ مدينَ / بنِ إبراهيم، وقيل: شعيبُ بنُ صفور بن عنقاءَ بنِ ثابت بنِ مدينَ، وكان مدين ممَّن آمنَ بإبراهيم لمَّا أحرقَ، وزادَ العينيُّ هو شعيبُ بن بويبِ بنِ رعويلَ بنِ عنقاءَ بنِ مدينَ بنِ إبراهيم، وقال وهبُ بن منبَّه: شعيبُ بن عنقاء بنِ بويب بنِ مدينَ.
          وقال الثعلبيُّ: شعيبُ بنُ بحرون بن بويبَ بن مدين، وقيل: شعيبُ بنُ نويلَ بنِ رعويل بنِ بويبَ بنِ عنقاء بنِ مدين، قال: ويقال: جدَّته أو أمُّه بنت لوط، وكان ممَّن آمن بإبراهيم وهاجرَ معه ودخل دمشقَ، وروى ابن حبَّان في حديث أبي ذرٍّ الطويل: ((أربعةٌ من العرَبِ: هود وصالحٌ وشعيبٌ ومحمَّد)) فهي مصروفةٌ، فعلى هذا هو من العربِ العاربةِ، وقيل: إنَّه من بني عنزةَ بن أسد، ففِي حديثِ سلمةَ بن سعيدٍ العنزيِّ أنَّه قدمَ على النبيِّ صلعم فانتسبَ إلى عنزةَ فقال: ((نعمَ الحيُّ عنزةُ مبغيٌّ عليهم منصُورونَ رهطُ شعيبٍ وأختَانُ موسَى)) أخرجَه الطبرانيُّ بسندٍ فيه مجاهيلُ، هذا وقد ذكرَ العينيُّ في ((تاريخه)) شخصاً آخرَ يقال له: شعيبُ بن مهدام بن حضورَ بعثَ إلى أمَّة عظيمَةٍ من ولدِ يافثِ بنِ نوحٍ، وسيأتي ذكرهُ إن شاء الله في التَّتمَاتِ التي ذكرنَاهَا بعد تمامِ الأنبياءِ الذين ذكرهُم البُخاريُّ، وقوله:
          (إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ؛ لأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ) أشارَ بهِ إلى أنَّه على حذفِ مضافٍ؛ أي: أهل، وعلَّلَ ذلك بكونِ مدينَ بلدٌ أو حي لا يرسلُ إليها، وهي على بحرِ القلزمِ محاذيةٌ لتبوك على ستَّة مراحلَ منهَا، وهي الآن خرابٌ وكانَتْ بلدُ شعيبٍ عليه السَّلام وفيها البئرُ التي استسقَى منهَا موسى عليه السَّلامُ لغنم شعيبٍ وفي رهبَانها يقول الشَّاعر:
رُهْبَانُ مَدْيَنَ وَالَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ                     يَبْكُونَ مِنْ حَذَر العَذَابِ قُعُودَا
لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلامَها                     خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعًا وَسُجُودَا
          وكان أهلُها قوماً عرباً يقطعونَ الطَّريق ويخيفون المارَّة ويبخسُونَ المكاييلَ والموازينَ، وكانوا مكَّاسينَ لا يدعُون شيئاً إلا مكَسُوه، وأرسلَ اللهُ تعالى إليهِم شُعيباً ودعاهُم إلى عبَادةِ اللهِ وتوحيدِهِ، وقد ذكرَ اللهُ في القرآنِ في تسعِ مواضعَ منها قولُه في الأعرافِ: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} [الأعراف:85] وذكرَ الآيةَ.
          وقال أهلُ السِّير: أقامَ شعيبٌ عليه السَّلام مدَّة بعدَ هلاكِ قومهِ ووصلَ إليه موسَى وزوَّجَه ابنتَه، وقال ابنُ الجوزيِّ: ثمَّ خرجَ إلى مكَّة وماتَ بها وعمرهُ مائة وأربعونَ سنة ودفنَ في المسجدِ الحرامِ حيالَ الحجرِ الأسودِ، وقال سبطه: وعندَ طبريَّة بالسَّاحل بقريةٍ يقال لها: حطِّين فيها قبرٌ، يقال: إنَّه قبرُ شعيبٍ عليه السَّلام، وقال أبو المفَاخِر إبراهيمُ بن جبريل في ((تاريخه)): إنَّ شعيباً كان عمرُه ستمائةِ سنة وخمسينَ سنة، كذا في العينيِّ.
          وقالَ الأجهوريُّ في ((شرح سيرةِ العراقيِّ)) نقلاً عن الشيخ زرُّوق أنَّ شعيباً عليه السَّلام عاشَ ثلاثة آلافِ سنةٍ وكان في غنمِهِ اثنا عشرَ ألف كلبٍ، انتهى. وهو غريبٌ.
          وكان يقالُ له: خطيبُ الأنبياءِ؛ لحُسْنِ مراجعةِ قومِهِ.
          (وَمِثْلُهُ) أي: ومثلُ مدينَ في حذفِ المضافِ وإقامةِ المضافِ إليه مقَامَه.
          ({وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ وَ} اسْأَلِ {الْعِيرَ} [يوسف:82] يَعْنِي: أَهْلَ الْقَرْيَةِ، وَأَهْلَ الْعِيرِ) لأنَّ القريةَ والعيرَ لا يسألانِ.
          ({وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود:92]) أي: من قولهِ تعالى في سورةِ هود: {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} فسَّره بقوله (لَمْ تلتَفِتُوا إلَيهِ) بتاء الخطابِ، والضَّميرُ في {وَاتَّخَذْتُمُوهُ} راجعٌ إلى الله تعالى، وقيل: / إلى العصيانِ، والمرادُ: واتخذْتُم العصيَانَ عوناً على عداوَتي، فالظِّهريُّ على هذا بمعنَى المعينِ المقوِّي منسُوبٌ إلى الظَّهر بالفتحِ والكسرِ من تغييراتِ النَّسبِ، كقولهم في النَّسبِ إلى الأمس: إمسِيٌّ _بكسر الهمزةِ_،وإلى الدَّهر دُهريٌّ _بضم الدال_.
          (يُقَالُ: إِذَا لَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ) ولأبوي ذرٍّ والوقتِ: <ويقال إذا لم تقض> بالفوقيَّة بدل التحتيَّة.
          (ظَهَرَتْ حَاجَتِي) بفتحِ الظاء المشالَة وفتحِ الهاء والتَّاء بينهما راءٌ ساكنة؛ أي: جعلتها وراءَ ظهري؛ أي: نسيتُها وتركتُها (وَجَعَلْتَنِي ظِهْرِيّاً) أي: جعلتَني وراءَ ظهركَ؛ أي: لم تقضِ حاجَتي، قال الشَّاعر:
وَجَدْنَا بَنِي البَرْصَاءِ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ
          أي: من الذين يظهرون بهم ولا يلتَفتُونَ إليهم (قَالَ) أي: المصنِّف:
          (والظِّهْرِيُّ أَنْ تَأْخُذَ مَعَكَ دَابَّةً أَوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ) أي: تتقوَّى به، قال في ((المنحة)) أشارَ به إلى أنَّ الظهريَّ يقال أيضاً لمَن يأخذُ معهُ دابَّة أو وعاءً يستظهرُ به.
          (مَكَانَتُهُمْ وَمَكَانُهُمْ وَاحِدٌ) بنصبِ اللَّفظينِ وضميرِ الغيبةِ، وفي بعضِ الأصُولِ بجرِّهما، قال في ((الفتح)): هكذا وقعَ وإنَّما هو في قصَّة شعيبٍ ((مكانتَكُم)) في قولهِ تعالى: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [هود:93] وهو قولُ أبي عبيدةَ، قال في تفسيرِ يس في قوله تعالى: {عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس:67] المكان والمكانةُ واحدٌ.
          ({يَغْنَوْا}) أي: من قولهِ تعالى في هود: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [هود:95] (يَعِيشُوا) هذا تفسير أبي عبيدةَ؛ أي: لم ينزلوا فيها ولم يعيشُوا، قال: والمغني الدَّار، والجمع المَغَاني، بالغين المعجمة (يَأْيَسُ) بفتح التحتيَّة فهمزةٌ ساكنة فتحتيَّة مفتوحةٌ؛ أي: (يَحْزَنُ) أشارَ به إلى تفسيرِ: {فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:26] ولأبي ذرٍّ: <تأس> بحذفِ التحتيَّة بعد الهمزةِ تحزن بالفوقيَّة فيهما، وهي أنسبُ بالآيةِ، وهذا ذكرهُ هنا استطرَاداً؛ لأنَّه في قصَّة موسَى ({آسَى}) بمدِّ الهمزةِ من قوله تعالى: {فَكَيْفَ آَسَى} [الأعراف:93] (أَحْزَنُ) برفع النُّون.
          (وَقَالَ الْحَسَنُ:) أي: البصريُّ ({إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}) فسَّره بقولهِ (يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ) قال في ((الفتح)): وصلهُ ابنُ أبي حاتمٍ عنه ومرادُ الحسنِ أنَّهم قالوا لهُ ذلك على سبيلِ الاستعارةِ التَّهكميَّة، ومرادُهم خلاف ذلك كما يقالُ للبَخيلِ الخسيسِ: لو رآك حاتمٌ لسجدَ لك، وقال ابنُ عبَّاسٍ: أرادوا السَّفيه الغَاوِي، والعربُ تصفُ الشيءَ بضدِّه فتقولُ للديغِ: سليمٌ، وللفَلاة: مفازةٌ.
          (▬وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَيْكَةُ↨) أي: بغير همزٍ قبل اللَّام وبعدها وهي قراءةُ نافعٍ وابن كثير وابن عامر (الأَيْكَةُ) أي: من قوله تعالى في أواخر الشعراء: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ} [الشعراء:176] بإثبات الهمزةِ وهي قراءةُ الباقين فهما بمعنى عند مجاهدٍ، لكن في شراَّح الشَّاطبيَّة وغيرها من كتبِ القرَاءاتِ ▬أنَّ ليكةَ↨ مجرورٌ بالفتحةِ وأنَّ اللام فاء الكلمة، فتأمل.
          وقيل: {الْأَيْكَةِ}: غيضَةُ نبتٍ ناعمُ الشَّجرةِ؛ يريد: غيضةً بقرب مدينَ تسكنها طائفةٌ، وقيل: شجرٌ ملتفٌّ، وأمَّا ((ليكة)) بغير همزةٍ فاسم بلدِ قوم شعيبٍ، لكن قال النحَّاس: لا يعلمُ ليكة اسمُ بلد.
          ({يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء:189] إِظْلاَلُ الغَمَامِ العَذَابَ عَلَيْهِمْ) وسقَطَ لأبي ذرٍّ لفظ: <عليهم> و<الغمام> وعلى ثبوتهِ فالعذابُ بالجرِّ بدلٌ أو عطفُ بيانٍ للغمَامِ المجرورِ بالإضافةِ يريدُ تفسيرَ {يَوْمِ الظُّلَّةِ} من قولهِ تعالى: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ} [الشعراء:189] قال في ((العمدة)) و((المنحة)) كالكرمانيِّ: روي أنَّه حبسَ عنهم الهواءَ وسلَّطَ عليهم الحرَّ فأخذ بأنفاسِهِم فاضطرُّوا إلى أن خرجُوا إلى البريَّة فأظلتْهُم سحَابةٌ وجدُوا / لها برداً ونسيماً فاجتَمَعوا تحتَها فأمطرَتْ عليهم ناراً فاحترقُوا وكان شعيبٌ عليه السَّلام مبعوثاً إلى أصحابِ مدينَ وإلى أصحابِ الأيكةِ فأهلكَتْ مدين بصيحةِ جبريل عليه السلامُ وأهلكَتْ أصحابُ الأيكةِ بعذابِ يومِ الظلَّة.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): لم يذكر المصنِّف في قصَّة شعيبٍ سوى هذهِ الآثار، وهي للكشميهنيِّ والمستملِيِّ وقد ذكرَ الله قصَّته في الأعرافِ وهود والشُّعراء والعنكبوت وغيرها، قال: وجاءَ عن قتادةَ أنَّه أرسلَ إلى أُمَّتين أصحاب مدينَ وأصحابِ الأيكةِ، ورجِّحَ بأنَّه وصفٌ في أصحابِ مدينَ بأنَّه أخوهُم بخلافِ أصحَابِ الأيكَةِ، وقال في أصحابِ مدينَ: أخذتهم الرجفة والصيحة وفي أصحابِ الأيكةِ أخذهم عذاب يوم الظلة والجمهورُ على أنَّ أصحابَ مدينَ هم أصحابُ الأيكةِ، وأجابوا عن تركِ ذكر الأخوةِ في أصحابِ الأيكة بأنَّهم لما كانوا يعبدونَ الأيكةَ، ووقعَ في صدرِ الكلام بأنَّهم أصحاب الأيكةِ ناسبَ أن لا يذكرَ الأخوة، وعن الثَّاني بأنَّ المغايرةَ في أنواعِ العذابِ إن كانت تقتَضِي المغَايرةَ في المعذَّبين فليكُنْ الذين عذِّبوا بالرَّجفةِ غيرَ الذين عذبوا بالصَّيحةِ، والحقُّ أنهم أصابَهم جميعُ ذلك فإنَّهم أصابهم حرٌّ شديدٌ فخرجُوا من البيوت فأظلَّتهُم سحابةٌ فاجتمعوا تحتَها فرجفَتْ بهمُ الأرض من تحتِهِم وأخذتهم الصَّيحةُ من فوقهِم.
          وسيأتي الكلامُ على ذلك إن شاءَ الله بأبسطَ في التَّفسير.