الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب}

          ░39▒ (بابٌ) بالتنوين، ويجوزُ تركُه، فافهم. وفي بعضِ الأصولِ: <بابُ قولِه ╡> ({وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص:20]) هذه الآياتُ في أوائلِ سورةِ ص.
          قولُه: {واذكر...} إلخ، عطفٌ على: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] أي: واذكُرْ يا محمدُ داودَ؛ أي: صبرَه على الطَّاعةِ والعبادةِ، فاجتهِدْ فيها مثلَه.
          وقال البيضاويُّ: تذكَّرْ قصةَ داودَ، وصُنْ نفسَك أن تزِلَّ فيَلقاكَ ما لقِيَه من المعاتَبةِ على إهمالِه عَنانِ نفسِه أدنى إهمالٍ ({ذَاْ الأَيِديْ}) أي: صاحبَ القوَّةِ في العبادةِ والمُلكِ، قال البيضاويُّ: يقالُ: فلانٌ أيدٌ، وذو أَيْدٍ، وأدٌّ وأيادٌ بمعنًى، وقال في ((القاموس)): آدَ يئيدُ أَيْداً: اشتدَّ وقوِيَ، والآدُ: الصُّلبُ والقوَّةُ؛ كالأيدِ، انتهى.
          وليس الأَيدُ جمعَ يدٍ، لكنَّه محذوفُ الياءِ للتَّخفيفِ، كما قد يُتوهَّمُ، فتأمل.
          ({إِنَهُ}) أي: داودَ ({أَوَّابٌ}) أي: كثيرُ الأَوبِ؛ أي: الرُّجوعِ إلى مَرضَاتِ ربِّه ومولاه، قال البيضَاويُّ: وهو تعليلٌ للأَيدِ، دليلٌ على أنَّ المرادَ به القوَّة في الدينِ، كان يصومُ يوماً ويفطرُ يوماً، ويقومُ نصفَ اللَّيل، انتهى.
          وقال ابنُ جبيرٍ: {أوَّابٌ} مسبحٌ بلغةِ الحبشةِ.
          (قَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَهْمَ فِي الْقَضَاءِ) بنصب: ((الفهمَ)) في أكثرِ الأصُولِ، تفسيرٌ: لـ{فصل} وفي بعضِها: بالرفعِ، خبرٌ لمحذوفٍ؛ أي: للفصلِ بين الخصُومِ؛ وهو: طلبُ البينةِ واليمينِ، قال الرازيُّ: وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ: {فصل الخطاب} عبارةٌ عن كونِه قادراً على التعبيرِ عن كلِّ ما يخطُرُ بالبالِ ويحضُرُ في الخيالِ، بحيثُ لا يخلِطُ شيئاً بشيءٍ، وبحيثُ يفصِلُ كلَّ مقامٍ عمَّا يخالفُه، وهذا معنى عامٌّ يتناولُ فصلَ الخصوماتِ والدعوةَ إلى دينِ الحقِّ.
          وقال في ((الفتح)): روى ابنُ أبي حاتمٍ من طريقِ أبي بشرٍ عن مجاهدٍ قال: الحكمةُ الصَّوابُ، ومن طريقِ ليثٍ عن مجاهدٍ قال: فصلُ الخطابِ: إصابةُ القضَاءِ وفهمُه، ومن طريقِ ابنِ جُريجٍ عن مجاهدٍ قال: فصلُ الخطابِ: العدلُ في الحُكمِ، وما قال من شيءٍ أنفَذَه.
          وقال الشَّعبيُّ: فصْلُ الخطابِ: أمَّا بعدُ، وفي ذلك حديثٌ مسنَدٌ رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ عن أبي موسى الأشعريِّ قال: ((أوَّلُ مَن قال: أمَّا بعدُ، داودُ النبيُّ صلعم، وهو فصلُ الخطابِ)) ومثلُه عن الشعبيِّ، وروى ابنُ أبي حاتمٍ من طريقِ شُريحٍ قال: فصلُ الخطابِ: الشُّهودُ والأيمانُ.
          وقال البيضاويُّ: الحكمةُ: النبوَّةُ، أو كمالُ العلمِ وإتقانُ العملِ، وفصلُ الخطابِ: تمييزُ الحقِّ عن الباطلِ، أو الكلامُ المخلِّصُ الذي ينبِّهُ المخاطَبَ على المقصودِ من غيرِ التِباسٍ، يراعى فيه مطلقُ الفصلِ والوصلِ، والعطفِ والاستئنافِ، والإظهار والحذفِ والتَّكرارِ ونحوِها.
          وإنما سُميَ به: أمَّا بعدُ؛ لأنَّه يفصِلُ المقصودَ عما سبقَ مقدِّمةً له من الحمدِ والصلاةِ، وقيل: هو الخطابُ الفصلُ الذي ليس فيهِ اختصارٌ مخلٌّ ولا إشباعٌ مملٌّ، كما جاء في وصفِ كلامِ رسولِ اللهِ صلعم: ((فصلٌ لا نَزِرٌ ولا هَذِرٌ)).
          وقولُه: ({وهَل أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ} [ص:21]) عطفٌ على: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا} فهو من جملةِ الترجمةِ، والخصمُ في الأصلِ: / مصدرُ: خصَمَ يخصِمُ _من باب: ضرَبَ_، ولذلك أُطلقَ للجمعِ في قولِه: {الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا} إذ دخَلُوا، قال البيضَاويُّ: والاستفهامُ معناهُ التعجُّبُ والتشويقُ إلى استمَاعِه.
          وقولُه: ((إلى قولِه)) متعلقٌ بمحذوفٍ، نحوِ: اقرأ.
          ({وَلاَ تُشْطِطْ} لاَ تُسْرِفْ): قال في ((الفتح)): كذا وقعَ هنا، وقال الفرَّاءُ: معناه: لا تجُرَّ، وروى ابنُ جريرٍ من طريقِ قتادةَ في: {وَلَا تُشْطِطْ}: أي: ولا تمَلَّ، ومن طريقِ السُّديِّ قال: لا تخَفْ.
          قال البيضاويُّ: وقُرئَ: ▬ولا تَشطُط↨ ▬ولا تشطَط↨ ▬ولا تُشاطِطْ↨ والكلُّ من معنى: الشَّطَطِ؛ وهو: مجاوزةُ الحدِّ، انتهى.
          وزاد غيرُ أبي ذرٍّ بعد: ((تُسرِفْ)) قولَه: <في القضاءِ>.
          ({وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}): أي: إلى الطَّريقِ المستَقِيمِ الذي لا خطأَ فيه، وقال البيضَاويُّ: إلى وسَطِهِ؛ وهو العدلُ ({إِنَّ هَذَا أَخِي}): أي: في الدِّينِ والطريقةِ، أو في الصداقةِ، أو في الشَّرِكةِ، وجملةُ: ({لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً}): خبرٌ بعد خبرٍ لـ{إنَّ} أو هي خبرُها، و{أَخِي} بدلٌ من: {هَذَا} أو عطفُ بيانٍ له، و{نَعْجَةً} تمييزٌ، وقال البيضَاويُّ: وقُرئ: ▬تَسعٌ وتَسعونٌ↨ بفتح التاء، ▬ونِعجةً↨ بكسر النون، وزاد ((الكشَّافُ)) أنه قُرئَ: ▬ولي نعجةٌ أنثى↨، وقال: يقالُ: امرأةٌ أنثى للحسناءِ الجميلةِ، انتهى.
          (يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ: نَعْجَةٌ، وَيُقَالُ لَهَا أيضاً: شَاةٌ) قال العينيُّ: هذا من أحسَنِ التَّعرِيضِ، حيثُ كنَّى بالنِّعاجِ عن النسَاءِ، والعربُ تفعلُ هذا كثيراً، تورِّي عن النساءِ بالظِّباءِ والشاءِ والبقرِ، انتهى.
          وفي ((الفتح)): قال أبو عبيدةَ في قولِه: ({وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ}) أي: امرأةٌ، قال الأعشى:
فرمَيتُ غفلةَ عينِه عن شاتِهِ                     فأصبْتُ حبَّةَ قَلبِهَا وطِحَالِها
          وقال الحسنُ بنُ الفضلِ: هذا تعريضٌ للتنبيهِ والتفهُّمِ؛ لأنَّه لم يكُنْ هناك نِعاجٌ، وإنَّما هذا مثلُ قولِهم: ضربَ زيدٌ عَمراً، وما هناك ضربٌ.
          ({فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} [ص:23]): بقطع الهمزة (مِثْلُ {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} [آل عمران:37] ضَمَّهَا) يحتملُ: ((ضمَّها)) الفعلَ الماضيَ، فيكونُ بياناً لـ{كَفَّلَهَا} وهو الموجودُ في الأصولِ، ويحتملُ أن يكونَ أمراً، فيكونُ تفسيراً لقولِه: {أَكْفِلْنِيهَا}، والمعنى عليه كما قال أبو العاليةِ: ضَمَّها إليَّ حتى أكفَلَها، وقال ابنُ كيسانَ: اجعَلْها كِفْلي؛ أي: نصيبي، وقال ابنُ عباسٍ: أعطِنيها ({وَعَزَّنِي} غَلَبَنِي) أي: بالحُجَّةِ في مخاطبتِه إيَّايَ.
          وقال البيضاويُّ: {وَعَزَّنِي فِي الخِطَابِ} أي: غلبَني في مخاصَمتِه إيَّاي محاجَّةً بأن جاءَني بحِجاجٍ لم أقدِرْ على ردِّه، أو في مخاطبتِه إيَّاي في الخِطبةِ، يقالُ: خطَبتُ المرأةَ وخطَبها هو مخاطبُها خِطاباً حيثُ زُوِّجَها دوني، قال: وقُرئَ: ▬وعازَّني↨ أي: غالبَني وعزَّني على تخفيفٍ غريبٍ.
          (صَارَ أَعَزَّ مِنِّي) أي: أقوى (أَعْزَزْتُهُ: جَعَلْتُهُ عَزِيزاً {فِي الْخِطَابِ}) وقول: ((أعزَزتُه)) و((جعلتُه)) بضمِّ التاء فيهما، وفي بعضِ الأصُولِ: بفتحِهَا، وقولُه: (يُقَالُ الْمُحَاوَرَةُ) مرادُه به: تفسيرُ الخطابِ بالمحاوَرةِ، وهي: _بالحاءِ المهملةِ_ المراجعةُ بين الخصمَين.
          ({قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}) قال البيضَاويُّ: جواب قسَمٍ محذوفٍ قصدَ به المبالغةَ في إنكارِ فعلِ خليطِه وتهجينِ طمَعِه، ولعله قال ذلك بعد اعترافِهِ، أو على تقديرِ صدقِ المدَّعي، و{سُؤالِ} مصدرٌ مضافٌ لمفعولِه، والفاعلُ محذوفٌ؛ أي: بسؤالِه.
          (نَعجَتَكَ إلَى نِعَاجِهِ) أي: بإضَافةِ امرأتِك إلى نسَائهِ، فلمَّا ضمَّنوا السؤالَ معنى الإضافةِ عدَّاه بـ{إلى} وسقَطَ لأبي ذرٍّ: <{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ}> إلخ.
          ({وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ} الشُّرَكَاءِ) بالشِّين المعجمَةِ، تفسيرٌ لـ{الخُلَطَاءِ} ({لَيَبْغِي} [ص:24]) بفتحِ اللام؛ أي: لَيتعدَّى عليه ويظلِمُه، وقُرئَ: ▬لَيبغيَ↨ بفتحِ الياء الأخيرة على أنَّ أصلَه: ليبغيَنَّ _بنون التَّوكيد_، كقولِهِ:
اضرِبْ عنْكَ الهمُومَ طَارِقْها
          ثمَّ خُففَ بحذفِها، قاله البيضاويُّ.
          وهذا كلُّه تمثيلٌ لأمرِ داودَ مع أُورِيَّا زوجِ تشايعَ المرأةِ التي تزوَّجَها داودُ بعد قتلِ زوجِها في غَزاةٍ لفرطِ حُسنِها مع أنَّ داودَ كان له تسعٌ وتسعون امرأةً، ولأُورِيَّا هذه المرأةُ الواحدةُ، فضمَّها إلى نسائه.
          وقولُه: (إِلَى قَوْلِهِ: {إنَّمَا فَتَنَّاهُ}) متعلقٌ بمحذوفٍ، وقولُه: (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اخْتَبَرْنَاهُ) تفسيرٌ لـ{فَتَنَّاهُ} وصلَهُ ابنُ جريرٍ، وقرأ عمرُ / ☺: ▬فتَّنَّاه↨ بتشديد التاء، قال في ((الفتح)): أمَّا قراءةُ عمرَ فمذكورةٌ في الشَّواذِّ، ولم يذكُرْها أبو عبيدةَ في القراءاتِ المشهورةِ، ونُقلَ التشديدُ أيضاً عن أبي رجاءٍ العَطارديِّ والحسَنِ البصريِّ.
          ({فَاسْتَغْفَرَ}) أي: داودُ ({رَبَّهُ}) أي: من ذنبِه ({وَخَرَّ}) أي: سقَطَ مطلَقاً أو من علوٍّ إلى سُفلٍ، يخِرُّ _بكسر الخاء وضمِّها_ خُروراً وخَرًّا، قاله في ((القاموس)) ({رَاكِعاً}) أي: ساجداً، وعبَّرَ عن السُّجودِ بالرُّكوعِ بجامعِ الانحناءِ، وقال البيضاويُّ: {رَاكِعاً}: ساجداً على تسميةِ السجودِ ركوعاً؛ لأنَّه مبدَؤُه، أو خرَّ للسُّجودِ راكعاً؛ أي: مصلياً، كأنَّه أحرمَ بركعتَي الاستغفارِ، انتهى. فـ{رَاكِعاً} حالٌ.
          وقال البغويُّ: فـ{خرَّ}؛ أي: فسجدَ بعدما كان راكعاً؛ لأنَّه لا يقالُ للرَّاكعِ: خرَّ (وَأَنَابَ) أي: رجعَ إلى اللهِ بالتَّوبةِ من فعلِ ما هو في حقِّه خلافُ الأَولى، فإنَّ حسنَاتِ الأبرَارِ سيئاتُ المقرَّبين، واستمرَّ يبكِي على ذنبِهِ ثلاثين سنةً لا يرقأُ دمعُه لا ليلاً ولا نهاراً، وكان أصابَ الخطيئةَ وهو ابنُ سبعينَ سنةً، ذكرَه البغويُّ.
          وقال البيضاويُّ: وأقصى ما في هذه القصَّةِ الإشعارُ بأنَّه عليه السلامُ ودَّ أن يكونَ له ما لغيرِه، وكان له أمثالُه، فنبَّهَه اللهُ بهذه القصَّةِ، فاستغفرَ وأنابَ عنه.
          قال: وما رُويَ أنَّ بصرَه وقعَ على امرأةٍ فعشِقَها وسعى حتى تزوَّجَها، ووُلدَ له منها سليمانُ عليهما السَّلامُ؛ إنْ صحَّ فلعلَّه خطَبَ مخطوبتَه، أو استنزلَه عن زوجتِه، وكان ذلك معتاداً بينهم، وقد واسى الأنصارُ المهاجرين بهذا المعنى.
          قال: وما قيل: إنَّه أرسلَ أورِيَّا إلى الجهادِ مِراراً وأمرَ، أن يتقدَّمَ حتى قُتلَ وتزوَّجَها هراءٌ وافتراءٌ، ولذلك قال عليٌّ كرَّمَ الله وجهَه: مَن حدَّثَ بحديثِ داودَ على ما يرويه القصَّاصُ جلدتُه مِائةً وستينَ، وقيل: إنَّ قوماً قصَدُوا أن يقتُلُوه، فتسوَّروا المحرابَ ودخَلُوا عليه، فوجَدُوا عنده أقواماً، فتصنَّعُوا بهذا التَّحاكُمِ، فعَلِمَ غرضَهم وقصدَ أن ينتقِمَ منهم، فظنَّ أنَّ ذلك ابتلاءٌ من اللهِ، له فاستغفرَ ربَّه ممَّا همَّ به وأنابَ، انتهى.
          ولقد أطال البغَويُّ الكلامَ في هذهِ القصَّةِ بما فيه موعِظةٌ واعتبارٌ، وليسَ فيه ما يُخِلُّ بمقامِ النبوَّةِ مما يذكرُه بعضُ القُصَّاصِ الأشرارِ الذين يأخُذونَ مثلَ ذلك من الأخبارِ الإسرائيليَّاتِ التي ذكرَها بعضُ جهَلتِهم من غيرِ أن يثبُتَ عن نحوٍ معصومٍ اصطفَاه بديعُ الأرَضينَ والسَّماواتِ.
          نعم ما ذكرَه من أنَّه أمرَ بتقديمِ أورِيَّا مِراراً حتى قُتلَ فيه ما فيه؛ لقولِه عليه السَّلامُ: ((مَن سعى في دمِ مسلمٍ ولو بشَطرِ كلمةٍ جاءَ مكتوبٌ بين عينَيهِ: آيِسٌ من رحمةِ اللهِ)) كما ذكرَه الرازيُّ، وسيأتي بعضُ فوائدِ الحديثِ آخرَ البابِ.