الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: بينا رجل يسوق بقرةً إذ ركبها فضربها

          3471- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) أي: ابنِ المدينيِّ، قال: (حَدَّثَنَا / سُفْيَانُ) أي: ابنُ عُيينةَ، قال: (حَدَّثَنَا أبو الزِّنَادِ) هو: عبدُ الله بنُ ذَكوانَ (عَنِ الأَعْرَجِ) هو: عبدُ الرحمنِ بنُ هُرمُزَ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بفتحات؛ أي: ابنِ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ (عَنْ أبي هُرَيْرَةَ ☺) قال البرماويُّ كالكرمانيِّ: في بعضِها بإسقاطِ: ((أبي سلَمةَ))، وهو صحيحٌ أيضاً؛ لأنَّ الأعرجَ يروي عن أبي هريرةَ أيضاً بلا واسطةٍ.
          (قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلعم صَلاَةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ) أي: الحاضرين معه (فَقَالَ: بَيْنَا) بغير ميم (رَجُلٌ) أي: من بني إسرائيلَ، لكنَّه لم يُعلمِ اسمُه (يَسُوقُ بَقَرَةً) التاء للوحدة، وقوله: (إِذْ رَكِبَهَا) جوابُ: ((بينا)) (فَضَرَبَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّا) بتشديد النون للمتكلم ومعه غيرُه (لَمْ نُخْلَقْ) بالبناء للمجهول (لِهَذَا) أي: للركوبِ (إِنَّمَا خُلِقْنَا) بضم الخاء المعجمة (لِلْحَرْثِ) قال في ((الفتح)): استُدِلَّ بهذا على أنَّ الدوابَّ لا تُستعمَلُ إلا فيما جَرَتِ العادةُ باستعمالِها فيه، ويحتمِلُ أنَّ قولَها ذلك إشارةٌ إلى مُعظمِ ما خُلقَتْ له، ولم تُرِدِ الحصرَ اتفاقاً؛ لأنَّ من جملةِ ما خُلقتْ له أنَّها تذبَحُ وتؤكَلُ اتفاقاً، وتقدَّم في المزارعةِ الكلامُ عليه بأبسطَ.
          (فَقَالَ النَّاسُ) أي: بعضُ الحاضرين (سُبْحَانَ اللَّهِ؛ بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ) بحذف إحدى التاءين تخفيفاً، والأصل: تتكلَّمُ، و((بقرةٌ)) مبتدأٌ، وسوَّغ الابتداءَ بها الإخبارُ عنها بخارقٍ للعادةِ (فقَالَ): أي: رسولُ الله عليه السلامُ (فَإِنِّي) قال شيخُ الإسلامِ: وفي نسخةٍ: <قال: إنِّي>، والفاءُ في: ((فقالَ)) على ثبوتِها في جوابِ شرطٍ محذوفٍ (أُومِنُ) بمد الهمزة المضمومة؛ أي: أصدِّقُ (بِهَذَا) أي: بأنها تكلمَتْ، وقولُه: (أَنَا) توكيدٌ للياءِ في: ((إني))، أو للضميرِ المستترِ في: ((أومِنُ))، وثبتَ لفظُ: <أنا> في ((اليونينيَّةِ))، وسقطَ من الفرعِ، وعلى السقوطِ فـ((أبو بكرٍ وعمرُ)) معطوفان على الضميرِ المستترِ في: ((أومِنُ))، وهو جائزٌ على قلةٍ من غيرِ توكيدٍ أو فاصلٍ ما، أو مبتدأٌ والخبرُ محذوفٌ؛ أي: يؤمنان بذلك (وَأَبُو بَكْرٍ) أي: الصدِّيقُ (وَعُمَرُ) أي: ابنُ الخطابِ، وجملةُ: (وَمَا هُمَا ثَمَّ) بفتح المثلثة؛ أي: ليسا حاضرَين، حاليةٌ، وهي من كلامِ الراوي، ولم تقَعْ في روايةِ الزُّهريِّ، قالَه في ((الفتح)).
          وأقول: صرَّحَ في ((البخاريِّ)) في باب استعمالِ البقرِ للحَرثِ بأنَّه قال أبو سلَمةَ: ((وما هما يومَئذٍ)) قال في ((الفتح)): وهو محمولٌ على أنَّه كان أخبرَهما بذلك قبلُ فصدَّقاه، أو أطلقَ ذلك لِما اطَّلعَ عليه من أنَّهما يصدِّقان بذلك إذا سمِعاه، ولا يتردَّدان فيه.
          وقوله: (وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي غَنَمِهِ) أي: يرعاها... إلخ، حديثٌ آخرُ بالسَّندِ السَّابقِ، فهو موصُولٌ (إِذْ عَدَا الذِّئْبُ) جوابُ: ((بينما)) بالميم، و((عدا)) بالعينِ المهملةِ.
          قال في ((المصباح)): عَدا عليه يعدُو عَدْواً وعُدُوًّا _مثلُ: فَلْسٍ وفُلُوسٍ_ وعُدْواناً وعَداءً _بالفتح والمد_: ظلمَ وجاوزَ الحدَّ، انتهى.
          (فَذَهَبَ) أي: الذئبُ (مِنْهَا) أي: من الغنمِ (بِشَاةٍ، فَطَلَبَ) بفتحات؛ أي: صَاحبُ الغنَمِ الشاةَ، ولو بُنيَ للمَجْهولِ لم يمتنِعْ (حَتَّى كَأنَّه) أي: صاحبُ الغنمِ (اسْتَنْقَذَهَا) أي: الشَّاةَ (مِنْهُ) أي: من الذِّئبِ، و((كأنَّ)) للتَّحقيقِ لقولِه: (فَقَالَ لَهُ الذِّئْبُ: هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي) و((هذا)) أي: يا هذا، بحذفِ: ((يا))، واعتُرِضَ بأنَّ حذفَها في مثلِ هذا ممنوعٌ أو قليلٌ، ويحتمِلُ أنَّ المرادَ: هذا اليومَ، فلا حذفَ لـ((يا))، فهذا في محلِّ نصبٍ على الظرفيةِ مشاراً به إلى اليومِ، ولأبي ذرٍّ عن الحمويِّ والمستمليِّ: <استنقَذَها> على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الغَيبةِ؛ أي: الرجلُ، وقال في ((الفتح)): في رواية الكشميهنيِّ: <استُنقذَها> بإبهامِ الفاعلِ.
          (فَمَنْ لَهَا) أي: للشاةِ (يَوْمَ السَّبُعِ) بضم الموحدة، وقال عياضٌ: الروايةُ بضمِّها، ويجوزُ إسكانُها، وقال البرماويُّ تبعاً للكرمانيِّ: ((يومَ السَّبعِ)) بضم الموحدة وسكونها؛ أي: مَن لها عند الفتَنِ / حيثُ يتركُها الناسُ همَلاً لا راعيَ لها نُهبةً للسباعِ، فيبقى لها السَّبُعُ راعياً، وقيل: هو يومُ عيدٍ كان لهم في الجاهليةِ، أو غيرُ ذلك مما سبقَ في كتابِ الحرثِ.
          (يَوْمَ لاَ رَاعِيَ لَهَا غَيْرِي) بنصبِ: ((يومَ)) الثاني، بدلٌ من الأولِ، أو عطفُ بيانٍ (فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ) تعجبٌ (ذِئْبٌ يَتَكَلَّمُ، قَالَ) أي: رسولُ الله صلعم (فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمَا هُمَا ثَمَّ، وحَدَّثَنَا) بالواو، ولأبي ذرٍّ بحذفِها (عَلِيٌّ) أي: ابنُ المدينيِّ، قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أي: ابنُ عُيينةَ (عَنْ مِسْعَرٍ) بكسر الميم وفتح العين المهملة؛ أي: ابنِ كِدامٍ (عَنْ سَعْدِ) بسكون العين (ابْنِ إِبْرَاهِيمَ) أي: ابنِ عبدِ الرحمنِ بنِ عوفٍ (عَنْ أبي سَلَمَةَ) هو: عمُّ سعدٍ المذكورِ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم بِمِثْلِهِ) أي: بمثلِ الحديثِ السابقِ، ولأبي ذرٍّ: <مثلَه> بحذف الموحدة، والحاصلُ أنَّ لسفيانَ فيه شيخَين، كلاهما يروي عن أبي سلَمةَ.