الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله}

          ░41▒ (باب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى) وسقطَ لأبي ذرٍّ لفظ: <باب> فقط، فقول<الله> مرفوعٌ على أنَّه خبرُ مبتدأٍ محذوف أو بالعكس، فافهم ({وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:12-18]) هذه الآياتُ في سورةِ لقمان متعلِّقةٌ به، ولعلَّ ذكر البخاريِّ له مع الأنبياء يشيرُ إلى اختيارِ نبوَّته، وهو قولُ عكرمةَ لا غير، ففي ((تفسير النَّسفيِّ)): اتفقَ العلماءُ على أنَّ لقمانَ كان حكيماً ولم يكن نبيًّا إلا عكرمة فإنَّه كان يقول إنَّه نبي، انتهى.
          وزادَ البَغويُّ: وتفرد بهذا القولِ وقال في ((القاموس)): ولقمانُ الحكيمُ اختلفَ في نبوَّته، وقال البَيضاويُّ: والجمهورُ على أنَّه كان حكيماً ولم يكن نبيًّا، وهو أعجميٌّ فمنعه من الصرفِ للعلميَّة والعجمةِ، وقيل: عربيٌّ، فمنعه للعلميَّة وزيادة الألف والنون، وهو مشتقٌّ من اللَّقمِ، وهو الأكلُ سريعاً، وفعله لقمَ كسمعَ، قيل: وهو حينئذٍ مرتجلٌ؛ لأنَّه لم يسبِقْ له استعمَالٌ في المنكَّراتِ.
          قال ابنُ إسحاقَ وغيره: هو لقمانُ بن باعور بن ماحورَ بن تارح وهو آزرُ والد إبراهيمَ، وقال مقاتلٌ: ذكر أنَّه ابن خالةِ أيوب، وقال وهبٌ: ابنُ أختِ أيوب، وعبارة البَيضَاويِّ: ابن باعورَ من أولاد آزرَ بن أختِ أيوب أو خالتِهِ، وعاشَ حتى أدركَ داود فأخذَ منه العلمَ.
          قال في ((الفتح)): وأغربَ الواقديُّ فزعَمَ أنَّه كان بينَ عيسَى ونبيِّنا عليهما السَّلام، ويشبههُ ما حكاهُ أبو عبيدٍ البكري أنَّه كان عبد النبيِّ المسمَّى ابن الأزد، قال: والصَّحيحُ أنَّه كانَ في زمنِ داود، قال: وذكرهُ ابنُ الجوزيِّ في ((التلقيح)) بعدَ إبراهيمَ قبلَ إسماعيلَ وإسحاقَ، وقال الواقديُّ: كانَ قاضِياً في بني إسرائيلَ وقال ابنُ إسحاق: عاش ألفَ سنةٍ، قال في ((الفتح)): وهو غلطٌ وكأنَّه اختلطَ عليه بلقمانَ بن عاد، انتهى.
          وكان يسكُن ببلدةِ أيلَةَ ومدينَ، وقال هو والسديُّ: مات بأيلةَ، وقال قتادةُ: بالرَّملة، وقال في نسبهِ غيرَ ما تقدَّم فقال مقاتل: لقمانُ ابن عنقاءَ بن شيرون، واسم أمِّه تارات، وقال ابن جريرٍ: لقمانُ بن تاران، وقال وهبُ بن منبِّه: هو لقمانُ بن عبقرَ بن مرثدَ بن صادقِ بن التوتِ من أهل أيلةَ، ولد على عشرِ سنين خلَتْ من أيام داودَ عليه السلام.
          وقال الثعلبيُّ: كان عبداً أسودَ عظيم الشَّفتين مشقَّق القدمين ذا مشافرَ من سودانِ مصر، لكنَّ الله أكرمه بالحكمةِ ومنعَه النبوَّةَ، وقال الربيعُ: كان عبداً نوبيًّا اشتراه رجلٌ من بني إسرائيلَ بثلاثين ديناراً ونصفِ دينارٍ، وعن ابنِ عبَّاسٍ كان عبداً حبشياً نجَّاراً، وقيل: كان خياطاً، وقيل: كان راعياً، وقيل: كان يحتَطِب لمولاهُ حزمةً، وقيل: إنَّه كان عبداً لقصَّار، وقال البَغويُّ: كان راعيَ غنمٍ، فروي أنَّه لقيه رجلٌ وهو يتكلَّم بالحكمةِ، فقال له: ألستَ فلاناً الرَّاعي فبِمَ بلغتَ ما بلغتَ؟ قال: بصدقِ الحديث وأداءِ الأمانَةِ وتركِ ما لا يعنِينِي، وهو أحدُ ساداتِ السُّودان الأربعِ بل أفضلُهم، وقد نظمَ ذلك بعضُهم بقولِهِ:
سادة السودانِ أربَع                      هكذا قالَ المشفَّع
النَّجاشي وبلالٌ                     ثم لقمانُ ومهجَع /
          وفي ((الجامع الصغير)) من رواية الطبرانيِّ وابنِ حبَّان في الضعفاءِ عن ابن عباسٍ رفعَه: ((اتخذُوا السودانَ فإنَّ ثلاثة منهم من ساداتِ أهل الجنَّة لقمانُ الحكيم والنَّجاشي وبلال))، وفي ((تفسير الشَّربيني)): وروي: ((ساداتُ السودان أربعةٌ: لقمان الحبشيُّ والنجاشيُّ وبلالُ ومهجع))، وفي البَغويِّ: قال بعضُهم: خُيِّر لقمانَ بين النبوَّةِ والحكمةِ فاختار الحكمةَ، وروي: أنَّه كان نائماً نصفَ النَّهار فنودِي: يا لقمانُ هل لك أن يجعلَكَ الله خليفةً في الأرضِ فتحْكمَ بين النَّاس بالحقِّ، فأجابَ الصَّوتَ وقال: إن خيَّرني ربي قبلتُ العافيةَ ولم أقبلِ البلاءَ، وإن عزمَ عليَّ فسمعاً وطاعةً، فإنِّي أعلم إنْ فعَلَ بي ذلك أعانَنِي وعصمَنِي، فقالت الملائكةُ بصوتٍ لايراهُم: لِمَ يا لقمان؟ قال: لأنَّ الحاكم بأشدِّ المنازل وأكدَرِها تغشاهُ الظُّلَمُ من كلِّ مكانٍ إن يُعَن فبالحريِّ أن ينجوَ، وإن أخطأَ أخطأَ طريقَ الجنةِ، ومَن يكنْ في الدُّنيا ذليلاً خيرٌ من أن يكونَ شريفاً، ومن يخترِ الدُّنيا على الآخرةِ تفُتْهُ الدنيا ولا يصيبُ الآخرةَ، فعجبَتِ الملائكةُ من حسْنِ منطقهِ، فنامَ نومةً فأعطِيَ الحكمَةَ فانتَبَه وهو يتكلَّم بها، ثمَّ نوديَ داود بعده فقبِلَها ولم يشتَرِط ما اشترطَ لقمانُ فهوى غير مرةٍ.
          وفي ((تفسير)) الخطيبِ الشربينيِّ ما نصُّه: وأخرجَ الحكيمُ الترمذيُّ في ((نوادر الأصول)) عن أبي مسلمٍ الخولانيِّ قال: قال رسول الله صلعم: ((إن لقمانَ كان عبداً كثيرَ التفكُّر، حسنَ الظن ِّكثيرَ الصَّمتِ أحبَ الله، فأحبَّه اللهُ فمنَّ عليه بالحكمَةِ، نوديَ بالخلافةِ قبل داودَ فقيلَ له: يا لقمان هل لكَ أن يجعلَكَ الله خليفةً)) إلى آخر ما تقدَّم آنفاً في كلام البَغوِيِّ.
          والمعنى: واللهِ لقد أعطينا لقمانَ الحكمةَ فلقمانُ مفعولُ آتينا الأوَّل، والحكمةَ مفعولُهُ الثاني، واختلفَ في تفسيرِهَا في الآيةِ فقال البَغوِيُّ: يعني: العقلَ والعلمَ والعملَ بهِ والإصابة في الأمورِ.
          وقال البَيضَاويُّ: الحكمةُ في عرفِ العلماءِ استكمالُ النفس الإنسانيَّة باقتباسِ العلومِ النظريَّة واكتساب المَلَكَةِ التامَّة على الأفعالِ الفاضِلةِ على قدرِ طاقَتِها، ومن حكمتِهِ أنَّه صحبَ داود شهوراً وكان داودُ يسردُ الدُّروعَ فلم يسألْهُ عنها فلمَّا أتمها لبسَهَا وقال: نِعْمَ لَبُوس الحربِ أنتِ، فقال: الصَّمت حكمةٌ وقليلٌ فاعلُهُ.
          وإن داودَ قال له يوماً: كيف أصبحتَ، فقال: أصبحتُ في يد غيرِي ففكَّرَ داود فيه فصعِقَ صعقةً، وإنَّه أمره بذبحِ شاةٍ ويأتي بأطيبِ مضغَتَين فيها فأتى باللسانِ والقلب، ثمَّ بعد أيَّام أمره أن يأتي بأخبثِ مضغتَينِ منها، فأتى بهما أيضاً فسألَهُ عن ذلك فقال: هما أطيبُ شيء إذا طابَا، وأخبثُ شيء إذا خبثَا.
          وقال في ((الفتح)): وروي عن قتادةَ في قولهِ تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12] قال: التفقُّه في الدِّين ولم يكن نبيًّا.
          وقوله: ({أَنِ اشكُرْ لِلهِ}) {أن} مفسِّرةٌ لإيتاءِ الحكمةِ؛ أي: قلنا له: أن اشكر للهِ ثمَّ بيَّنَ أن الشُّكرَ لا ينفعُ إلا الشَّاكرَ فقال: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان:12] الآية، وقال البَيضَاويُّ: لأن اشكر، أو أي: اشكرْ فإنَّ إتيان الحكمةِ في معنى القولِ، انتهى.
          وقال العينيُّ: وقيل: بدلٌ من الحكمةِ، وقوله: إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] متعلِّقٌ بمحذوفٍ نحو إقرار، المختال اسمُ فاعلٍ من اختالَ اختيالاً، وهو أن يرى لنفسِه طولاً على غيره فيشمخَ بأنفهِ، وقوله: فخورٌ صيغةُ مبالغةٍ؛ أي: يفتخر على النَّاس بحَسَبه أو نسَبِهِ أو بعلمِهِ أو ماله.
          قال القسطلانيُّ: وسقطَ لأبي ذرٍّ: <{أَنِ اشْكُرْ}>...إلخ، وقال: <إلى قولهِ: {عَظِيمٌ}>، قال: ولأبي الوقتِ: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} / إلى {فَخُورٍ} [لقمان:16-18] وضميرُ {إنَّها} للخطيئةِ، وذلك أنَّ ابن لقمان قال لأبيهِ: يا أبتِ إن عملتُ الخطيئةَ حيث لا يراني أحدٌ كيف يعلَمُها اللهُ تعالى؟ فقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} الآية، وقيل: {إِنَّهَا}؛ أي: الخصلة من الإساءَةِ أو الإحسانِ إن تكُ في الصِّغرِ كحبَّةِ خردلٍ وقرأ نافعٌ برفعِ: ▬مثقالُ↨ على أنَّها ضميرُ القصَّةِ وكان تامَّةٌ وتأنيثُ مثقالٍ؛ لإضَافتهِ إلى الجنة، كقولِ الشاعر:
وَتشْرَقُ بالقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذَعْتَهُ                     كَما شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ
          ({وَلاَ تُصَعِّرْ} [لقمان:18]) بكسرِ العينِ المهملة المشدَّدة، وهي قراءةُ ابن عامرٍ وعاصم وابنِ كثيرٍ وأبي جعفر، وقرأ نافع وأبو عَمرو وحمزةُ والكسائيُّ: ▬ولا تصاعر↨ بألفٍ قبل العينِ الخفيفَةِ، وهذه لغةُ أهلِ الحجازِ، والتَّشديد لغةُ تميمٍ وهما بمعنى، قال البغويُّ: يقال: صعَّر وجهَهُ وصاعَرَ إذا مال وأعرضَ تكبُّراً، ورجلٌ أصعر: مائلُ العنقِ.
          قوله: (الإِعْرَاضُ بِالْوَجْهِ) هذا تفسيرٌ لمصدرِ تصعِّر؛ أي: ولا تعرِضْ بوجهِكَ عن الناس كما يفعلُ المتكبِّرون، وسقط لأبي ذرٍّ: <ولا تصعر> وهذا التَّفسيرُ مرويٌّ عن عكرمةَ، وذكره الطبريُّ أيضاً عن ابن عبَّاسٍ ☻، وقال الطبريُّ: أصلُ الصَّعر _بالمهملتينِ_ داءٌ يأخذُ الإبلَ في أعنَاقِهَا حتى تلتفِتَ أعناقُها عن رؤوسِهَا فيشبَّهُ به الرجلُ المتكبرُ المعرضُ عن الناسِ.