الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم}

          ░11▒ (بابٌ): بالتَّنوين ({ونَبِّئْهُمْ عنْ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ إِذْ}) ظرفٌ لـ{نَبِّئْهُمْ} ({دَخَلُوا عَلَيْهِ} الْآيَة [الحجر:51-52]): ووقعَ في بعضِ الأصُولِ: <باب قوله ╡> وهو ملحَقٌ في ((اليونينيَّةِ)) بعد باب بين الأسطرِ، ووقعَ في بعضٍ آخر: <باب قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} الآية {لَا تَوْجَلْ} [الحجر:53]: لا تخف> وعليها شرحَ الحافظ ابن حجرٍ، وقال: كذا اقتصرَ في هذا الباب على تفسيرِ هذه الكلمةِ، وبذلك جزمَ الإسماعيليُّ وقال: ساق الآيتَين بلا حديثٍ، انتهى.
          كأنَّه لم يقعْ للإسماعيليِّ ذكْرُ الحديثِ الواقعِ هنا، والآيتانِ في أواخر سورة الحِجر، فقوله: {وَنَبِّئْهُمْ} عطفٌ على: {نَبِّئْ عِبَادِي} [الحجر:49] فضمير {وَنَبِّئْهُمْ} يرجع لـ{عِبَادِي} أي: ونبِّئ عبادي وأخبرهم {عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} / أي: أضيافه، وكانوا أربعةً: جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل، وقيل بدل عزرائيل: دردائيل، وقيل: رفائيل، ولذا جمع الضميرَ في قوله: {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} أي: على إبراهيمَ، فدخلوا مُشاةً في صورة رجال مُرْد حسان، تمامها: {فَقَالُوا سَلَاماً} أي: نسلِّم سلاماً، فسُرَّ بهم؛ لأنَّه كان لم يأته ضيفٌ من خمسة عشر يوماً حتَّى شقَّ ذلك عليه؛ لأنَّه يُحِبُّ الأضياف، وربَّما خرج يتطلَّبهم فقال: لا يخدم هؤلاء إلَّا أنا، فخرج إلى أهله فجاء بعجلٍ حنيذٍ سمين مشويٍّ، فقرَّبه إليهم فأمسكُوا أيديهم عن الأكل، فقال لهم إبراهيمُ: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي: خائفون وذلك لأنَّهم دخلوا بغير إذنٍ وبغير وقتهِ، ولأنَّهم امتنعُوا من الأكلِ.
          وذكر في ((الفتح)): أنَّ جبريلَ مسح بجناحِهِ العجلَ فقام يدرج حتَّى لحِق بأمِّه في الدَّار، واستشكل تسميتهم ضيفاً مع عدم مجيئِهم للأكل بل ولم يأكُلوا، وأجيب: بأنَّ إبراهيم لمَّا ظنَّ أنهم دخلوا بقصدِ الضِّيافة جاز تسميتهم أضيافاً، وقيل: كلُّ مَن دخل دار إنسانٍ مثلاً ونزل عليه يُسمَّى ضيفاً وإن لم يأكلْ، وهو ظاهر كلام أهل اللُّغة، قال في ((القاموس)): الضَّيف للواحد والجمع، وقد يُجمع على أَضْياف وضُيُوف وضِيفان، وهي ضَيْف، وضِفْتُه أضِيفه ضَيفاً وضفاً بالكسر، نزلتُ عليه ضَيفاً كتَضيَّفته، انتهى فتدبر.
          ({قَالُوا}): أي: الضيف المذكورون ({لَا تَوْجَلْ}: لَا تَخَفْ): فسَّر {لَا تَوْجَلْ} بـ((لا تخف))، وقال البيضَاويُّ: الوجَلُ: اضطراب النَّفس لتوقُّع ما تكرَه، قال: وقرئ: ▬لا تأجل↨ و▬لا توجله↨ من أوجله و▬لا تواجل↨ من واجله بمعنى: أوجله، انتهى، وعبارة العينيِّ: وقرأ الحسنُ: ▬لا تُوجل↨ بضمِّ التاء من أوجلَه يوجلُه إذا أخافَه، قال في ((الفتح)): التَّفسير المذكور مرويٌّ عن عكرمةَ عندَ ابن أبي حاتم، قال: ولعلَّه كان عقبَ هذا في الأصل بياضٌ فحذف، قال: وقصَّة أضياف إبراهيم أوردها ابن أبي حاتمٍ من طريق السُّدي مبيَّنة، وفيها أنَّه لما قرَّب إليهم العجل قالوا: إنَّا لا نأكل طعاماً إلَّا بثمن، قال إبراهيمُ: إنَّ له ثمناً، قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسمَ اللهِ على أوَّله وتحمدونه على آخرِهِ، قال: فنظرَ جبريلُ إلى ميكائيل، فقال: حُقَّ لهذا أن يتَّخذه ربُّه خليلاً، فلمَّا رأى أنَّهم لا يأكلون فزع منهم.
          ({وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260]): قال في ((الفتح)): كذا وقعَ هذا الكلام لأبي ذرٍّ متَّصلاً بالباب، قال: ووقعَ لكريمة بدله قوله: <{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260]>، قال: وحكى الإسماعيليُّ أنَّه وقعَ عندَه: <باب قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ}...إلخ>، وسقطَ كلُّ ذلك للنَّسفيِّ، فصارَ حديث أبي هريرةَ تكملةَ البابِ قبله، فكملتْ به الأحاديثُ عشرين حديثاً، وهو متَّجهٌ، انتهى، وقال القسطلانيُّ: سقطَ لأبي ذرٍّ قوله: <{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}>، وثبتَ له سابقه في ((اليونينيَّة)) وفرعها، انتهى.
          وظاهرُ كلام ((الفتح)): أنَّ الثَّابت لأبي ذرٍّ إلى قوله: <{الْمَوْتَى}>، بل هو صريحُ كلام القسطلانيِّ، لكن كلام ((المنحة)) يُغايرهما حيث قال في نسخةٍ: <{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}>، انتهى.
          فنتكلَّم عليها فنقول: قال القرطبيُّ: الاستفهام بـ{كَيْفَ} إنَّما هو سؤالٌ عن حالِ شيءٍ موجود متقرِّر الوجود عند السَّائل والمسؤولِ، نحو قولك: كيف علم زيدٍ، وكيف نسجَ الثَّوب، فـ{كَيْفَ} في الآية استفهامٌ عن هيئة الإحياء لا عنه، إذ هو متقرِّرٌ ثابتٌ.
          وقال البيضَاويُّ: إنَّما سألَ ذلكَ ليصير علمه عَياناً، وقيل: لمَّا قال نمرودُ: أنا أُحيي وأميتُ، قال له إبراهيم: إنَّ إحياء الله ردُّ الرُّوح إلى بدنها، فقال نمرود: هل عاينتَه؟ فلم يقدر أن يقول له: نعم، وانتقل إلى تقريرٍ آخر، ثمَّ سأل ربَّه / أن يُريَه ليطمئنَّ قلبُه على الجواب إن سُئِل عنه مرَّةً أخرى قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} أي: بأنِّي قادرٌ على الإحياء بإعادة التَّركيب والحياة، قال له ذلك وقد علمَ أنَّه أعرف النَّاس في الإيمانِ ليُجيبه بما أجابَ، فيعلم السَّامعون غرضه، {قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي: بلى آمنتُ، ولكن سألتُ لأزيدَ بصيرةً وسكون قلبٍ بمضامة العيان إلى الوحي والاستدلال، وقال ابن عبَّاسٍ والحسن وآخرين: ليطمئنَّ قلبي بالمشاهدة.