الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب}

          ░40▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) أي: في ص، وسقطَ لفظُ: <بابُ> لأبي ذرٍّ، فما بعدَه مرفوعٌ ({وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} [ص:30]) مفعولُ: {وَهَبْنَا} وتقدَّمَ بيانُ نسَبِ أبيهِ داودَ إلى إبراهيمَ عليهِم السلامُ، وهو ممنوعٌ من الصرفِ للعلَميَّةِ والعُجمةِ كأبيه، ويجوزُ فيه أن يكونَ منعُه للعلميَّةِ وزيادةِ الألفِ والنُّونِ، ووزنُه: فُعَيلانُ ({نِعْمَ الْعَبْدُ}) أي: سليمانُ، فالمخصوصُ بالمدحِ محذوفٌ كما قدَّرْناه ({إِنَّهُ}) أي: سليمانَ ({أَوَّابٌ}) أي: كثيرُ الرجوعِ إلى اللهِ تعالى، وقد ملَكَ وهو ابنُ ثلاثةَ عشَرَ سنةً، وماتَ وعمرُه ثلاثةٌ وخمسون سنةً، قيل: ودُفنَ عند قبر إبراهيمَ عليهما السلام، فمدةُ مُلكِه أربعون سنةً، ذكرَه البغويُّ وغيرُه.
          وقوله: (الرَّاجِعُ الْمُنِيبُ) تعليلٌ لمدحِ سليمانَ، وتفسيرٌ لـ{أوَّاب} قاله في ((الفتح)) و((العمدة)) وفسَّرَ مجاهدٌ الأوابَ بأنه الرجَّاعُ عن الذُّنوبِ، وقال قتادةُ: المطيعُ، وقال السُّديُّ: المسبِّحُ، وهي متقَاربةٌ، وقال في ((المنحةِ)): ((المنيبُ)) معناه: الرَّاجعُ، فلو اقتصَر البخاريُّ على المنيبِ لَكانَ أَولى وأخصرَ، انتهى، فتأمله.
          (وَقوْلُهُ تعَالَى) حَاكياً (قوْلَ سُليمَانَ: {هَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]) هذه الجملةُ بينها وبينَ الآيةِ السَّابقةِ أربعُ آياتٍ، وصدرُ هذه الجملةِ: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} فلو ذكرَ البخاريُّ صدرَ الآيةِ أو الواوَ لَكانَ أولى.
          قولُه: {مُلْكاً} بضمِّ الميمِ وسكون اللام، ففي ((المصباحِ)): ملَكَ مَلْكاً _من باب: ضرَبَ_، والمِلكُ _بكسر الميم_: اسمٌ منه، والفاعلُ: مالكٌ، والجمعُ: مُلَّاكٌ؛ ككافرٍ وكفَّارٍ، وبعضُهم يجعلُ المِلكَ _بكسر الميم وفتحِها_ لغتيَن [في] المصدرِ، وملَكَ على الناسِ: أمرَهم إذا تولَّى السلطنةَ، / فهو ملِكٌ _بكسر اللام_،والسُّكونُ تخفيفٌ، والجمعُ: ملوكٌ؛ كفَلْسٍ وفُلوسٍ، والاسمُ: المُلكُ _بضم الميم_، وملَّكْناه علينا _بالتشديد_ فتملَّك، انتهى.
          وقال في ((القاموس)): ملكَه يملِكُه مِلكاً مثلَّثةٌ، وملَكةً محركةٌ، ومَمْلُكةً _وبضمِّ اللَّامِ أو تُثلَّثُ_:احتواه قادراً على الاستبدادِ منه، وما له مِلكٌ، مثلَّثٌ ويحرَّكٌ، وبضمَّتَين: شيءٌ يملِكُه، وأملَكَه الشيءَ وملَّكَه إيَّاه تمليكاً بمعنًى.
          ثمَّ قال: والمُلكُ بالضمِّ: معروفٌ، ويؤنَّثٌ، والعظَمةُ وحَبُّ الجُلبانِ، والماءُ القليلُ، وبالفتحِ وككَتِفٍ وأميرٍ وصاحبٍ: ذو المُلكِ، والجمعُ: ملوكٌ وأملاكٌ ومُلَكاءُ ومُلاَّكٌ ومُلَّكٌ؛ كرُكَّعٍ، والأُملوكُ _بالضمِّ_:اسمٌ للجميعِ، وقومٌ من العربِ، أو هم مَقاوِلُ حِميَرَ، وملَّكُوه تمليكاً وأملَكُوه: صيَّروه ملِكاً، والملَكوتُ كرهَبوتٍ وتَرقُوَةٍ: العزُّ والسَّلطَنةُ، والمملَكةُ، وتُضَمُّ: عزُّ الملِكِ وسُلطانُه وعبيدُه، وبضمِّ اللامِ: وسَطُ المملَكةِ، انتهى.
          وجملة: {لَا يَنْبَغِي} إلخ صفةُ: {مُلْكاً} أي: لا يحصُلُ لأحدٍ من بعدي، وكذا لا يكونُ لأحدٍ في زمني من بابِ أَولى.
          وقال البيضَاويُّ: أي: لا يتسهَّلُ له ليكونَ مُعْجزةً منَاسبةً لحالي، أو لا ينبغِي لأحدٍ أن يسلِبَه منِّي بعد هذه السَّلبةِ، أو لا يصحُّ لأحدٍ من بعدي لعظَمتِهِ؛ كقولِك: لفلانٍ ما ليسَ لأحدٍ من الفضلِ والمالِ، على إرادةِ وصفِ المُلكِ بالعِظَمِ، لا أن لا يُعطى أحدٌ مثلَه، فيكونَ منافسةً، وتقديمُ الاستغفارِ على الاستيهابِ لمزيدِ اهتمامِه بأمرِ الدينِ، ووجوبِ تقديمِ ما يجعلُ الدعاءَ بصددِ الإجابةِ، انتهى.
          والصَّحيحُ كما قال ابنُ كثيرٍ أنَّه سأل مُلكاً لا يكونُ لأحدٍ من البشرِ مثلُه، كما هو ظاهرُ سياقِ الآيةِ، فتدبَّر.
          ومن عظيمِ مُلكِه أنَّه كان عسكَرُه مائةَ فرسَخٍ، للإنسِ خمسةٌ وعشرونَ فرسخاً، ومثلُها للجنِّ، ومثلُها للطَّيرِ، ومثلُها للوحشِ، وكان له بساطٌ يجلِسُ عليه هو وعسكَرُه، وسُخِّرت له الريحُ تسيرُ به في يومٍ واحدٍ مسيرةَ شهرَين، غدوُّها شهرٌ، ورواحُها شهرٌ.
          وذكر العينيُّ في ((تاريخِه)) بأنَّ سليمانَ عليه السلامُ كان له مدينةٌ يسافرُ بها في الهواءِ، قال: وكانت من قواريرَ، عشَرةُ آلافِ ذراعٍ في ألفِ ذراعٍ، فيها ألفُ سقفٍ، ما بين كل سقفَينِ عشَرةُ أذرُعٍ، في كلِّ سقفٍ ما يُحتاجُ إليه من المساكنِ والثيابِ والمرافقِ، سِفلُها أغلظُ من الحديدِ، وأعلاها أرقُّ من الماءِ، يُرى داخلُها من خارجِها؛ أي: وبالعكسِ، صفاؤُها كالشمسِ بالنَّهارِ، والقمرِ بالليلِ، وعلى السقفِ الأعلى قبَّةٌ بيضاءُ عليها علمٌ أحمرُ يستضيءُ به في الليلِ الداجي العسكرُ كلُّه، يتلألأ شعاعُه حدَّ البصرِ، وللمدينةِ من الأركانِ ألفُ ركنٍ على مناكبِ الشَّياطينِ، تحت كلِّ ركنٍ منها عشَرةٌ منهم، تسَعُ سليمانَ وجنودَه عُلوًّا وسُفلاً، وتحمِلُها الريحُ إلى حيثُ يشاءُ، وكانت تلك المدينةُ له مستقرًّا يأكلُ ويشربُ ويتمتَّعُ فيها، وفي أسفلِها مرابطُ وإصطَبلاتٌ يربطُ بها خيلَه ودوابَّه، انتهى.
          وهذا الذي طلبَه من ربِّه ╡ كان بعد أن سُلبَ المُلكَ أربعين يوماً لأخذِ صخرٌ الجنيٌّ _بعد أن تصوَّرَ بصورتِهِ_ خاتمَه الذي جعل اللهُ له فيه المُلكَ والتَّصرُّفَ.
          وفي البغويِّ: قال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ: يريدُ: هب لي مُلكاً لا تسلُبُنِيه في باقي عمرِي وتعطيه غيرِي، كما أُسلبتُه في ماضِي عمُري، وقيل: سأل ذلك ليكونَ علماً على قَبولِ توبتِهِ؛ حيث أجابَ اللهُ دعاءَه، وردَّ إليه مُلكَه، وزادَه فيه.
          وتتمةُ الآيةِ: {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] أي: فتُعطِي ما تشاءُ لمَن تشاءُ، ومنه: تسخيرُ الرِّياحِ والشياطينِ، كما قال تعالى معقِّباً دعاءَه: {فَسَخَّرْنَا لَهُ} أي: لسُليمانَ {الرِّيحَ} / أي: فذلَّلناها لطاعتِهِ إجابةً لدعوتِه، وقُرئ: ▬الرياح↨ {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} ليَّنةٍ، من: الرَّخاوةِ، لا تزعزِعُ ولا تُخالفُ إرادتَه؛ كالمأمور المنقادِ حيثُ أصابَ؛ أي: أراد، من قولِهم: أصابَ الصَّوابَ فأخطأ الجوابَ، والشياطينُ عطفٌ على: {الرِّيحَ} {كُلَّ بنَّاءٍ وغَوَّاصٍ} بدلٌ منه {وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} عطفٌ على: {كُلَّ} كأنَّه فصَّلَ الشياطينَ إلى عمَلَةٍ استعملَهم في الأعمَالِ الشاقَّةِ كالبِناءِ والغوصِ، ومرَدةٍ قُرنَ بعضُهم مع بعضٍ في السَّلاسلِ ليكُفُّوا عن الشرِّ، ولعل أجسامَهم شفَّافة صُلبةٌ، فلا تُرى، ويمكنُ تقييدُها هنا.
          هذا والأقربُ أنَّ المرادَ تمثيلُ كفِّهم عن الشرورِ بالاقترانِ في الصفَدِ؛ وهو: القيدُ، وسميَ به العطاءُ؛ لأنه به يرتبِطُ المنعَمُ عليه، وفرَّقوا بين فعلِهما فقالوا: صفَّدَه: قيَّدَه، وأصفَدَه: أعطاهُ، عكسُ وعَدَ وأوعَدَ، وفي ذلك نكتةٌ.
          {هَذَا عَطَاؤُنَا} أي: الذي أعطَيناك من المُلكِ والبَسطةِ والتسلُّطِ على ما لم يسلَّطْ به غيرُك عطاؤنا {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} فأعطِ مَن شئتَ أو امنَعْ مَن شئتَ {بِغَيْرِ حِسَابٍ} حالٌ من المستكِنِّ في الأمرِ؛ أي: غيرَ محاسَبٍ على الإنفاقِ منه وإمساكِه لتفويضِ التصرُّفِ فيه إليك، أو من العطاءِ، أو صلةٌ له، وما بينَهما اعتراضٌ، والمعنى أنه عطاءٌ جمٌّ لا يكادُ يُمكنُ حصرُه، وقيل: الإشارةُ إلى تسخيرِ الشَّياطينِ، والمرادُ بالمنِّ والإمساكِ: إطلاقُهم وإبقاؤهم في القيدِ {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} في الآخرةِ مع ما له من المُلكِ العظيمِ في الدُّنيا {وَحُسْنَ مَآَبٍ} أي: الجنةَ.
          (وَقَوْلُهُ تَعَالَى) أي: في أثنَاء سُورةِ البقرةِ ({وَاتَّبَعُوا}) عطفٌ على: {نَبَذَ فَرِيقٌ} [البقرة:101] أي: نبذَ فريقٌ من اليهودِ كتابَ اللهِ واتبعُوا ({مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ}) أي: ما تقرؤه وتحدِّثُ به شياطينُ الإنسِ أو الجنِّ من كُتبِ السِّحرِ والشعبَذةِ ({عَلَى مُلْكِ}) أي: على عهدِ ({سُلَيْمَانَ}) أي: ابنِ داودَ عليهما الصَّلاة والسلام، و{تَتْلُوا} حكايةُ ماضيهِ؛ أي: تلَتْ، وعدَّاه بـ{عَلَى} لتضمُّنِه معنى: تكذِّبُ، وقيل: {عَلَى} بمعنى: في، قيل: كانتِ الشَّياطينُ قبل سليمانَ يسترِقُون السَّمعَ من الملائكةِ ممَّا يريدُ اللهُ تعالى أن يحدِثَه، ثمَّ يضُمُّون إلى ما سمِعُوا أكاذيبَ ويُلقونَها إلى الكهَنةِ، ويدوِّنونَها ويعلمونَها الناسَ، وفشا ذلك في عهدِ سليمانَ حتى قيل: إنَّ الجنَّ تعلمُ الغيبَ، وإن مُلكَ سليمانَ ما تمَّ إلا بهذا العلمِ، وإنَّه إنما سُخرَ له الإنسُ والجنُّ وغيرُهما به.
          وقال البغويُّ: وقصَّةُ الآيةِ أنَّ الشياطينَ كتبُوا السِّحرَ والنَّارِنجياتِ على لسانِ آصَفَ بنِ بَرْخيَا: هذا ما علَّمَ آصَفُ سليمانَ الملكَ، ثمَّ دفَنُوها تحت مصلَّاه حين نزعَ اللهُ منه المُلكَ، ولم يشعُرْ بذلك سليمانُ، فلمَّا ماتَ استخرجُوها وقالوا للناسِ: إنَّما ملكَكُم سليمانُ بهذا، فتعلَّمُوه، فأمَّا علماءُ بني إسرائيلَ وصُلحاؤُهم فقالوا: معاذَ اللهِ أن يكونَ هذا علمَ سليمانَ، وأما السَّفلَةُ والأشرارُ فقالوا: هذا علمُ سليمانَ، وأقبلُوا على تعليمِه، ورفضُوا كُتبَ أنبيائهم، وفشَتِ الملامةُ لسليمانَ، فلم تزَلْ هذه حالُهم حتى بعثَ اللهُ تعالى محمَّداً صلعم، وأنزلَ عليه براءةَ سليمانَ.
          أي: من ذلك بهذه الآيةِ، حيثُ قالَ تعالى: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة:102] وعبَّرَ عن السحرِ بالكفرِ مبالغةً في التنفيرِ عن السِّحرِ، ومَن كان نبيًّا لا يصنعُه.
          وذكر البغويُّ وغيرُه من المفسرين أموراً أخرى في سببِ نزولِ الآيةِ وما يتعلَّقُ بذلك، فقيل: إنَّ سليمانَ عليه السلام لمَّا بلغَه ما وقعَ من الشياطينِ وما كتبُوه جمعَ الكُتبَ وجعلَها في صندوقٍ تحتَ كرسيِّه، ولم يكُنْ يدنو أحدٌ من كرسيِّه إلا احترقَ، فلمَّا ماتَ عليه السلام تمثَّلَ شيطانٌ في صورةِ آدميٍّ، وجاءَ نفراً من بني إسرائيلَ، / فدلَّهم على تلك الكُتبِ، فأخرَجُوها، وقال لهم: إن سليمانَ كان ساحِراً _معاذَ الله_،ولذا كذَّبهم اللهُ بقولِهِ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة:102] الآيةَ.
          ({وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}) لو قال البخاريُّ: وقولِ اللهِ تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ} إلخ، كما هو عادتُه في نظائرِه، لَكان أَولى، وهذه الآيةُ في أوائلِ سورةِ سبأَ؛ أي: وسخَّرْنا لسليمانَ الريحَ، فكانَتْ تجري بأمرِه ليِّنةً حيثُ أرادَ، فكانت تسيرُ به مسيرةَ شهرَين في يومٍ غدوةً شهرٌ وعشيةً شهرٌ، فـ{الرِّيحُ} مفعولٌ لـسَخَّرْنا مقدراً، والجملةُ معطوفةٌ على: {ولَقَدْ آتَينَا دَاوُدَ}.
          قال البيضاويُّ: وقُرئَ: ▬الريحُ↨ و▬الرياحُ↨ بالرفع؛ أي: ولسليمانَ الريحُ مسخَّرةٌ، ونسبَ البغويُّ قراءةَ: ▬الرِّيحُ↨ مفرداً بالرفع لأبي بكرٍ عن عاصمٍ.
          وقولُه: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} مبتدأٌ وخبرٌ على حذفِ مضافٍ؛ أي: مسيرُها بالغداةِ مسيرةُ شهرٍ، وبالعشيِّ كذلك، قال البغويُّ نقلاً عن الحسنِ: كان سليمانُ يغدُو من دمشقَ فيَقيلُ بإصطَخَر، وبينَهما مسيرةُ شهرٍ، ثمَّ يروحُ من إصطَخرَ فيبيتُ بكابُلَ، وبينهما مسيرةُ شهرٍ للراكبِ المسرعِ.
          وقيل: إنَّه كان يتغدَّى بالرِّيِّ ويتعشَّى بسَمَرقندَ.
          وقال البيضاويُّ: وقُرئَ: ▬غدوتُها↨ و▬روحتُها↨ بالتاء.
          ({وَأَسَلْنَا}) من: الإسَالةِ؛ وهو: السَّيلانُ والجريُ، قال البيضاويُّ: أسالَه من معدنِه، فنبعَ منه يَنبوعُ الماءِ، فلذا سمَّاه عيناً، انتهى.
          قيل: لم يذُبِ النُّحاسُ لأحدٍ قبله ({لَهُ}) أي: لأجلِ سليمانَ ({عَيْنَ الْقِطْرِ}) بكسر القاف؛ أي: (أَذَبْنَا لَهُ عَيْنَ الْحَدِيدِ) فسَّرَ البخاريُّ {القِطْرِ} بالحديدِ، وفسَّرَه غيرُه بالنُّحاسِ، ففي البغويِّ: قال أهلُ التفسيرِ: أُجريَت له عينُ النحاسِ ثلاثةَ أيامٍ بلياليهَا كجريِ الماءِ، وكانت العينُ بأرضِ اليمنِ، وإنَّما ينتفعُ الناسُ اليومَ بما أخرجَ اللهُ منها لسليمانَ، انتهى.
          وقال في ((القاموس)): القِطرُ _بالكسر_: النُّحاسُ الذائبُ، أو ضربٌ منه.
          ({وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ}) {مِنَ الجنِّ} حالٌ من قولِهِ: {مَنْ يَعْمَلُ} المعطوفِ على: {الرِّيحِ} في قولِه: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ} أو {مَنْ} مبتدأٌ مؤخَّرٌ، و{مِنَ الجِنِّ} خبرٌ مقدَّمٌ، والجملةُ معطوفةٌ، وفي التعبيرِ بـ{مِنْ} التبعيضيَّةِ إشارةٌ إلى أنَّ الذي يعملُ له ليس جميعُ الجنِّ.
          {بإِذْنِ رَبِّهِ} أي: بأمرِ ربِّه، فهو مصدرٌ مضافٌ لفاعلِهِ {ومَنْ يَزِغْ مِنهُمْ عَنْ أَمرِنَا} {يَزِغْ} بفتحِ التحتيَّة وكسرِ الزَّاي؛ أي: يمِلْ، مجزومٌ بـ{مَن} الشَّرطيةِ الواقعةِ مبتدأً، وقُرئَ: ▬يُزِغْ↨ بضم الياء، من: أزاغَه ({نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} [سبأ:12]) بجزمِ: {نُذِقْهُ} جوابُ الشَّرطِ، والمعنى: ومَن يعدِلْ من الجنِّ عن أمرِ سليمانَ يعذِّبْه اللهُ في الآخرةِ من عذابِ جهنَّمَ، وقال البيضَاويُّ: من عذابِ الآخرةِ.
          وقال البغويُّ: وقيل: نُذقْه من السَّعيرِ من الدُّنيا، وذلك أنَّ اللهَ تعالى وكَّلَ بهم ملَكاً بيدِه سَوطٌ من نارٍ، فمَن زاغَ منهم عن أمرِ سليمانَ ضَربَه ضربةً أحرقَتْه.
          ({يَعْمَلُونَ}) أي: الجِنُّ ({لَهُ}) أي: لسُليمانَ ({مَا يَشَاءُ}) أي: يريدُه ({مِن مَحَارِيبَ}) بالمنعِ من الصَّرفِ لصيغةِ مُنتهى الجموعِ.
          (قَالَ مُجَاهِدٌ: بُنْيَانٌ مَا دُونَ الْقُصُورِ) قال في ((المنحة)): ((ما)) زائدَةٌ، وأقولُ: كونُهَا مَوصُولةٌ أو نَكِرةٌ مَوصُوفةٌ، وهذا التَّعليقُ وصَلَه عبدُ بنُ حُميدٍ عن مجاهدٍ، وقال أبو عُبيدةَ: المحاريبُ: جمعُ: محرابٍ، وهو: مقدَّمُ كلِّ بيتٍ، وقال البيضَاويُّ: قصورٌ حَصِينةٌ ومسَاكنُ شريفةٌ، سمِّيَتْ بها لأنَّها يُذبُّ عنها ويُحاربُ عليها.
          وقال البغويُّ: المساجدُ والأبنيةُ المرتفعةُ، وكان ممَّا عمِلُوا له بيتُ المقدِسِ، ابتدأَه داودُ ورفعَه قامةَ رجلٍ، فأوحى اللهُ تعالى إليه: إنِّي لم أقضِ ذلك على يدِك، ولكن ابنٌ لك أملِّكُه بعدُ اسمُه سليمانُ، أقضي إتمامَه على يدِه، فلمَّا توفَّاه اللهُ استخلَفَ سليمانَ، فأحبَّ إتمامَ بناءِ بيتِ المقدسِ، فجمَعَ الجنَّ والشياطينَ، / وقسَّمَ عليهم الأعمالَ، فأرسلَ الجِنَّ والشياطينَ في تحصيلِ الرُّخامِ والمها الأبيضِ من معادنِه، وأمرَ ببناءِ المدينةِ بالرُّخامِ والصُّفَّاحِ، وجعلَها اثنَي عشَرَ رَبَضاً، وأنزلَ كلَّ ربَضٍ منها سِبطاً من الأسباطِ، وكانوا اثنَي عشَرَ سِبطاً، فلمَّا فرغَ من بناءِ المدينةِ ابتدأَ في بناءِ المسجدِ، فوجَّهَ الشياطينَ فِرَقاً فِرَقاً يستَخرِجونَ الذهبَ والفضةَ والياقوتَ من معادنِها، والدرَّ الصافيَ من البحرِ، وفِرَقاً يقلَعونَ الجواهرَ والحجارةَ من أماكنِها، وفرقةً يأتونَ بالمسكِ والعنبَرِ وسائرِ الطِّيبِ من أماكنِها، فأتى من ذلك شيءٌ لا يُحصيه إلا اللهُ تعالى.
          ثمَّ أحضرَ الصُّنَّاعَ وأمرَهم بنحتِ تلك الحجارةِ المرتفعةِ وتصييرِها ألواحاً، وإصلاحِ تلك الجواهرِ وثَقبِ تلك اليواقيتِ واللآلئِ، فبنى المسجدَ بالرُّخامِ الأبيضِ والأصفرِ والأخضرِ، وعمَّدَه بأساطينِ المها الصَّافي، وسقَّفَه بألواحِ الجواهرِ الثمينةِ، وفصَّصَ سقوفَه وحيطانَه باللآلئِ واليواقيتِ وسائرِ الجواهرِ، وبسَط أرضَه بألواحِ الفيرَوزجِ، فلم يكُنْ يومئذٍ في الأرضِ بيتٌ أبهى ولا أنورَ من ذلك المسجدِ، كان يضيءُ في الظُّلمةِ كالقمرِ ليلةَ البدرِ، فلمَّا فرَغَ منه جمعَ أحبارَ بني إسرائيلَ، فأعلمَهم أنَّه بناه للهِ تعالى، وأنَّ كلَّ شيءٍ فيه خالصٌ، واتخذَ ذلك اليومَ عيداً.
          رويَ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصي عن رسولِ اللهِ صلعم أنَّه قال: ((لمَّا فرغَ سليمانُ من بناءِ بيتِ المقدسِ سألَ ربَّه ثلاثاً، فأعطاهُ اثنتَين، وأنا أرجو أن يكونَ أعطاهُ الثَّالثةَ، سألَ حُكماً يصادفُ حُكمَه، فأعطاهُ إيَّاه، وسألَه مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعدِه، فأعطاهُ إيَّاه، وسألَه أن لا يأتيَ أحدٌ هذا البيتَ يصلِّي فيه ركعتَين إلَّا خرجَ من ذنوبِه كيومَ ولدَتْه أمُّه، وأنا أرجو أنْ يكونَ قد أعطاه ذلك)).
          قالوا: فلم يزَلْ بيتُ المقدسِ على ما بناه سليمانُ حتى غَزاه بُختَنصَّرُ، فخرَّبَ المدينةَ وهدَمَها، ونقضَ المسجدَ، وأخذَ ما كان في سقوفِه وحيطانِه من الذَّهبِ والفضَّةِ والدُّرِّ والياقوتِ وسائرِ الجواهرِ، فحمَلَه إلى دارِ مملكتِه من أرضِ العراقِ، فعليه لعنةُ المليكِ الخلَّاقِ {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114].
          وقد استعملَ سليمانُ عليه السلامُ الشياطينَ والجنَّ في عملِ أشياءَ شاقَّةٍ غريبةٍ، فمن ذلك أنَّ الشياطينَ بنَوا لسليمانَ باليمنِ حصوناً كثيرةً عجيبةً من الصَّخر.
          قوله: ({وَتَمَاثِيلَ}) معطوفٌ على: {مَحَارِيبَ} و{تَمَاثِيلَ} جمعُ: تِمثالٍ؛ وهي: الصُّورُ، وكان عملُها في الجدرانِ ونحوِها جائزاً في شريعتِهم، كما أنَّ عيسى كان يتَّخذُ صُوراً من الطِّينِ، فينفخُ فيها فتكونُ طيراً، كذا في البغويِّ.
          وقال البيضاويُّ وغيرُه: كانوا يصوِّرون الملائكةَ والأنبياءَ والصَّالحينَ على ما اعتادوا من العبادةِ في المساجدِ ونحوِها؛ ليراها الناسُ فيرغبُوا في العبادةِ، وقيل: إنَّهم عمِلُوا لسليمانَ أسدَينِ في أسفلِ كرسيِّه، ونسرَينِ فوقَه، فإذا أراد أن يصعدَ بسَطَ الأسَدانِ لهُ ذراعَيهما، وإذا قعدَ أظلَّه النسرانِ بأجنحتِهما، رواه ابنُ أبي حاتمٍ عن كعبٍ في خبرٍ طويلٍ عجيبٍ في صفةِ كرسيِّه عليه السلام.
          ({وَجِفَانٍ}) بكسر الجيم، جمعُ: جَفنةٍ _بفتحِها_، وهي: القصعةُ الكبيرةُ، ولذا قال: ({كَالْجَوَابِ}) بفتح الجيمِ؛ أي: (الْحِيَاضِ لِلإِبِلِ) قال العينيُّ: شُبِّهتِ الجِفانُ بالجَوابي، وشُبهتِ الجَوابي بالحِياضِ التي يُجبى فيها الماءُ؛ أي: يُجمعُ، واحدُها: جابيةٌ، قال الأعشى:
ترُوحُ عَلى آلِ المحلَّقِ جَفْنةٌ                     كجَابِيةِ الشَّيخِ العِرَاقِيِّ تَفْهَقُ
          قال: ويقالُ: كان يقعدُ على الجَفنةِ الواحدةِ من جِفانِ سليمانَ عليه السلام ألفُ رجلٍ يأكلونَ بين يدَيه.
          (وَقَالَ اِبْنُ عَبْاَس) ☻ (كَالْجَوْبَةِ) أي: الجِفانُ كالجَوبةِ (مِنَ الأَرْضِ) وهي _بفتح الجيم فواو ساكنة فموحدة_: الفرجةُ في السحابِ وفي الجبلِ، وموضعٌ في الحَرَّةِ / ينكشِفُ وينقطِعُ عنها، يقالُ: انجابَتِ السَّحابةُ: انكشفَتْ ({وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ}) قال البغويُّ: ثابتاتٍ لها قوائمُ لا يُحرَّكنَ عن أماكنِها لعِظَمِها، ولا ينزِلنَ ولا يُعطَّلنَ، وكان يُصعدُ عليها بالسَّلالمِ، وكانت باليمنِ.
          ({اعمَلُوا آلَ}) أي: يا آلَ ({دَاودَ}) قيل: المرادُ: داودُ نفسُه، وقيل: داودُ وسليمانُ وأهلُ بيتِهِ، قال جعفرُ بنُ سليمانَ: سمِعتُ ثابتاً يقولُ: كان داودُ نبيُّ الله صلعم قد جزَّأَ ساعاتِ الليلِ والنَّهارِ على أهلِهِ، فلم تكُنْ تأتي ساعةٌ من ساعاتِ اللَّيلِ والنَّهارِ إلا وإنسانٌ من آلِ داودَ قائمٌ يصلِّي، كذا في البغويِّ.
          ({شُكْراً}) قال البيضَاويُّ: حكايةٌ عمَّا قيلَ لهم، و{شُكْراً} نصبٌ على العلةِ؛ أي: اعملُوا له واعبُدُوه شكراً، أو المصدرِ؛ لأنَّ العملَ له شكراً، والوصفُ له، أو الحالِ، أو المفعولِ به (إِلَى قَوْلِهِ: {الشَّكُورُ}) وسقطَ من بعضِ الأصولِ: <{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً}> و{الشَّكُورُ} كما قال البيضَاويُّ: المتوفرُ على أداءِ الشُّكرِ بقلبِهِ ولسانِهِ وجوارحِهِ أكثرَ أوقاتِه، ومع ذلك لا يوفِّي حقَّه؛ لأن توفيقَه للشُّكرِ نعمةٌ تستدعي شكراً آخَرَ لا إلى نهايةٍ، ولذلك قيل: {الشَّكُورُ} مَن يرى عجْزَه عن الشُّكرِ، وعن ابن عبَّاسٍ: {الشَّكُورُ} مَن يشكُرُ على أحوالِه كلِّها.
          وقال السُّديُّ: هو مَن يشكرُ على الشُّكرِ ({فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ}) أي: على سليمانَ عليه السَّلام ({الْمَوْتَ}) أي: فلمَّا حكَمْنا عليه بالموتِ ({مَا دَلَّهُمْ}) أي: أصحابَ سليمانَ وأتباعَه، وقال البيضَاويُّ: أي: ما دلَّ الجِنَّ، وقيل: آلَه ({إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ}) قال البيضَاويُّ: هي (الأَرَضَةُ) أُضيفَت إلى فعلِها، وقُرئَ: بفتح الرَّاء، وهو: تأثُّرُ الخشَبةِ من فعلِها، يقالُ: أرَضتِ الأرَضةُ الخشَبةَ أرْضاً، فأرَضَت أرْضاً، مثلُ: أكلَتِ القوادحُ الإنسانَ أكلاً، فأكلَت أكلاً ({تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ}) [سبأ:14] قولُه: (عَصَاهُ) تفسيرُ: {مِنْسَأَتَهُ} هذا قولُ ابنِ عبَّاسٍ، وقد وصلَهُ ابنُ أبي حاتمٍ عنه، وهي مِفعَلةٌ من: نسَأتُ الإبلَ: إذا زجَرتَها وضرَبتَها بالمِنسَأةِ، قاله أبو عبيدةُ.
          وقال البيضاويُّ: {مِنْسَأَتَهُ} عصاتَه، من: نسأتُ البعيرَ: طردتُه؛ لأنَّها يُطردُ بها، وقُرئَ: بفتح الميم وتخفيفِ الهمزة قلباً وحذفاً على غيرِ قياسٍ؛ إذ القياسُ: إخراجُها بينَ بينَ، ▬ومِنساءتَه↨ على مِفعالةٍ كمِيضَاءةٍ في: مِيضأةٍ، و{مِنْسَأَتَهُ} أي: طرفُ عصاه، مشتقٌّ من: سَاةُ القوسِ، وفيه لغتانِ، كما في قِحَةٍ وقَحَةٍ، انتهى.
          وقال البغويُّ: قرأ أهلُ المدينةِ وأبو عمرٍو: ▬مِنساتَه↨ بغير همزة، وقرأ الباقونَ: بالهمزِ، وهي لغتان، ويسكِّنُ ابنُ عامرٍ الهمزةَ، وأصلُها من: نسَأتُ الغنَمَ: زجرتها وسُقتُها، ومنه: نسأَ اللهُ في أجلِه؛ أي: أخَّرَه.
          ({فَلَمَّا خَرَّ}) أي: سقطَ سليمانُ عليه السلامُ على وجهِه ({تَبَيَّنَت}) أي: علِمَتِ الجنُّ بعد التباسِ الأمرِ عليهم وظهرَ لهم ({أَن لَو كَانُوا}) أي: الجنُّ ({يَعلَمُونَ الغَيبَ}) أي: كما يزعُمون ({مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِين} [سبأ:14]) أي: الذي يهينُ صاحبَه، والمرادُ: لو علِمَ الجنُّ بالغيبِ لَعلِمُوا موتَ سليمانَ ولم يستمِرُّوا في العملِ مسخَّرين له.
          قال البغويُّ: وفي قراءةِ ابنِ مسعودٍ وابنِ عباسٍ: ▬تبَّينتِ الإنسُ لو كان الجِنُّ يعلمونَ الغيبَ ما لبِثُوا في العذابِ المهينِ↨ أي: علِمتِ الإنسُ وأيقنَت ذلك، قال: وقرأ يعقوبُ: ▬تُبُيِّنَت↨ بضم التاء والباء وكسر الياء؛ أي: أَعلمَتِ الإنسُ الجنَّ، وتبيَّنَ لازمٌ ومتعدٍّ، انتهى، فتأمله.
          وقال البيضاويُّ: لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعُمونَ لَعلِمُوا موتَه حينما وقعَ، فلم يلبثُوا بعده حولاً في تسخيرِه إلى أن خرَّ وظهرَتِ الجِنُّ، و{أَنْ} بما في حيزِه بدلٌ منه؛ أي: ظهرَ أنَّ الجنَّ لو كانوا يعلمونَ الغيبَ ما لبِثُوا في العذابِ، وذلك أنَّ داودَ عليه السلامُ أسَّسَ بيتَ المقدسِ في موضعِ فُسطاطِ موسى عليه السلامُ قبل تمامِه، فوصَّى به إلى سليمانَ، فاستعملَ الجنَّ فيه، فلم يتِمَّ بعد أن دنا أجلُه وأُعلمَ به، فأرادَ أن يعمِّيَ عليهم موتَه ليُتِمُّوه، فدعاهم فبنَوا عليه صَرْحاً من قواريرَ ليس له بابٌ، فقام يصلِّي متَّكئاً على عصاه، فقُبضَت روحُه وهو متَّكئٌ عليها، فبقيَ كذلك حَولاً حتَّى أكلَتْها الأرَضةُ فخرَّ، ثم فتَحُوا عنه وأرادوا أن يعرِفُوا / وقتَ موتِه، فوضَعُوا الأرَضةَ على العصا، فأكلَتْ يوماً وليلةً مقداراً، فحسَبُوا على ذلك فوجَدُوه منذ سنةٍ.
          وكان عمرُه ثلاثاً وخمسين سنةً، وملَكَ وهو ابنُ ثلاثَ عشْرةَ سنةً، وابتدأَ عِمارةَ بيتِ المقدسِ لأربعٍ مضَين من مُلكِه.
          وقال غيرُه: إنَّه لما دنا أجلُ سليمانَ وأُعلمَ به قال: اللَّهمَّ عمِّ على الجنِّ موتي حتى تعلَمَ الإنسُ أنَّ الجنَّ لا يعلَمون الغيبَ، وكانتِ الجنُّ تخبرُ الإنسَ أنَّهم يعلَمون من الغيبِ أشياءَ، ثمَّ دخلَ مصلَّاه، فقام يصلِّي متَّكئاً على عصاه، فماتَ قائماً، وكان لمصلَّاه كُوًى بين يدَيهِ وخلفِهِ، وكانتِ الجنُّ تنظرُ إلى سليمانَ قائماً، فيظنُّونَه حيًّا يصلِّي، ولا يُنكِرون خروجَه للناسِ؛ لِما يعرِفونَ من عادتِه أنَّه يُطيلُ صلاتَه.
          ({حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص:32]) صدرُ هذه الآيةِ: {إِنِّي أَحْبَبْتُ} وهي في ص، وأصلُ الخيرِ: المالُ الكثيرُ، والمرادُ به: الخيلُ، والعربُ تعاقبُ بين الراء واللام، فتقولُ: ختَلتُ الرجلَ وختَرتُه؛ أي: خدَعتُه، وسمِّيتِ الخيلُ خيراً؛ لأنَّها كما في الحديثِ: ((معقودٌ في نواصيها الخيرُ)) والأجرُ والمغنمُ، و{عَنْ ذِكْرِ رَبِّي}: أي: عن الصَّلاةِ، وكانت العصرَ كما قال قتادةُ، فاشتغلَ عنها بعَرضِ الخيلِ عليه، و{عَنْ} للبدلِ، وفي بعضِ الأصولِ زيادةُ: <مِن ذكْرِ ربِّي>.
          ({فَطَفِقَ مَسْحاً}) بكسرِ الفاء؛ أي: فشرَعَ سليمانُ عليه السلام يمسَحُ مَسحاً ({بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:33]) و{السُّوقِ} بضم السين المهملة، جمعُ: ساقٍ، {وَالأَعْنَاقِ} جمعُ: عُنُقٍ _بضمتين وقد تسكَّنُ النون تخفيفاً_، و{الـ} في اللفظَين عوضٌ عن المضافِ إليه؛ أي: عن سوقِها وأعناقِها، وقولُه: (يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا) تفسيرٌ لقولِه: {مَسْحاً...} إلخ، و((أَعْرَافَ)) جمعُ: عُرْفٍ _بضم العينِ وسكون الراء وبالفاء_ شعرُ عُنقِها، و((عَرَاقِيبَهَا)) جمعُ: عُرقوبٍ؛ أي: يُمِرُّ يدَه على الخيلِ ويمسَحُ أعرافَها وعَراقيبَها حبًّا لها وشفَقةً عليها، قال البغويُّ: وهذا ضعيفٌ.
          وقيل: المراد فطفِقَ يمسَحُ بالسيفِ سوقَ الخيلِ وأعناقَها يقطِّعُها تقرُّباً إلى اللهِ تعالى وطلباً لمرضَاته حيثُ اشتغلَ بعرضِها عليه عن الصَّلاة للعصرِ، وهذا أولى، والأوَّل ضَعيفٌ بالنسبةِ لسُليمانَ؛ لأنَّها شغلتْهُ عن طاعةِ الرَّحمنِ، وحاصِلُ ما ذكره المفسِّرون والشرَّاح من الكلامِ على هذه القصَّة المذكورةِ من قولهِ تعَالى في ((ص)) في معرضِ المدحِ لسليمانَ: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ. إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ. فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ. رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص:30-33] وذلك أنَّ سليمانَ عليه السَّلام، كما قال الكلبيُّ: غزا دمشقَ ونصيبينَ فأصابَ منهمَا ألفَ فرسٍ. وقال مقاتلٌ: ورثَ من أبيهِ داودَ ألفَ فرسٍ، وكان داودُ أصَابها من العمَالقةِ.
          وقال الحسنُ البصريُّ: بلغنِي أنَّها كانتْ خيلاً خرجَتْ من البحرِ لها أجنِحةٌ، ثمَّ إنَّ سُليمان عليه السَّلامُ أراد يوماً أن ينظرَ في هذه الخيلِ فقعَدَ على كرسيِّه بعدَ أن صلَّى الظُّهرَ وأمرَ بعرضِهَا فعرضَتْ عليه منها تسعمائةٍ وبقيَ منها مائةُ فرسٍ، فما في أيدي النَّاس من الخيلِ يقال أنَّه من نسلِ هذه المائة فغابتِ الشَّمسُ وفاتتهُ صلاة العصرِ ولم يُعلموه بالوقتِ هيبةً له عليه السَّلام فاغتمَّ لذلك، فقالَ: ردُّوها عليَّ؛ أي: ردُّوا الخيلَ الَّتي عرضَتْ عليَّ وهي المعبَّر عنها في الآيةِ بالصَّافناتِ الجيَاد، فأقبلَ يضربُ سوقَها وأعناقَهَا بالسيفِ ويقتلُها لفواتِ صلاةِ العصرِ، والمرادُ: أنَّه بعد ضربِ سُوقِها وأعنَاقِها يأمرُ بذبحِهَا وتفريقِهَا على الناس تقرُّباً إلى الله تعالى؛ لأنَّه لا يلزمُ أن تموتَ بالضَّربِ المذكورِ.
          وقال البَغويُّ: وكانَ ذلك مبَاحاً له وإنْ كانَ حرَاماً علينا، كما أُبِيحَ لنا ذبْحُ بهيمَةِ الأنعامِ؛ قال ولو كان حرَاماً عليه لم يفعلْهُ معاذَ اللهِ أن يتوبَ عن ذنبٍ بفعلِ ذنبٍ آخر، فقالَ بعضُهم: إنَّه ذبحهَا وتصدَّقَ بلحمِهَا، وكانَ الذَّبحُ على ذلك الوَجهِ مُباحاً في شريعتِهِ، انتهى فليتأمَّلْ.
          فإنَّه / إذا ذبحَها يكونُ مبَاحاً في سَائرِ الشَّرائعِ، ثمَّ قال: وقال قومٌ: إنَّه حبسَهَا في سبيلِ اللهِ وكوى سُوقِهَا وأعنَاقِها بكيِّ الصَّدقةِ، انتهى.
          ثمَّ قال: قال الحسينُ: لمَّا عقرَ سليمانُ الخيلَ المذكورةَ أبدلَه اللهُ ╡ خيراً منها وأسرَعَ، وهي الريحُ تجرِي بأمرهِ كيف يشاءُ، وقيل: ضمير {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص:33] للشَّمسِ فعن عليٍّ ☺ كما في البَغويِّ: أنَّ سليمانَ عليه السَّلام قالَه بإذنِ اللهِ للملائكةِ الموكَّلين بالشَّمسِ فردُّوها عليه حتَّى صلى العصرَ في وقتهَا، وأمَّا ضميرُ: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] فهو عائدٌ للشَّمسِ، قال البَغويُّ: أي: توارتِ الشَّمسُ بالحجَاب واستَتَرتْ بما يحجبُها عن الأبصَارِ، يقال: الحجَابُ جبلٌ دون فإن بمسيرةِ سنة تغربُ الشمس من ورائهِ، ويحتملُ على بعدٍ عودُ ضَميرِ توارتْ بالحجابِ إلى الخيلِ التي عرضَتْ عليه، فتدبَّر.
          (الأَصْفَادُ: الْوَثَاقُ) يريدُ تفسيرَ الأصفَادِ بالوِثَاق من قولهِ تعالى في ص: {وَآَخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [ص:38] لكن في جعلهِ تفسيراً للأصفَادِ مسَامحةٌ بتقديرِ: مفرد الأصفَادِ الوِثاق؛ لأنَّ الوِثاقَ مفردٌ والأصفادُ جمع صَفَدٍ _بفتحتين_ كسببٍ وأسباب، وهو القيدُ.
          والوثاق _بفتح الواو وكسرِها_ ما يوثقُ به، ويحتملُ أن يقالَ: ال في الوِثاق للجنْسِ فيصدقُ بالجمعِ، وهو كما في البيضَاوِيِّ في تفسير: {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد:4] والمعنى: وآخرينَ من الشَّياطين الذينَ سخَّرهُم الله لسليمانَ مقترنينَ في الأغلالِ والقيود؛ِ لدفعِ شرِّهم عن النَّاسِ.
          (قَالَ مُجَاهِدٌ) وفي بعضِ النُّسخِ: <وقال> بالواو ({الصَّافِنَاتُ} [ص:31]) أي: من قولهِ تعالى في ص: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ} [ص:31] (صَفَنَ الْفَرَسُ) من بابِ ضَرَب، والفرسُ فاعل.
          وقوله: (رَفَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ) تفسيرٌ لـ((صفن))، والصَّافنات جمع صافنةٍ، ويؤخذ تفسيرُها مما ذكرَهُ المصنفُ عن مجاهدٍ تعليقاً، وقد وصَلَه الفِرْيابيُّ عنه، لكن قال: رفَعَ يديهِ مع رجليهِ، وصوَّبه القاضِي عياضٌ دونَ ما هنا، وقال أبو عُبيدة: الصَّافنُ: الذي يجمَعُ بين يديهِ ويثنِّي مقدَّمَ حافرِ إحدى رجلَيهِ.
          وقال الزجَّاج: هو الذي يقفُ على إحدَى يديهِ، ويقفُ على طرفِ سنبكه، وقد يفعلُ ذلك بإحدى رجليهِ، قال: وهو علامةُ الفرَاهَةِ، وقال البيضَاوِيُّ: الصَّافنُ من الخيلِ الذي يقومُ على طرفِ سنبك يدٍ أو رجلٍ، وهو من الصِّفات المحمُودةِ في الخيلِ، ولا يكادُ يكونُ إلا في العرابِ الخلَّصِ.
          ({الْجِيَادُ}) صفةُ {الصَّافِنَاتُ} في الآيةِ.
          (السِّرَاعُ) خبرُ {الجِيَادُ}؛ لأنها هنا مبتدأٌ، والسِّراع _بكسرِ السين_؛ أي: المسرِعةُ في سيرِهَا تفسيرٌ للجيادِ من مجاهدٍ أيضاً، وروى ابنُ جريرٍ أنَّها كانَتْ عشرينَ فرساً ذواتِ أجنِحَةٍ، وذكر ابنُ كثيرٍ والبغويُّ أنها عشرونَ ألفَ فرس، ولا يُنافِي هذا ما تقدَّم عن الكلبيِّ وغيره أنَّها ألف فرسٍ؛ لأنه محمُولٌ على ما غنمَهُ أو ورثَهُ، وما هنا على أعمِّ من ذلك، فاعرفْهُ.
          قوله: ({جَسَداً} شَيْطَاناً) يريدُ تفسيرَ {جَسَداً} بـ((شَيْطَاناً)) من قولهِ تعالى في ص: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} [ص:34] قال في ((المنحة)): اسمُه آصفٌ _بفاءٍ_،أو آصرٌ _براء_ أو صخر جلسَ على كرسيِّ سليمان، وعكفَتْ عليه الطَّير وغيرها فخرجَ سليمانُ في غيرِ هيئتِهِ، فرآهُ على كرسيِّه، وقال للناسِ: أنا سليمانُ، فأنكروهُ، واستمرَّ أربعين يوماً عددَ ما عبدَتِ الصورةُ في بيتهِ، فطارَ الشَّيطان المذكورُ.
          وقال في ((الفتح)) و((العمدة)): قال الفريابيُّ: حدَّثنا ورقاءُ عن / ابنِ أبي نجيحٍ عن مجاهدٍ في قولهِ تعالى: {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً} [ص:34] قال: شيطَاناً يقال له: آصفُ، قالَ له سليمانُ عليه السَّلام كيف تفتنُ الناسَ؟ قال: أرني خَاتمكَ أخبرُك، فأعطَاهُ فنبذَهُ آصفُ في البحرِ فسَاخَ فذهبَ ملكُ سليمانَ وقعدَ آصفُ على كرسيِّه ومنعَه اللهُ من نساءِ سليمان فلم يقربهنَّ، فأنكرتهُ أمُّ سليمان، فكانَ سُليمان يستطعمُ الناس ويعرِّفهم بنفسِهِ، فيكذِّبونَه حتى أعطتْهُ امرأةٌ حوتاً فطيبَ بطنَه فوجدَ خاتمهُ في بطنهِ فردَّ اللهُ إليه مُلكه وفرَّ آصفُ فدخلَ البحرَ.
          وروى ابنُ جريرٍ عن مجاهدٍ من وجهٍ آخرَ أنَّ اسمَه: آصر _براء في آخره بدلَ الفاء_،وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّ اسمَ الجنِّي المذكور صخرٌ، والمشهور أنَّ آصفَ اسمُ الرجلِ الذي كان عندَه علمٌ من الكتابِ، انتهى.
          وأقولُ: لا مانعَ من أن يتَّفقَ اثنان في اسمٍ بل هو الواقعُ كثيراً، فتأمَّلْ.
          ونظرَ العينيُّ في هذا الكلام من وجوهٍ:
          الأول: أنَّه يبعدُ من سليمان أن يناولَ خاتمه لغيرهِ ليراهُ مع علمِهِ أنَّ ملكهُ قائمٌ به.
          الثاني: لا يليقُ أن يقعدَ شيطان على كرسيِّ نبيٍّ مرسلٍ أعطاهُ الله ما لم يعطِ غيرهُ من الملك العظيمِ.
          الثالث: أنَّ آصفَ _بالفاء في آخره_ هو معلِّمُ سُليمان وكاتبُه في أيَّام ملكه، قال: والذي أظنُّ أن سُليمان لما افتتنَ بسببِ ابنةِ الملك صيدونَ واصطَفاهَا لنفسِهِ وأحبَّها صوَّرَتْ في بيتها صُورةَ أبيها وكان سليمانُ إذا خرجَ من عندها تصيرُ هي وجَواريها يعبُدْنَ هذه الصُّورة حتى مضَى على ذلك أربعونَ يوماً وبلغَ ذلك آصفُ بن برخيَا معلِّم سليمان فعتبَ عليه بسببِ ذلك فعندَ ذلك سقطَ الخاتمُ من يدِه وكان كلَّمَا أعادَهُ يسقطُ فأخبرَ آصفُ سليمانَ لمَّا بلغَه الخبرُ ووعظَه، وقال له: كيف يكون في بيتكَ مَن يعبدُ هذِه الملَّة فذهبَ إلى منزلِ زوجتِهِ المذكورةِ فضَربها وكسرَ الصُّورة، وقال له آصفٌ: إنك مفتونٌ ففرَّ إلى الله تعالى تائباً من ذلك، وأنَا أقوم مقَامك، وأسيرُ في عيالكَ وأهلِ بيتكَ بسيركَ إلى أنْ يتوبَ الله عليك ويردَّكَ إلى ملكك ففرَّ سُليمان عليه السَّلام هَارباً إلى اللهِ تعالى، وأخذَ آصفُ الخاتمَ من يدِه فثبتَ مكانه وغابَ سليمانُ مدة أربعينَ يوماً ثمَّ إن اللهَ تعالى لما قبل توبتَه رجعَ إلى منزلهِ، فردَّ الله إليه مُلكَه وأعادَ الخاتم في يدِهِ، وكان الملكُ والتصرُّفُ في ذلك الخاتمِ لسرٍّ فيه كيف وهو من الجنَّة.
          قال ابنُ إسحاق: كانَ ذلك الخاتمُ من ياقوتةٍ خضراءَ أتاه بها جبريلُ عليه السَّلام من الجنَّةِ مكتوبٌ عليها: لا إله إلَّا الله محمَّد رسولُ الله، وهذا الخاتمُ هو الذي ألبسَه الله تعالى آدمَ في الجنة، انتهى.
          وأقول: في بعضِ وجوهٍ نظرٌ، فتأمَّلْ.
          وقيل: المرادُ من الجسدِ في الآيةِ ولده فإنَّه لما وُلد له ولدٌ قالت الشياطين: نقتلُه وإلا لا نعيشُ معه بعده، ولمَّا علم ذلك سليمان أمرَ السَّحاب فحملتْ ابنَه وصار يغذُوه في السَّحاب خوفاً عليه من الشَّياطين فعاتبَهُ اللهُ عليه، فمات الولدُ فألقيَ ميتاً على كرسيِّه فنبَّهه الله بذلكَ على خطأهِ حيث لم يتوكَّلْ على الله تعالى.
          قال العينيُّ: وهذا هو الأنسبُ الأليَقُ من غيره، ويؤيِّده ما قاله الخليل أنَّه لا يقال الجسدُ لغير الإنسان.
          وذكر البَغويُّ قصَّة ابنة ملك صيدونَ المسمَّاة بجرادة مطوَّلة فقالَ في تفسير {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص:34]، اختبرْنَاه وابتلينَاهُ بسلبِ مُلكِه، وكان سببُ ذلك ما ذكرَهُ ابنُ إسحاقَ عن وهْبِ بن منبِّه قال: سمعَ سليمانُ بمدينةٍ في جزيرةٍ من جزائرِ البحرِ، يقال لها: صيدون بها ملكٌ عظيم الشأنِ لم يكنْ للنَّاس إليه سبيلٌ فغزا سليمان تلك المدينةَ تحمله الرِّيحُ على ظهرِ الماءِ حتى نزلَ بها بجنودهِ من الجنِّ والأنسِ، فقتَلَ ملكها واستبقَى ما فيها وأصابَ فيمَن أصابَ / ابنتاً لذلك الملكِ، يقالُ لها: جرادة، لم يرَ مثلها حسناً وجمَالاً فاصطفَاهَا لنفسِهِ، ودعَاها إلى الإسلامِ فأسلَمَتْ على جفاء منها وقلَّة فقهٍ، فأحبَّها سليمان عليه السَّلام حبًّا لم يحبَّه شيئاً من نسَائهِ، وكانت معَ منزلتِها لا يذهبُ حزنُها ولا يرقَأُ دمعُها فشقَّ ذلك على سُليمان، فقالَ لها ويحكَ ما هذا الحزنُ، الذي لا يذهبُ والدَّمعُ الذي لا يرقأ؟ قالت: إنَّ أبي إذا تذكرتُه وتذكرت ما كانَ فيه ومَا أصابَه أحزَنَني ذلكَ وساءَني، فقال لها سليمان: قد أبدَلكِ اللهُ بهِ ملكاً هو أعظمُ من ملكه وسُلطاناً هو أعظمُ من سُلطانه وهداكِ للإسلام وهو خيرٌ من ذلك، قالتْ: إن ذلكَ كذلكَ ولكنِّي إذا ذكرتُه أصابني ما ترى من الحزنِ فلو أنَّك أمرت الشَّياطين فصوَّروا صُورته في دارِي التي أنا فيها أراها بكرةً وعشيًّا لرجوتُ أن يَذهبَ ذلك حزني وأن يسلِّي عنِّي بعضَ ما أجدُ في نفسِي، فأمرَ سُليمانُ الشَّياطين فصوَّروا لها صُورةَ أبيهَا في دارها تامَّة لا تنكرُ منه شيئاً إلَّا أنه لا روحَ فيه فعمَدَتْ إليه فقمَّصتْه وألبسَتْه وعمَّمتْهُ وجعلتهُ كهيئته حالَ حيَاتهِ، ثمَّ إذا خرجَ سُليمانُ من دارها تصيرُ هي وجوارِهَا يسجدنَ له كما كانت تصنعُ به في حياتهِ، وتفعلُ ذلك وسليمان لا يعلم بشيءٍ ممَّا تصنع واستمرَّتْ على ذلك أربعينَ يوماً وبلغَ ذلك آصفَ بن برخيَا وكان صَديقاً لسُليمانَ فأتاهُ لمنزله وكان لا يردُّ عن دخولهِ أيَّ وقتٍ أرادَ فقال له: يا نبيَّ الله كبرتْ سنِّي وحانَ مَوتي، وقد أحببتُ أن أقومَ مقاماً قبلَ موتي أذكرُ فيه مَن مضَى من أنبياءِ الله وأثنِي عليهم بما أعلمُ من أحوالهم، فقال له سليمان: افعلْ فجمَعَ سليمانُ الناسَ له فقامَ فيهم خطيباً فوعظَهُم، وذكَرَ من مضَى من أنبياء اللهِ تعالى وأثنى عليهِم حتى انتهَى إلى سليمانَ، فقال له: ما كانَ أحلمَكَ في صِغركَ وأورَعكَ في صغرِكَ وأحكمَ أمرَكَ في صغرك، ثمَّ انصرفِ فوجد سليمانُ من ذلك وغضبَ غضباً شديداً فلمَّا دخل سليمانُ دارَه أرسل إليه فقال له: يا آصفُ ذكرت مَن مضَى من أنبياء الله وأثنيتَ عليهم، فلمَّا ذكرتني جعلتَ تثني عليَّ بخير في صغري فقط فما الذي حدثَ؟ فقال: إن غيرَ الله ليعبدُ في دارك منذَ أربعين صباحاً في هوى امرأةٍ وفصلَ له القضيَّة، فقال سليمان: في داري فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، فعندَ ذلك كسرَ سليمان الصنَمَ وعاقب جرادةَ وولائدهَا، ثمَّ لبسَ ثيابَ الطُّهرِ فتاب إلى الله تعالى وجلسَ على الرَّماد متضرِّعاً بالتوبةِ وكانَ لا يمسَّ خاتمهُ إلا طاهراً وكان ملكه فيه وإذا أرادَ قضَاءَ حاجتهِ مع أهلهِ، أو أرادَ دخولَ بيت الخلاءِ جعلَه عند أمِّ ولد له يقال لها: الأمينة فإذا تطهَّر أخذَه منها ولبسَه فوضعَه يوماً عندها ودخلَ الخلاء فأتاها الشَّيطان صاحبُ البحرِ، واسمه: صخرٌ، في صورة سليمان فقال: هاتي يا أمينةُ، فناولَتْه إيَّاه لظنَّها أنه سليمانَ، فجعله في يدهِ ثمَّ خرج وجلس على سريرِ سليمان فعكفتْ عليه الطَّير والإنسُ والجنُّ، فجاء سليمانُ فطلبَ الخاتم، وقال: أنا سليمان، فقالتْ: كذبتَ إنَّ سليمان جالسٌ على سَريرِ مُلكه، فعرف سليمانُ أنَّ خطيئته أدركتْه ثمَّ خرجَ وجعلَ يقفُ على دورِ بني إسرائيل، فيقولُ: أنا سليمان فيسبُّونه ويحثونَ عليه الترابَ، ويقولون: انظروا إلى هذا المجنونِ يزعمُ أنَّه سليمان فلمَّا رأى سليمان ذلك عمدَ إلى البحرِ فصارَ ينقلُ لأصحابه السَّمك إلى السُّوق ليبيعوهُ ويعطونَه كلَّ يومٍ سمكتين أجرتَه فيبيعُ واحدةً ويشوي الأخرى فعمدَ إلى التي يشوِيها فبقرَ بطنَها فرأى الخاتم فيهِ فأخذَهُ وسجدَ لله شكراً فعكفتْ عليه الطَّير والجنُّ وأقبلَ عليه الناسُ كمَا كان قبلَ ذلكَ، وذلك عندَ انتهاءِ أربعين يوماً مقدارَ عبادةِ زوجتهِ الصَّنمَ في بيتهِ.
          وذكرَ وجوهاً أخرى وتبعَه / كثيرٌ من المفسِّرين على ذلكَ وفي بعضِها ما لا يجوزُ اعتقَادُه ولا ذكرهُ إلا لبيانِ حالهِ وأقربها إلى الصَّوابِ وأظهرِهَا، كما قال البيضَاوِيُّ: ما رُوي مرفوعاً أنَّه قال: ((لأطوفنَّ الليلةَ على سبعينَ امرأة تأتي كلُّ واحدة بفارسٍ يجاهدُ في سبيل الله، ولم يقلْ: إن شاء اللهُ، فطاف عليهنَّ فلم تحملْ إلا امرأةٌ جاءت بشقِّ رجلٍ، فوالذي نفس محمَّدٍ بيده لو قال: إن شاء اللهُ، لجاهدوا فرساناً)).
          هذا وقد ذكر البَغويُّ والعينيُّ ((تاريخه)) أنَّ سليمان عليه السلام بعد أن عادَ له ملكُه بعود خاتمهِ طلبَ من الشياطينِ أن يحضُروا له صخرَ المتقدِّم الذي فعلَ ما فعلَ وهربَ فأحضَرُوه له فأتى سليمانُ بصخرةٍ وجعلهُ فيها بعد نقرِهَا، ثمَّ سدَّ عليه بأخرى، ثمَّ أوثقَهَا بالحديدِ والرِّصاصِ، وقذفَ بها في البحرِ، وقيل: جعلَهُ في صندوقٍ من حديدٍ ثمَّ أطبَقَ عليهِ، وقفَلَ عليه بقفلٍ وختمَ عليه بخاتمهِ، ثمَّ ألقيَ في البحرِ وهو حي في الصُّندوقِ إلى السَّاعة، ولنرجِعْ للكلامِ على بقيَّة ما ذكره البخاريُّ من المفرداتِ المتعلِّقةِ بالباب.
          فقوله ({رُخَاءً} طَيِّبَةً) يريدُ تفسير رخاء _بالمدِّ وضم الراء_ بطيبة، ولأبي ذرٍّ عن الكشميهنيِّ: <طيباً> بالتذكير وفسَّر بعضُهم رخاء ({حَيْثُ أَصَابَ} حيث شاء {فَامْنُنْ} أَعْطِ {أَو أَمْسِك}) سقطَ: <أو أمسك> من أكثرِ الأصُولِ ({بِغَيْرِ حِسَابٍ} بغير حرجٍ) فلا تحاسبْ عليه، هذا التعليقُ كسابقهِ، وصله الفريابيُّ عن مجاهدٍ، وقال أبو عبيدةَ: بغيرِ حسابٍ؛ أي: بغيرِ ثوابٍ ولا جزاءٍ أو بغير منَّة، ولا قلةٍ، كذا في ((الفتح)).
          وقال الحسن البصريُّ: إنَّ الله لم يعط أحداً عطيَّة إلا جعلَ فيها حسَاباً إلا سليمان فإنَّ الله أعطاهُ عطاءً هنياً فقال: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:39] وقال مقاتلٌ: هذا في أمر الشَّياطين؛ يعني: خلِّ من شئتَ منهم، وأمسِكْ من شئتَ في وثاقكَ، لا تبعَةَ عليك فيمَا تتَعَاطَاه، فتأمَّلْ.