الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر}

          ░36▒ (بابُ قَوْلهِ تعَالَى) وسقطَ من أكثرِ الأصُولِ لفظ: <قوله تعالى> فباب منوَّنٌ؛ أي: هذا باب في تفسيرِ قولهِ تعالى في سورةِ الأعرافِ.
          ({وَاسْأَلْهُمْ}) بهمزةِ الوصْلِ وسكونِ السِّين المهملةِ فهمزةٌ مفتوحةٌ، ولأبي ذرٍّ: <وسلهُم> بحذف الهمزتَين وفتحِ السين نقلاً من الهمزةِ الثَّانية؛ أي: واسأل يا محمَّد اليهود الذين بحضرتكَ عن قصة أصحابِ القرية الذين خالفُوا أمرَ اللهِ، وسؤالهم كما قال البيضَاويُّ للتقريرِ والتَّقريعِ بتقديمِ كفرهِم وعصيَانهِم والإعلامِ بما هو من علومِهِم التي لا تعلَم إلا بتعليمٍ أو وحيٍ ليكونَ لكَ معجزةً عليهم ({عَنِ الْقَرْيَةِ}) أي عن خبرهَا وما وقعَ بأهلِها لاعتدائهِم في السَّبتِ، والقريةُ هي أيلةُ على شاطئ بحرِ القلزَم في طريقِ الحاجِّ الذاهبِ إلى مكَّةَ من مصر.
          وحكى ابنُ التِّين عن الزهريِّ أنها طبريَّة، وقيل: مدينَ، ورويَ عن ابن عبَّاسٍ، وقال ابنُ زيد: هي قريةٌ يقالُ لها منتنا بينَ مدين وغينونا ({الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ البَحْرِ}): أي: قريبة منهُ بين مدينَ والطُّور ({إِذْ}) ظرفٌ لحاضرةِ أو لكانت، وقيل: بدلٌ من القريةِ بدلَ اشتمالٍ ({يَعدُونَ}) مضَارع عدا بمعنى: تجاوزَ وتعدَّى.
          ولذا قال المصنِّف: يتعدَّون _بفتحِ الدالِ المهملةِ_ يتجَاوزونَ وفي ((اليونينيَّة)) وفرعها: <يجاوزون> بضمِّ أوَّله من غيرِ فوقيَّة بعدَه، وقال البيضَاويُّ: وقرئ: ▬يعدون↨ وأصلُه: يعتدون، ويعدونَ من الإعدادِ؛ أي: يعدُّون ألآت الصَّيد يوم السَّبت وقد نُهوا أنْ يشتَغِلوا فيه بغيرِ العبَادة ({فِي السَّبْتِ}) متعلِّق بيعدون؛ أي: يتجَاوزونَ حدودَ اللهِ فيه بصيدِ السَّمكِ فيه المحرَّم عليهم فيه ({إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ}) بكسرِ الحاء، جمعُ حوتٍ بضمِّها وهو السَّمكُ وإن كانَ صغيراً ولكنَّ المشهور اختصَاصُه بالكبيرِ من السَّمكِ، والجمع أحواتٌ وحِوَتة _بكسرِ الحاءِ وفتح الواو_ وحيتان.
          ({يَوْمَ سَبْتِهِمْ}) الظرفُ متعلِّقٌ بـ{تَأْتِيهِمْ} أو بدلٌ بعد بدلٍ، و{سَبْتِهِمْ} بفتح السِّين مصدرُ سبتَ الشَّيءَ قطعَهُ، قال في ((القاموس)): السبتُ: الرَّاحةُ، والقطعُ والدهرُ وحلقُ الرأسِ، وإرسالُ الشعرِ عن العقصِ، وسيرُ الإبلِ، ويوم من الأسبوعِ، والجمعُ أسبتَ وسبوت، والرجلُ الكثيرُ النومِ، انتهى.
          مفرقاً فسبتُهم مصدر، والسبتُ: اسمُ الأسبوعِ، وقال البيضَاويُّ: يوم سبتهِم يومَ تعظيمهم أمرَ السبت، مصدرُ سبتت اليهودُ: إذا عظَّمَتْ سبتها بالتجرُّد للعبَادةِ، وقيل: اسمُ اليومِ، والإضافةُ لاختصَاصِهم بأحكامٍ فيه، ويؤيِّد الأوَّل أنَّه قرئ: ▬يوم إسباتهم↨.
          ({شُرَّعاً}) بضمِّ الشين المعجمةِ وتشديد الراءِ (شَوَارِعَ) هذا قول أبي عبيدةَ، وقال ابن عبَّاسٍ {شرعاً}؛ أي: ظاهرةً على الماءِ، واعترضَ العينيُّ على المتنِ فقال: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الشرعَ جمعُ شارعٍ، والشَّوارعُ: جمع شَارعةٍ، ومادَّته تدلُّ على الظُّهورِ، ومنه شرعَ الدين بيَّنه وأظهرَهُ، انتهى فتأمَّله.
          وقوله: (إلى قَولهِ: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:163]) من تتمَّة كلامِ المصنِّف، ولأبي ذرٍّ: <{وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ} إلى قوله: {خَاسِئِينَ} [الأعراف:163-166]> {يَوْمَ} ظرفٌ لقوله: {لَا تَأْتِيهِمْ} وقرئ: ▬لا يُسبِتون↨ بضمِّ أوَّله / وكسرِ الموحَّدة، من أسبتَ، وقرئ أيضاً: ▬لا يسبتون↨ بالبناءِ للمفعولِ ({كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}) كذا ذكرَ إلى هنا في بعض النُّسخِ، وعليها شرح شيخِ الإسلامِ، وقال: {نَبْلُوهُمْ}؛ أي: نختبرهُم بإظهَارِ السَّمكِ لهم على ظهرِ الماء في اليَومِ المحرَّم عليهم الصيدُ فيه.
          وقوله: ({بَئِيسٍ}) بكسرِ الهمزةِ بعدَها تحتيَّة ساكنةٌ (شَدِيدٌ) قال في ((الفتح)): قال أبو عبيدةَ في قوله تعالى: فأخذناهم {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} شديدٍ وزناً ومعنًى، قال الشَّاعر:
حَنِقًا عَلَيَّ وَمَا تَرَى                     لِي فِيهِمْ أَمْرًا بَئِيسًا
          وهذا على إحدى القراءَتين، والأخرى بوزن حذر، قال: وقرئ شاذًّا بوزن هيِّن وهيْن مذكَّرين، وقال البيضَاويُّ: روي أنَّ النَّاهين لما يئسوا عن إيقَاظِ المعتدين كرهُوا مسَاكنتَهُم فقسموا القرية بجدارٍ، وفيه بابٌ مطروقٌ فأصبَحوا يوماً ولم يخرُج إليهم أحدٌ من المعتدينِ، فقالوا: إنَّ لهم لشَأناً فدخَلوا عليهم فإذا هُم قرَدةٌ فلم يعرفُوا أنسبَاءهُم ولكنَّ القردةَ تعرفُهم فكانَ القردُ يأتي إلى نسيبِهِ فيحتكُّ به فيقولُ الإنسان: ما حذَّرتُك عقوبةَ اللهِ أن تصيبَك ثمَّ ماتُوا بعدَ ثلاثةِ أيَّامٍ، قال ابن عبَّاسٍ: ما طعِمَ مسخٌ قط ولا عاشَ فوقَ ثلاثٍ، وعندَ مجاهدٍ: مسخت قلوبُهم لا أبدَانهم، وروى ابنُ جريرٍ من طريقِ العَوْفي عن ابنِ عبَّاسٍ صارَ شبَّانهم قردةً وشيوخُهم خنَازير.
          وقال في ((الفتح)): لم يذكرِ المصنِّفُ في هذه القصَّة حديثاً مسنداً، وروى عبدُ الرَّزاقِ من حديثِ ابن عبَّاسٍ بسندٍ فيه مبهَمٌ، وحكاه مالكٌ عن يزيدَ بن رومانَ معضَلاً، قال قتادةُ: إنَّ أصحابَ السَّبتِ كانُوا من أهلِ أيلةَ وإنَّهم لما تحيَّلوا على صيدِ السَّمكِ بأن نصَبُوا الشِّباكَ يوم السبتِ ثمَّ صَادوها يومَ الأحد، فأنكرَ عليهم قومٌ ونهَوهُم فأغلظُوا لهم، فقالَتْ طائفةٌ أخرى: دعوهُم واعتزِلُوا بِنا عنهم فأصبَحُوا يوماً فلم يَرَوا الذين اعتَدَوا ففتَحُوا أبوابَهم فأمرُوا رجلاً أن يصعدَ على سلَّمٍ فأشرفَ عليهم فرآهُم قد صارُوا قردةً فدخَلُوا عليهم فجعَلُوا يلوذونَ بهم فيقولُ الذين نهَوهُم: ألم نقُل لكم ألم ننهَكُم فيُشِيرونَ برؤوسِهِم.