الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: قوله تعالى: {إذ قالت الملائكة يا مريم}

          ░46▒ (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى) وفي بعضِ النُّسخِ: <بابُ قولِه تعالى> وسقَطَ لفظُ: <باب> وحدَه لأبي ذرٍّ، فـ<قولُ> مرفوعٌ لا غيرُ ({إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ}) يعني: جبريلَ وحدَه على ما مرَّ ({يَا مَرْيَمُ إَنَّ اللهَ يُبَشِرَكِ بِكَلِمَةٍ مِنْه}) تقدَّمَ هذا قريباً في بابِ قولِ اللهِ تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ} [مريم:16]، وأنَّ المرادَ بالكلمةِ عيسى عليه السَّلامُ لوجُودِهِ بقولِه تعالى: {كُنْ}، وهي كلمةٌ، فالأَولى إسقاطُه وذكرُ ما زادَه هنا هناكَ أو بالعكسِ، فتأمَّل.
          وسقطَ كما في ((المنحة)) من نسخةٍ قولُه: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ} إلى آخرِ: {عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}، ونسبَ القسطلانيُّ ثبوتَ ذلك لأبي ذرٍّ، وسقوطَه لغيرِهِ، وقال في ((الفتح)): وقعَ في رواية أبي ذرٍّ زيادةُ واوٍ في أوَّلِ هذه الآيةِ، وهو غلطٌ، وإنَّما الواوُ في أوَّلِ الآيةِ التي قبلَها، و{إِذْ} في هذه بدلٌ من: {إِذْ قَالَتِ} في تلك، وما بينهما اعتراضٌ أو بدلٌ من: {إِذْ يَخْتَصِمُونَ}، على أنَّ وقوعَ الاختصَامِ والبشَارةِ في زمانٍ متَّسعٍ؛ كقولكَ: لقيتُه سنةَ كذا، قاله البيضَاويُّ.
          وقوله: ({اسْمُهُ المَسِيحُ}) مبتدأٌ وخبرٌ ({عِيسَى}) خبرٌ بعدَ خبرٍ، أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، أو بدلٌ، أو عطفُ بيانٍ لـ{المَسِيحُ} (ابْنُ مَرْيَمَ) صفةُ: {عِيسَى} مطلقاً، لا بقيدِ كونِهِ خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، وإن قيَّدَ به القسطلانيُّ، ويجوزُ جعلُ: {ابْنُ} خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ، أو عطفَ بيانٍ، أو بدلَ: {مِنْهُ}، فتأمَّل.
          وإنَّما قيل: {ابْنُ مَرْيَمَ} مع أنَّ الخطابَ لها تنبيهاً على أنَّه يولَدُ لها من غيرِ أبٍ، فإنَّ الولدَ ينسَبُ إلى أبيه؛ لقولِه تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] أي: إن كان لهم أبٌ، وإلا فللأمِّ، والمسيحُ كما قال البيضاويُّ لقَبُ عيسى من الألقابِ الشَّريفةِ كالصدِّيقِ، وأصلُه بالعِبرانيَّةِ: مَشِيحا، ومعناهُ: المباركُ، وعيسى معرَّبُ: أيشوعَ، انتهى.
          ويأتي قريباً فيه / زيادةُ بحثٍ.
          (إِلَى قَوْلِهِ: {كُنْ فَيَكُونُ}) أي: من غيرِ مهلةٍ وتراخٍ عن الأمرِ، وقال البيضاويُّ: إشارةٌ إلى أنَّه تعالى كما يقدِرُ أن يخلقَ الأشياءَ قدَّرَها بأسبابٍ، وموادُ يقدِرُ أن يخلُقَها دفعةً من غيرِ ذلك (يُبَشِّرُكِ) هي مشدَّدة الشِّين مع ضمِّ التحتيَّة أوله وفتحِ الموحَّدة (وَيَبْشُرُكِ) أي: مخفَّفتُها، لكنَّها مضمومة معَ سكونِ الموحَّدة قبلها وفتح التَّحتيَّة (وَاحِدٌ) أي: في المعنى، والثَّاني قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ، والأولُ قراءةُ الباقين.
          تنبيه: قراءةُ التَّخفيفِ ماضيها اللَّازمُ من بابِ: فرِحَ وزناً ومعنًى، والمصدرُ: البشُورُ، والاسمُ: الاستبشارُ، وأمَّا المتعدي؛ فهو من باب: قتَلَ، ومصدرُه: البِشرُ، واسمُ فاعلِه: البشيرُ؛ وهو الذي يخبِرُ بما يسرُّ، ولا يستعمَلُ في الشرِّ إلا مَجازاً تهكُّماً، لكن قال في ((المصباح)): البِشرُ في الخيرِ أكثرُ من الشرِّ، انتهى.
          ({وَجِيهاً} [آل عمران:45] شَرِيفاً) أي: في الدُّنيا بالنُّبوةِ، وفي الآخرةِ بالشَّفاعةِ، وهو _كما قالَ البيضاويُّ_ حالٌ مقدَّرةٌ من: {كَلِمَةٍ}، وهي وإنْ كانَتْ نكِرةً لكنها موصُوفةٌ، قال: وتذكيرُه وتذكيرُ الضَّميرِ للمعنَى، ويجوزُ جعلُ: {وَجِيهاً} حالاً من: {عِيسَى}.
          (وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ) أي: النَّخَعيُّ فيما وصله سفيانُ الثَّوريُّ في ((تفسيرِه)) عنه (الْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ) بكسر الصَّاد وتشديد الدال المهملتين، واللامُ فيه للَّمحِ، قال الطبريُّ: مرادُ إبراهيمَ بذلك أنَّ اللهَ مسَحَه فطهَّرَه من الذُّنوبِ، فهو فعيلٌ بمعنى: مفعولٍ، قال في ((الفتح)): وهذا بخلافِ تسميةِ الدَّجالِ بالمسيحِ؛ فإنَّه فعيلٌ بمعنى: فاعلٍ، يقال: سميَ بذلك لأنَّه يمسَحُ الأرضَ، وقيل سميَ بذلك لأنَّه ممسوحُ العين، فهو بمعنى: مفعولٍ، وقيل: المسيحُ في عيسى فعيلٌ بمعنى: فاعلٍ؛ لأنَّه مسَحَ الأرضَ بالسِّياحةِ ولم يستقِرَّ في مكانٍ، وقيل: لأنَّه كان لا يمسَحُ ذا عاهةٍ إلا برِئَ، وقيل لأنَّه كان جميلاً، يقالُ: مسحَه اللهُ؛ أي: خلَقَه خَلْقاً حسَناً، ومنه قولُهم: به مسحةٌ من جمالٍ، قال: وأغرَبَ الدَّاوديُّ فقال: لأنَّه كان يلبسُ المُسوحَ.
          وقال في ((العمدة)): أمَّا معناه في عيسَى عليه السَّلامُ؛ ففيه أقوالٌ تبلغُ ثلاثةً وعشرين قولاً، ذكرناها في كتابِنَا ((زينِ المجالسِ))، منها ما قيل: إنَّ أصلَه المسيحُ بوزنِ: مِفعَلٍ، فأُسكنتِ الياءُ بعد نقلِ كسرَتِها إلى السينِ طلباً للخفَّةِ، ومنها ما رويَ عن ابن عبَّاسٍ أنَّه كان لا يمسَحُ ذا عاهةٍ إلا برِئَ، ولا ميتاً إلا حيِيَ، وعنه أنَّه كان أمسَحَ الرِّجلِ، ليس له أخمصُ، والأخمصُ: مَن لا يمسُّ الأرضَ من باطنِ الرجلِ، وعن أبي عبيدةَ: أظنُّ أن هذه الكلمةَ مَشِيحا _بالشِّين المعجمةِ_ فعُرِّبت، وكذا تنطِقُ به اليهودُ، وقيل: لأنَّه خرجَ من بطنِ أمِّه كأنه ممسوحٌ بالدُّهنِ.
          ثم قال: وأمَّا معنى المسيحِ في الدَّجالِ؛ فقيل: لأنَّه كان يمسحُ الأرضَ؛ أي: يقطعُها، وقيل: لأنَّه لا عينَ له ولا حاجبَ، وقيل: المسيحُ الكذَّابُ، وهو مختصٌّ به؛ لأنَّه أكذبُ البشرِ، فلذلك خصَّه اللهُ بالشوَهِ والعوَرِ، وقيل: المسيحُ: الماردُ الخبيثُ، وهو مختصٌّ به أيضاً، ويقال فيه: مسيخٌ _بالخاء المعجمةِ_؛ لأنَّه مشوَّهٌ ممسوخٌ، ويقالُ فيه: مِسِّيخٌ _بكسرِ الميم وتشديد السين_ للفرقِ بينه وبين المسيحِ ابنِ مريمَ، انتهى ملخَّصاً، فاعرفه.
          (وَقَالَ مُجَاهِدٌ) فيما وصلَه الفِريابيُّ عنه (الْكَهْلُ: الحَلِيمُ) أي: في قولِه: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} [آل عمران:46] ((الحليمُ)) باللامِ تفسيرٌ: لـ{كَهْلاً}، واعترضَه أبو جعفرٍ النَّحاسُ فقال: إنَّ هذا لا يُعرفُ في اللُّغةِ، وإنَّما الكهلُ عندهم مَن ناهزَ / الأربعينَ أو قاربَها، وقيل: مَن جاوزَ الثَّلاثين، وقيل: ابنُ ثلاثٍ وثلاثين، وقال في ((اللُّبابِ)): الكهلُ مَن بلغَ سنَّ الكهولةِ، وأولُها ثلاثون، أو اثنان وثلاثون، أو ثلاثةٌ وثلاثون، أو أربعون، وآخرُها: خمسون، أو ستون، ثمَّ يدخلُ في سنِّ الشَّيخوخةِ.
          قال في ((الفتح)): والذي يظهرُ أنَّ مجاهداً فسَّرَه بلازمِه الغالبِ؛ لأنَّ الكهلَ غالباً يكونُ فيه وقارٌ وسكينةٌ، وقد اختُلفَ في قولِه: {وَكَهْلاً} هل هو معطوفٌ على: {وَجِيهاً} أو حالٌ من ضميرِ: {يُكَلِّمُ}؛ أي: يكلِّمُهم صغيراً وكبيراً، انتهى، فتأمَّله.
          وقال البيضَاويُّ: أي: ويكلِّمُهم حالَ كونِهِ طفلاً وكهلاً كلامَ الأنبياءِ من غيرِ تفاوتٍ، وقيل: إنه رُفعَ شابًّا، والمرادُ: وكَهْلاً بعد نزولِه، قال: وذكرَ أحوالَه المختلفةَ المتنَافيةَ إرشاداً إلى أنَّه بمَعزِلٍ عن الألوهيَّةِ (وَالأَكْمَهُ) أي: في قولِهِ: {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ} [آل عمران:49] (مَنْ يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلاَ يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ) هذا أيضاً تفسيرُ مجاهدٍ وصلَه الفِريابيُّ أيضاً، قال في ((الفتح)): وهو قولٌ شاذٌّ تفرَّدَ به مجاهدٌ، والمعروفُ أنَّ ذلك هو الأعشى.
          (وَقَالَ غَيْرُهُ) أي: غيرُ مجاهدٍ في تفسيرِ: {الْأَكْمَهَ} (مَنْ يُولَدُ أَعْمَى) قال في ((الفتح)): هذا قولُ الجمهورِ، وبه جزمَ أبو عبيدةَ، وأخرجَه الطبريُّ عن ابنِ عبَّاسٍ، ورويَ عن قتادةَ أنَّه قال: كنَّا نتحدثُ أنَّ الأكمَهَ هو الذي يولدُ مضمومَ العينِ، وقال عكرمةُ: الأكمهُ: الأعمشُ، وقال الطبريُّ: الأشبهُ بتفسيرِ الآيةِ قولُ قتادةَ؛ لأنَّ علاجَ مثلِ ذلكَ لا يدَّعيه أحدٌ، والآيةُ سبقَتْ لبيانِ معجزةِ عيسى، فالأشبهُ أن يُحملَ المرادُ عليها، ويكونَ أبلغَ في إثباتِ المعجزةِ.