الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: اشترى رجل من رجل عقارًا له

          3472- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ) بفتحِ النونِ وسكونِ الصَّاد المهملة، هو: جدُّ إسحاقَ، وأبوه: إبراهيمُ؛ أي: السعديُّ المِروَزيُّ، قال: (أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) أي: ابنُ همَّامٍ الصَّنعانيُّ (عَنْ مَعْمَرٍ) بفتحِ الميمين؛ أي: ابنِ راشدٍ البصريِّ، نزيلِ اليمنِ (عَنْ هَمَّامٍ) بفتحِ الهاء؛ أي: ابنِ منبِّهٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) ولأبوَي ذرٍّ والوقتِ: <قال رسولُ الله> (صلعم: اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ) قال في ((الفتح)): لم أقِفْ على اسمِهمَا ولا على اسمِ أحدٍ ممن ذُكرَ في هذه القصةِ، لكن في ((المبتدأ)) لوهبِ بنِ منبِّهٍ أنَّ الذي تحاكما إليه هو داودُ النَّبيُّ عليه السلامُ، وفي ((المبتدأ)) لإسحاقِ بنِ بشرٍ أنَّ ذلك وقعَ في زمنِ ذي القَرنَين من بعضِ قضاتهِ، وصنيعُ البخاريِّ يقتَضِي ترجيحَ ما وقَعَ عند وهبٍ لكونِه أوردَه في ذكرِ بني إسرائيلَ (عَقَارًا) بفتحِ العين المهملةِ (لَهُ) أي: مِلكاً له لا بطريقِ الوكالةِ أو الولايةِ.
          قال في ((الفتح)): العقارُ في اللغةِ: المنزِلُ والضَّيعةُ، وخصَّه بعضُهم بالنَّخلِ، ويقالُ للمَتاعِ النفيسِ الذي للمَنزلِ عَقارٌ أيضاً، وقال عياضٌ: العقارُ: الأصلُ من المالِ، وقيل: المنزِلُ والضَّيعةُ، وقيل: متاعُ البيتِ، فجعلَه خلافاً، وعمَّمَ في متاعِ البيتِ، والمعروفُ في اللغةِ أنَّه مقولٌ بالاشتراكِ على الجميعِ، والمرادُ به هنا: الدارُ، كما صرَّحَ به في حديثِ وهبٍ.
          وقال العينيُّ: العَقارُ: أصلُ المالِ من الأرضِ وما يتَّصِلُ بها، وعقْرُ الشَّيءِ: أصلُه، ومنه: عقْرُ الأرضِ _بفتحِ العينِ وضمها_، وزادَ في ((القاموس)): القصرُ، أو المتهدِّمُ منه.
          (فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ فِي عَقَارِهِ) أي: الذي اشتراه، والظروفُ متعلقةٌ بـ((وجَدَ)) (جَرَّةً) بفتح الجيم، ما يُصنعُ من الفخَّارِ على هيئةٍ مخصُوصةٍ، وقال في ((المصباح)): إناءٌ معروفٌ، والجمعُ: جِرارٌ وجَرَّاتٌ وجَرٌّ أيضاً _بحذف التاء_، وبعضُهم يجعلُ الجَرَّ لغةً في الجرَّةِ.
          (فِيهَا ذَهَبٌ) رُفعَ: ((ذهبٌ)) على الفاعلية لـ((فيها))، أو على أنَّه مبتدأٌ مؤخَّرٌ (فَقَالَ لَهُ) أي: للبائعِ، وقوله: (الَّذِي اشْتَرَى العَقَارَ) فاعلُ: ((قال)) وما بعده صلتُه (خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ) وقوله: (وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ) تأكيدٌ لِما يُستفادُ من الحصرِ، و((أبتَعْ)) بسكون الموحدة وفتح الفوقية، بمعنى: اشترِ، مجزومٌ بـ((لم))، وسقطَ لفظُ: ((منك)) لأبي ذرٍّ (وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ) أي: البائعُ، فإنَّ الأرضَ له باعتبارِ ما كان (إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا) أي: فدخلَ الذهبُ في بيعِها، وظاهرُ الكلامِ أنَّهما اختلَفا في صورةِ العقدِ، ويحتمِلُ أنَّهما اتفقا على أنَّ صورةَ العقدِ وقعَتْ على الأرضِ مطلَقاً، لكنِ اعتقدَ البائعُ دخولَ ما فيها ضِمناً، واعتقدَ المشتري أنَّه لا يدخُلُ، فقال كلٌّ منهما ما قال على الوجهَين / .
          قال في ((الفتح)): ووقعَ في نُسخ [مسلمٍ] اختلافٌ، فالأكثرُ روَوه بلفظِ: <فقال الذي شرى الأرضَ>، والمرادُ: باعَ الأرضَ، ولبعضِهم: ((فقال الذي اشتَرى الأرضَ)) ووهَّمَها القرطبيُّ، قال: إلا إن ثبتَ أنَّ لفظَ: ((اشترى)) من الأضدادِ؛ كشَرى، فلا وهمَ، انتهى.
          (فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ) تقدمَ آنفاً ما قيلَ فيه (فَقَالَ: الَّذِي) أي: الرجلُ الذي (تَحَاكَمَا إِلَيْهِ) ظاهرُه كما في ((الفتح)) أنَّهما حكَّماه في ذلك، لكن في حديثِ إسحاقَ بنِ بشرٍ التصريحُ بأنَّه كان حاكماً منصوباً للناسِ، فإنْ ثبتَ فلا حُجَّةَ فيه لمَنْ يجوِّزُ التَّحكيمَ بين المتدَاعيين، وهي مسألةُ اختلافٍ، فأجازَ ذلك مالكٌ والشافعيُّ شرطَ أن يكونَ فيه أهليَّةٌ للحُكمِ، وأن يحكُمَ بينهما بالحقِّ، سواءٌ وافقَ حُكمُه رأيَ قاضِي البلدِ أم لا، واستثنى الشافعيُّ الحدودَ، واشترطَ أبو حنيفةَ ألا يُخالفَ حُكمُه رأيَ قاضي البلدِ.
          وقوله: (أَلَكُمَا وَلَدٌ؟) مقول: ((قال))، و((وَلَدٌ)) بفتحتين، وجوَّزَ في ((الفتح)) ضم الواو وكسرَها مع سكون اللام فيهما، والمرادُ به: الجنسُ؛ لأنَّ المرادَ: لكلٍّ منهما ولدٌ يكونُ أحدُهما ذكَراً والآخرُ أنثى.
          (فقَالَ أَحَدُهُمَا) يعني: المشتريَ، كما في روايةِ إسحاقَ بنِ منصُورٍ (لِي غُلاَمٌ) أي: ذكَرٌ (وَقَالَ الآخَرُ) أي: البائعُ (لِي جَارِيَةٌ) أي: أنثى (قَالَ) أي: الذي تحاكمَا إليه (أَنْكِحُوا الغُلاَمَ) بقطعِ الهمزةِ؛ أي: زوِّجُوا الغلامَ (الجَارِيَةَ) بنصبهما على المفعوليةِ لـ((أنكِحُوا))؛ لأنَّه يتعدَّى لاثنَين، و((الجاريةُ)) كمَا قال الكرمانيُّ ومَن تبِعَه: البنتُ.
          وقال في ((القاموس)): الجاريةُ: الشَّمسُ والسَّفينةُ والنَّعمةُ من اللهِ تعالى وفتيَّةُ النِّساءِ، والجمعُ: جَوارٍ، انتهى، وهو يشملُ الحرَّةَ والأمةَ.
          لكن قال في ((المصباح)): الجاريةُ: السفينةُ؛ سُمِّيتْ بذلك لجرْيِها في البَحرِ، ومنه قيل: للأمَةِ جارِيةٌ على التَّشبيهِ؛ لجريِها مسخَّرةً في أشغَالِ مَواليهَا، والأصلُ فيها: الشَّابَّةُ لخفَّتِها، ثمَّ توسَّعُوا حتى سمَّوا كلَّ أمَةٍ جاريةً وإن كانَتْ عجوزاً، انتهى، فتأمله.
          (وَأَنْفِقُوا) بقطعِ الهمزةِ (عَلَى أَنْفُسِهِمَا) أي: الولدَين (مِنْهُ) أي: من الذَّهبِ (وَتَصَدَّقَا) أي: بما فضُلَ عن نفقتِهمَا، قال في ((الفتح)): هكذا وقعَ بصيغةِ الجمعِ في الإنكَاحِ والإنفَاقِ، وبالتَّثنيةِ في التَّصدُّقِ عن نفقتِهمَا.
          قال في ((الفتح)): وكأنَّ السرَّ في ذلك أنَّ الزوجَينِ كانا محجُورَين، والإنكاحُ لا بدَّ فيه من شاهدَين، والإنفاقُ قد يحتاجُ فيه إلى مُعينٍ؛ كالوكيلِ، وأمَّا تثنيةُ التَّصدُّقِ؛ فللإشَارةِ إلى أن يُباشِراها لِما في ذلك من مزيدِ الفضْلِ، وقال: ووقعَ في روايةِ مسلمٍ: ((وأنفِقَا على أنفسِكمَا))، قال: والأولُ أوجَهُ، ووقعَ في روايةِ ابنِ إسحاقَ بنِ بشرٍ بلفظِ: ((اذهَبا فزوِّجِ ابنتَك من ابنِ هذا، وجهِّزُوهما من هذا المالِ، وادفعُوا إليهمَا ما بقيَ يعيشَان به))، انتهى ملخصاً.
          ولعلَّ الحكمَ في شَريعتِهم كان هكذا، وجزمَ القرطبيُّ بأنَّه ليسَ حُكمُها على سَبيلِ الإلزامِ، وإنَّما هو صلحٌ لِما ظهرَ له أنَّ حُكمَ المالِ المذكورِ حكمُ المالِ الضائعِ، فرأى أنَّهما أحقُّ بالمالِ من غيرِهما؛ لِما ظهرَ له من ورعِهما وحُسنِ حالِهما، وارتجَى من طيبِ نسلِهمَا وصلاحِ ذرِّيتِهمَا.
          قال في ((الفتح)): ويردُّه ما جزمَ به الغزاليُّ في ((نصيحة الملوك)) أنَّهما تحاكَمَا إلى كِسْرى، فإن ثبَتَ هذا ارتفعَتِ المباحثُ الماضيةُ المتعلِّقةُ بالتَّحكيمِ؛ لأنَّ الكافرَ لا حُجَّةَ فيما يحكُمُ به، ووقعَ في روايتِهِ عن أبي هريرةَ: ((لقد رأيتُنا يكثرُ تمارينا ومنَازعَتُنا عندَ النبيِّ صلعم أيُّهما أكثرُ أمانةً))، انتهى، فتأمَّله.
          وحاصلُ المباحثِ المارَّةِ أنَّ الحُكمَ في شريعتِنا في صُورةِ الاختلاقِ في العَقدِ أن يتَحَالَفا ويسترِدَّا المبيعَ والثَّمنَ، وأمَّا في صُورةِ الاتفاقِ على العَقدِ، فالحكمُ فيها عندنا أنَّ القولَ قولُ المشترِي، وأنَّ الذَّهبَ باقٍ على مِلكِ / البائعِ، قال: وهذا كلُّه بناءً على ظاهرِ اللَّفظِ أنَّه وجَدَ فيها جرَّةً من ذهبٍ، لكنْ في روايةِ إسحاقَ بنِ بشرٍ أنَّ المشتريَ قال: إنَّهُ اشترى داراً فعمرَها، فوجدَ فيها كنزاً، وأنَّ البَائعَ قال له لمَّا دعاهُ إلى أخذِه: ما دفَنتُ، ولا علِمتُ أنَّهما قالا للقاضِي: ابعَثْ مَن يقبِضُه ويدَعُه حيثُ رأيتَ، فامتنَعَ، قال: وعلى هذا فحُكمِ هذا المالِ حُكمُ الرِّكازِ في هذه الشَّريعةِ إن عُرفَ أنَّه من دفينِ الجَاهليةِ، وإلا فإن عُرفَ أنَّه من دفينِ المسلمينِ، فهو لقَطةٌ، وإن جُهلَ فحُكمُه حكمُ المالِ الضَّائعِ يكونُ لبيتِ المالِ.
          قال: ولعله لم يكُنْ في شرعِهِم هذا التَّفْصيلُ، فلذا حكمَ قاضِيهِم بما حكمَ به، انتهى، فتأمَّله.
          وحكى المازِريُّ خلافاً عند المالكيَّةِ في مثلِ ذلك، فقال: إن كانَ من أنواعِ الأرضِ كالحجَارةِ والرُّخامِ فهو للمُشترِي، وإن كان كالذَّهبِ والفضَّةِ، فإن كانَ من دَفينِ الجاهليَّةِ فهو رِكازٌ، إلى آخرِ ما في كلامِ ((العمدةِ)) و((الفتحِ)) مع زيادةٍ.