الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب} إلى قوله: {ونحن له مسلمون}

          ░14▒ (بابٌ): يجوز فيه التَّنوين، وعليه اقتصرَ الشُّرَّاح، ويجوز الإضافة على إرادة اللَّفظ أو على حذف مضافٍ، فافهم / .
          ({أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ المَوْتُ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133]): هكذا وقع في أكثر الأصول، ووقع في بعضها: <باب: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيْهِ} الآية>، وعلى هذا شرح القسطلانيُّ كالحافظ، وقال القسطلانيُّ: {إِذْ قَالَ لِبَنِيْهِ} ثابتٌ لأبي ذرٍّ، ساقطٌ لغيرهِ.
          وهذه الآيةُ في أثناء سورة البقرة و{أَمْ} منقطعةٌ بمعنى: بل، والاستفهام مقدَّرٌ بعدها، وبل للانتقالِ من شيءٍ إلى آخر نحو: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16] وليست للإبطالِ، والاستفهامُ المقدَّر للإنكارِ والتَّوبيخ، فيؤول معناه إلى النَّفي؛ يعني: ما كنتُم حاضرين حين حضرَ يعقوبَ الموتُ وقال لبنيهِ ما قال، فلِمَ تدَّعون اليهوديَّة عليه؟ وحضور الموتِ بحضُورِ أسبابهِ ومقدِّماتهِ.
          وقيل: {أَمْ} متَّصلةٌ مرتبطةٌ بمحذوفٍ تقديره: أكنتم غائبِين أم كنتم شهداء؟ والخطابُ لليهود، وقيل: الخطاب للمُؤمنين، والمعنى: ما شهدتم ذلك، وإنَّما علمتموه بالوحي.
          و{إِذْ حَضَرَ} ظرفٌ منصوبٌ بـ{شُهَدَاءَ} لا مفعول به له، وقرئ: ▬حضِر↨ بكسر الضَّاد {إِذْ قَالَ لِبَنِيْهِ} بدلٌ من {إِذْ} الأوَّل أو ظرفٌ لـ(({حَضَرَ})) {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}؛ أي: أيَّ شيءٍ تعبدون بعد موتي؛ أرادَ به: تقريرهم على التَّوحيدِ والإسلامِ، وأخذَ ميثاقَهُم بالثَّبات عليهما، قال البيضاويُّ: و{مَا} يُسأل به عن كلِّ شيءٍ ما لم يعرف، فإذا عُرف خُصَّ العقلاء بـ((من)) إذا سُئِل عن تعيينه، وإن سُئِل عن وصفه قيل: ما زيدٌ فقيهٌ أم طبيبٌ؟
          {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيْمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ}: أي: ما نعبد إلَّا الإله المتَّفق على وجوده وألوهيَّته ووجوب عبادته، وعدَّ إسماعيل من آبائه مع أنَّه عمُّه تغليباً للأب، أو لأنَّه كالأب؛ لقوله عليه السَّلام: ((عمُّ الرَّجل صنو أبيه))، وكما قال في العبَّاس: ((هذا بقيَّةُ آبائي)) والعرب تجعل العمَّ أبًا، كما تجعل الخالة أمًّا، وقدَّم إسماعيل على إسحاق؛ لأنَّه أسنُّ منه، وقرئ: ▬إله أبيك↨ بالإفراد، {إِلَهًا وَاحِدًا} بدل من {إِلَهَ آبَائِكَ} كقوله تعالى: {بِالنَّاصِيَةِ. نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق:15-16]، وفائدته التَّصريحِ بالتَّوحيدِ ونفي التوهُّم الناشِئ من تكريرِ المضاف؛ لتعذُّر العطفِ على المجرورِ والتَّأكيد أو نصب على الاختصَاصِ.
          وجملة: ({وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}) حاليَّةٌ من فاعل: {نَعْبُدُ} أو مفعوله أو منهما، ويجوزُ أن تكونَ اعتراضيَّةٌ.
          لطيفة: رُوِي عن عطاء أنَّه قال: إنَّ الله لم يقبض نبيًّا حتَّى يُخيِّره بين الموت والحياة، فلمَّا خُيِّر يعقوب قال: أنظرني حتَّى أسأل ولدي وأوصيهم، ففعل ذلك به، وجمع ولده وولد ولده وقال لهم: قد حضر أجَلي فما تعبدون من بعدي، {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ} الآية، {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي: مُذعِنون ومُخلِصون العمل لله تعالى.