الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم}

          ░52▒ (بابُ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} [الكهف:9]) سقطَ لفظُ: ((بابُ)) مع: ((قولِ اللهِ تعالى)) لأبي ذرٍّ عن المستمليِّ والكُشميهنيِّ، وكذا سقطَ في فرعِ ((اليونينيَّةِ)) وأصلِها، وسقطَ لفظُ: <قولِ الله تعالى> من نسخةٍ، كما في ((المنحةِ))، ووقعَ في أخرى بدلَه: <قولِهِ جلَّ ذِكرُه>، وسقطَ لفظُ: <{وَالرَّقِيمِ}> لأبوَي ذرٍّ والوقتِ وابنِ عساكرَ، وسقطَ البابُ وما بعده إلى حديثِ الغارِ للنَّسفيِّ، قال العينيُّ: وهو الصوابُ؛ لأنَّ الكتابَ في الحديثِ لا في التَّفسيرِ، انتهى، فتأمَّلْ.
          وعبارةُ القسطلانيِّ آخِراً: وسقطَ هذا التفسيرُ كلُّه للنَّسفيِّ، وثبتَ في الفرعِ وأصلِهِ للكُشميهنيِّ والمستمليِّ، وسقطَ للحمويِّ، وهو ثابتٌ أيضاً في أصُولِ الحفَّاظِ: أبي ذرٍّ الهرَويِّ، وأبي محمَّد الأَصيليِّ، وأبي القاسم الدمشقيِّ، وأبي سعدٍ السمعانيِّ، انتهت.
          وثبتَ في بعضِ الأصُولِ: <الآيةَ> بعد: {وَالرَّقِيمِ}، وهذه الآيةُ في أوائلِ سورةِ الكهفِ.
          قال البيضاويُّ: {أَمْ حَسِبْتَ} بل حسِبتَ {أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} في إبقاءِ حياتِهم مدةً مديدةً {كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَباً} وقصتُهم بالإضافةِ إلى خلقِ ما على الأرضِ من الأجناسِ والأنواعِ الفائتةِ للحَصرِ على طبائِعَ متبَاعدةٍ وهيئاتٍ متخَالفةٍ تُعجبُ النَّاظرين من مادَّةٍ واحدةٍ، ثم ردُّها إليها ليس بعجيبٍ مع أنَّه من آياتِ اللهِ كالنَّزرِ الحقيرِ.
          وقال البغويُّ: أظننتَ يا محمَّدُ أنَّ أصحابَ الكهفِ كانُوا من آياتِنا عجباً؛ أي: هم عجَبٌ من آياتِنا، وقيل: معناه: ليسُوا بأعجَبِ آياتِنا، فإنَّ ما خلَقْنا من السَّماواتِ والأرضِ وما فيهنَّ من العجَائبِ أعجبُ منهم، انتهى.
          ولم يذكرِ البخاريُّ في هذا البابِ إلَّا تفسيرَ كلماتٍ كلُّها من سورةِ الكهْفِ، إلا {مُؤْصَدَةٌ}؛ فإنَّها من سورةِ: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ} [الهمزة:1].
          فقال: (الْكَهْفُ: الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ) هذا قولُ الضحَّاكِ، أخرجه ابنُ أبي حاتمٍ عنه، قال البيضاويُّ: الكهفُ: الغارُ الواسعُ في الجبل.
          وقال العينيُّ: وذكرَ مقاتلٌ في ((تفسيرِه)) أنَّ اسمَ الكهفِ مانجلوسُ، واختُلفَ في مكانِ الكهفِ، فقيل: بين أَيلةَ وفلسطينَ، وروى الطبريُّ بسندٍ ضعيفٍ عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّه بالقربِ من أَيلةَ، وقيل: بأرضِ نِينوَى، وقيل: بالبَلقاءِ، وقيل: بقُربِ رَيزا، وقيل: بغرنَاطةَ من الأندلسِ، والَّذي تظاهرَتْ به الأخبارُ أنَّه ببلادِ الرومِ، قال العينيُّ: وهو الصَّحيحُ، فقيل: بالقربِ من طَرَسوسَ، وقيل: بالقُربِ من إبلِستينَ، وكان اسمُ مدينتِهم أفسُوسَ _بالفاء_، واسمُ ملكِهم: دقيانوسَ.
          وقال السُّهيليُّ: ومدينتُهُم يقالُ: إنَّها على ستَّةِ فراسِخَ من القُسطنطينيةِ، وكأنَّ قصتَهم قبل غلَبةِ الرومِ على اليونانِ، وأنَّهم سيُحجَون إذا نزلَ عيسى عليه السلام.
          وذكر ابنُ مردوَيهِ في ((تفسيرِه)) من حديثِ حجَّاجِ بنِ أرطأةَ بسندِه إلى ابنِ عبَّاسٍ رفَعَه: ((أصحابُ الكهفِ أعوانُ المهديِّ))، انتهى.
          وقال في ((الفتح)): وسندُه ضعيفٌ، فإنْ ثبتَ حُملَ على أنهم لم يموتُوا، بل هُم في المنامِ إلى أن يُبعثُوا لإعانةِ المهديِّ.
          قال: وقد وردَ من حديثٍ آخرَ بسندٍ واهٍ أنَّهم يحجُّون مع عيسى ابنِ مريمَ عليه السلامُ، وذكرَ في ((الفتح)) آخرَ هذا البابِ بيانَ قصةِ أهلِ الكهفِ مجمَلةً، وبيانَ أسمائهم مفصَّلةً، وتبِعْناه في ذكرِها هناك.
          (وَالرَّقِيمُ: الكِتَابُ) مبتدأٌ وخبرٌ كسابقِهِ ({مَرْقُومٌ} [المطففين:9]: مَكْتُوبٌ مِنَ الرَّقْمِ) بسكون القاف، مصدرُ: رقَمتُ الكتابَ _بفتح القاف_،من بابِ / قتلَ: كتبتُه، فهو مرقومٌ ورقيمٌ، قالَه في ((المصباح)).
          وقال في ((الفتح)): روى الطبريُّ عن ابنِ عبَّاسٍ قال: {الرَّقِيمِ}: الكتابُ، وقولُه: {مَرْقُومٌ} مكتوبٌ، هو قولُ أبي عبيدةَ، قالَه في تفسيرِ: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ}، قال: ووراءَ ذلك أقوالٌ أُخرُ، فعن أبي عبيدةَ: {الرَّقِيمِ} الوادي الذي فيه الكهفُ، وعن كعبِ الأحبارِ: {الرَّقِيمِ} اسمُ القريةِ، وعن أنسِ بنِ مالكٍ: {الرَّقِيمِ} اسمُ الكلبِ، قال أميةُ بنُ أبي الصَّلتِ:
وليسَ بها إلَّا الرَّقيمُ مجاوِراً                     وصيدُهُم والقومُ في الكهْفِ همَّدا.
          وقيل: {الرَّقِيمِ} الغارُ، كما يأتي في حَديثِ الغارِ، وقيل: {الرَّقِيمِ} الصَّخرةُ التي أطبقَتْ على الوادِي الذي فيه الكهفُ، وسيأتي في تفسيرِ سُورةِ: الكهف، عن ابنِ عبَّاسٍ أنَّ الرقيمَ لوحٌ من رصاصٍ كُتبَتْ فيه أسماءُ أصحَابِ الكهفِ لمَّا توجَّهُوا عن قومِهِم ولم يدرُوا أين توجَّهُوا.
          وقيل: {الرَّقِيمِ} الدَّواةُ، قيل: الذي كان مكتوباً في الرَّقيمِ هو شرعُهم الذي كانُوا عليه، انتهى ملخَّصاً مع زيادةٍ.
          وقال البغويُّ: لوحٌ من رصَاصٍ، وقيل: من حجَارةٍ كُتبَ فيه أسماءُ أصحابِ الكهْفِ وقصتُهم، وهو أظهرُ الأقاويلِ، ثم وضَعُوه على بابِ الكهفِ، انتهى.
          تنبيه: قال قومٌ: أخبرَ اللهُ تعالى عن قصةِ أصحابِ الكهفِ، ولم يخبِرْ عن قصةِ أصحابِ الرَّقيمِ، وردَّه في ((الفتح)) فقال: وليسَ كذلك، بل السياقُ يقتضِي أنَّ أصحابَ الكهفِ هُم أصحابُ الرقيمِ، انتهى.
          وأقول: ليُنظَرْ أيُّ سياقٍ يقتضِي ذلك، فإنْ أرادَ سياقَ البخاريِّ فمن أين؟ وإن أراد سياقَ غيرِه فليُنظَرْ، نعم، قال البيضاويُّ: وقيل: أصحابُ الرقيمِ قومٌ آخرون، كانوا ثلاثةً خرجوا يرتادون لأهليهم، فأخذَتهمُ السماءُ، فأوَوا إلى كهفٍ، فانحطَّتْ عليهم صخرةٌ وسدَّتْ بابَه... إلخ.
          وذكر القصةَ الآتيةَ عقِبَ هذا البابِ مفصَّلةً في حديثِ الغارِ.
          ({وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الكهف:14]) أي: الفتِيَّةِ، وهم أصحابُ الكهفِ، وسقطت واوُ: {وَرَبَطْنَا} من أكثرِ الأصُولِ (أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْراً) هذا تفسيرُ أبي عبيدةَ، وقال البيضاويُّ: قوَّينا قلوبَهم بالصبرِ على هجرِ الوطنِ والأهلِ والمالِ، والجرأةِ على إظهارِ الحقِّ، والردِّ على دقيانوسَ الجبَّارِ.
          وعبارةُ البغويِّ: {وَرَبَطْنَا}: شدَدْنا على قلوبِهم بالصبرِ والتثبُّتِ، وقوَّيناهم بنورِ الإيمانِ حتى صبَرُوا على هجرانِ دارِ قومِهم ومفارَقةِ ما كانُوا فيه من خفضِ العيشِ، وفرُّوا بدينِهِم إلى الكهفِ.
          ({شَطَطاً} [الكهف:14] إِفْرَاطاً) أي: في الظلمِ، وهو تفسيرُ: {شَطَطاً} المنصوبِ على أنَّه صفةُ مصدرٍ محذوفٍ؛ أي: قولاً، وقال في ((الفتح)): قال أبو عبيدةَ في قولِه تعالى: {لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} [الكهف:14] أي: جَوراً وغُلوًّا، قال الشاعر:
ألَا يا لَقَومِي قَد أشطَّتْ عَواذِلي                     ويَزعُمْنَ أَنْ أُودَى بحَقِّي بَاطِلِي.
          قال: وروى الطبريُّ عن سعيدٍ عن قَتادةَ في قوله: {شَطَطاً} قال: كذباً، انتهى.
          وقال البغويُّ: أصلُ الشَّطَطِ والإشطَاطِ: مجاوَزةُ القدْرِ والإفرَاطُ.
          (الْوَصِيدُ: الْفِنَاءُ) بكسر الفاء وتخفيفِ النون ممدودٌ؛ أي: فِناءُ الكهْفِ؛ وهو: ساحتُه التي أمامَهُ، وهذا تفسيرُ ابنِ عباسٍ كمَا أخرجَه ابنُ أبي حاتمٍ وابنُ جريرٍ عنه في تفسيرِ قولِهِ تعَالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18].
          (وَجَمْعُهُ) أي: ((الوصيدُ)) (وَصَائِدُ) بهمزةٍ بعد الألفِ (وَوُصُدٌ) بضمِّ الواو والصَّاد المهملة وتسكَّنُ الصَّاد تخفيفاً (وَيُقَالُ: الْوَصِيدُ: الْبَابُ) هذا تفسيرٌ ثانٍ للوصيدِ، ويقالُ أيضاً: الوصيدُ: عتَبةُ البابِ ({مُؤْصَدَةٌ} [البلد:20]) بسكونِ الهمزةِ وتبدلُ واواً (مُطْبَقَةٌ) بسكونِ الطاء المهمَلةِ، هذا تفسيرُ: {مُؤْصَدَةٌ} في قولِهِ تعَالى في سورةِ الهُمزةِ: {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة:8]، ذكرَها هنا للمنَاسبةِ.
          (آصَدَ الْبَابَ) بمدِّ الهمزةِ وفتحِ الصَّاد والدالِ المهملتين، فعلٌ ماضٍ، وأصلُه: أأصدَ، فقُلبتِ الهمزةُ الثانيةُ ألفاً، ومعناه: أغلقَه أيضاً، وفي بعضِ الأصُولِ: <آصِد البابَ> بكسر الصَّاد (وَأَوْصَدَ) ماضٍ أو أمرٌ أيضاً، والواو أصليَّةٌ والهمزةُ / زائدةٌ، و((آصَدَ)) السابقُ همزتُه الثانيةُ أصليةٌ، فالفعلُ جاء من: أصَدَ _بفتح الصاد_، ومِن: وصِدَ _بكسرها_، كما يُعلمُ من مراجعةِ كُتبِ اللُّغةِ، ولتنظرْ.
          وقال العينيُّ: آصَدَ البابَ: أغلقَه، ويقالُ فيه: أوصدَ أيضاً بمعنًى، يقال: بالثُّلاثيِّ والمزيدِ، انتهى، فتأمله.
          وقال في ((الفتح)): تقولُ: أوصِدْ بابَك وآصِدْه؛ أي: أطبِقْه، قال: وذكرَ الطبريُّ عن أبي عمرِو بنِ العلاءِ أنَّ أهلَ اليمن وتِهامةَ يقولون: الوصيد، وأهلَ نجدٍ يقولون: الأصيد، انتهى.
          ({بَعَثْنَاهُمْ} [الكهف:12]: أَحْيَيْنَاهُمْ) هذا تفسيرُ أبي عبيدةَ لقولِهِ تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:19]، وقال شيخُ الإسلام: أي: أيقظناهم، وتبعَهُ القسطلانيُّ أخذاً من البيضاويِّ.
          وأقول: يؤيدُ هذا قولُه تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ} [الكهف:18]، فتأمَّل.
          وقال البيضاويُّ: وكما أنَمْناهُم آيةً بعَثْناهم آيةً على كمَالِ قدرتِنا {لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} ليسألَ بعضُهم بعضاً فيتعرَّفوا بحالِهم وما صنعَ اللهُ بهم، فيزدادوا يقيناً على كمَالِ قدرةِ الله، ويستَبصِرُوا به أمرَ البعثِ، ويشكروا ما أنعمَ اللهُ به عليهم.
          ({أَزْكَى} [البقرة:232]: أَكْثَرُ رَيْعاً) بفتحِ الراء وسكونِ التَّحتية فعينٌ مهملة؛ أي: نماءً وزيادةً، قال في ((الفتح)): قال أبو عبيدةَ في قوله تعالى: {أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً} [الكهف:19]: أي: أكثرُ، قال الشاعر:
قبَائِلُنا سبعٌ وأنتُم ثلاثةٌ                     ولَلسَّبْعُ أزكَى مِن ثلَاثٍ وأَطْيبُ.
          قال: وروى عبدُ الرزاقِ في ((تفسيرِه)) عن قتادةَ قال: خيرٌ طعاماً، وروى الطبريُّ عن سعيدِ بنِ جُبيرٍ: أحَلُّ، ورجَّحَه الطبريُّ، انتهى.
          وقال الزمخشريُّ والبيضاويُّ: أي: أهلِها، كما في قولهِ تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]، و{أَزْكَى طَعَاماً} أي: أحلُّ وأطيبُ، أو أكثرُ وأرخصُ.
          (فَضَرَبَ اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ، فَنَامُوا) يريدُ تفسيرَ قولِه تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} [الكهف:11].
          قال في ((الفتح)): هذا تفسيرُ ابنِ عبَّاسٍ، قال: وقيل: معنى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ} أي: فسَدَدنا عن نفوذِ الأصواتِ إليها.
          وقال الزمخشريُّ: أي: فضربنا على آذانِهم حجاباً من أن تسمَعَ؛ يعني: أنمناهُم إنامةً ثقيلةً لا تنبِّهُهم فيها الأصواتُ.
          ({رَجْماً بِالْغَيْبِ} [الكهف:22] لَمْ يَسْتَبِنْ) هذا تفسيرُ قتادةَ في قولِه تعالى: {رَجْمَاً بِالْغَيْبِ} [الكهف:22] قال: قولاً بالظنِّ، ومثلُه قولُ أبي عبيدةَ: الرجمُ: ما لم تستيقِنْه من الظنِّ، قال الشاعرُ:
وما الحربُ إلَّا ما علمْتُم وذقْتُمُ                     وما هو عنها بالحديثِ المُرجَّمِ
          (وَقَالَ): قال القسطلانيُّ: ولابنِ عسَاكرَ: <فقال> (مُجَاهِدٌ) أي: ابنُ جبرٍ ({تَقْرِضُهُمْ} [الكهف:17]: تَتْرُكُهُمْ) يريدُ تفسيرَ: {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} [الكهف:17]، وأصلُ القَرْضِ: القطعُ والتَّفرِقةُ، من قولِهم: قرَضتُه بالمِقراضِ، وقيل: تصيبُهم يسيراً، أخذاً من قُراضةِ الذَّهبِ والفضةِ؛ أي: تعطيهِم الشمسُ يسيراً من شعَاعِها، وهذا قولُ الكسَائيِّ والفرَّاءِ؛ أي: تقطَعُهم وتتَجَاوَزُهم.
          قال البغَويُّ: كأنَّ كهفَهم مستقبِلَ بناتِ نعشٍ، لا يقعُ فيها الشمسُ عند الطُّلوعِ، ولا عند الغروبِ، ولا فيما بين ذلك.
          قال بعضهم: وهذا القولُ خطأٌ، بل كان اللهُ يصرِفُ عنهم الشَّمسَ بقُدرتِه، ويَحولُ بينهُم وبينها، ألا ترى أنَّه قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ} [الكهف:17] أي: من عجَائبِ صُنعِهِ ودلالاتِ قُدرتِه الباهرةِ.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): لم يذكرِ البخاريُّ في هذه الترجمةِ حديثاً، وقد روى عبدُ بنُ حُميدٍ بإسنادٍ صحيحٍ عن ابنِ عباسٍ قصةَ أصحابِ الكهفِ مطوَّلةً غيرَ مرفوعةٍ، وملخَّصُ ما ذكرَ: ((أنَّ ابنَ عباسٍ غزا مع معاويةَ ☻ الصَّائفةَ، فمرُّوا بالكهفِ الذي ذكرَه اللهُ في القرآن، فقال معاويةُ: أريدُ أن أكشِفَ عنهم، فمنعَه ابنُ عباسٍ، فصمَّمَ معاويةُ وبعثَ ناساً للكشفِ عنهم، فأرسلَ اللهُ تعالى عليهم ريحاً عظيمةً فأخرجَتْهم، فبلغَ ابنَ عباسٍ، فقال: إنَّهم كانوا في مملكةِ جبَّارٍ يقالُ له: دقيانوسَ يعبدُ الأوثانَ، فلمَّا رأَوا ذلك خرجوا من بلدِه، فجمَعَهم اللهُ على غيرِ ميعادٍ، فأخذَ بعضُهم على بعضٍ العهودَ والمواثيقَ، ففقَدَهم أهلُهم وجاؤوا يتطلَّبونهم، فوجدوهم في الكهفِ، فأخبرُوا الملِكَ، فأمرَ أن يُسدَّ عليهم وهو يظنُّهم أيقاظاً، وقال: دعوهم يموتون جوعاً وعطَشاً، ويكونُ كهفهُم قبراً لهم، وأمرَ بكتابةِ أسمائهم وخروجِهم عن طاعتِه في لوحٍ من رصاصٍ، وجعلَه في خزانتِه.
          ولمَّا / دخلوا الكهفَ ضربَ اللهُ على آذانِهم فناموا، فأرسلَ اللهُ تعالى مَن يقلِّبُهم، وحوَّلَ الشمسَ عنهم؛ إذ لو طلعَتْ عليهم لَأحرقتهم، ولولا أنهم يُقلَّبون لَأكلَتهم الأرضُ، ثم هلكَ ذلك المَلِكُ الجبارُ، وخلَفَه مَلِكٌ آخرُ صالحٌ، فكسرَ الأصنامَ، وعبدَ اللهَ تعالى وأمرَ بعبادتِه، وعدَلَ في الرعيَّةِ، ثم بعثَ اللهُ أصحابَ الكهفِ من منامِهم بأكثرَ من ثلاثِمِائةِ سنةٍ، فأرسلوا واحداً منهم ليأتيَهم بما يأكلون، فدخلَ المدينةَ مستخفِياً، فرأى هيئةً وناساً أنكرَهم لطولِ المدَّةِ، فدفعَ دِرهماً إلى خبَّازٍ، فاستنكرَ ضربَه، وأراد أن يرفعَه إلى الملِكِ، فقال للخبَّازِ: أتخوِّفُني بالملكِ وأبي دِهقانُه؟ فقال: مَن أبوك؟ قال: فلانٌ، فلم يعرِفْه، فاجتمعَ الناسُ، فرفعُوه إلى الملِكِ، فسألَه فقال: عليَّ باللَّوحِ، وكان قد سمِعَ به، فسمَّى أصحابَه فعرَفَهم من اللَّوحِ، فكبَّرَ الناسُ وانطلقوا إلى الكهفِ، وسبقَ الفتى لئلَّا يخافوا من الجيشِ، فلمَّا دخلَ عليهم عمَّى اللهُ على الملِكِ ومَن معه المكانَ، فلم يدرُوا أين ذهبَ الفتى، فاتفقَ رأيهُم على أن يبنُوا عليهم مسجداً، فجعلوا يستغفرون لهم ويدعون)).
          وذكرَ ابنُ أبي حاتمٍ في ((تفسيرِه)) عن شهرِ بن حَوشَبٍ قال: كان لي صاحبٌ قويُّ النفسِ، فمرَّ بالكهفِ، فأراد أن يدخُلَه، فنُهيَ، فأبى، فأشرَفَ عليهم، فابيضَّتْ عينَاهُ وتغيَّرَ شعرُه.
          وعن عكرمةَ: أنَّ السببَ فيما جرى لهم أنَّهم تذاكرُوا هل يبعثُ اللهُ الروحَ والجسَدَ أو الروحَ فقط، فألقَى اللهُ عليهم النومَ، فنامُوا المدَّةَ المذكورةَ، ثم بعثَهم فعرَفُوا أنَّ الجسدَ يُبعثُ كما تُبعثُ الرُّوحُ.
          وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّ اسمَ الملكِ الأولِ دُقيانوسُ، واسمَ الفتيةِ: مَكسَكمِيثا، ومَخشَلْميثا، وتَملِيخا، ومَرطُونُس، و كَشطُونُس، وبِيرُونُس، ودينُموس، وفي النُّطقِ بها اختلافٌ كثيرٌ، ولا يقعُ الوثوقُ من ضبطِها بشيءٍ.
          وأخرج أيضاً عن مجاهدٍ أنَّ اسمَ كلبِهم قطميرو، وعن ابنِ عبَّاسٍ: قِطميرٌ، وقيل غيرُ ذلك، وأما لونُه؛ فقال مجاهدٌ: كان أصفرَ، وقيل غيرُ ذلك، وعن مجاهدٍ أنَّ دراهمَهم كانتْ كخِفَافِ الإبلِ، وأنَّ تَملِيخا هو الذي كان رسولَهم لشراءِ الطعامِ، قال: وساق ابنُ إسحاقَ قصتَهم في ((المبتدأ)) مطوَّلةً، وأفاد أنَّ اسمَ الملِكِ الصَّالح الذي عاشُوا في زمنِه قَبْدَرسيسُ.
          وروى الطبريُّ من طريقِ عبدِ الله بنِ عُبيدِ بنِ عُميرٍ أنَّ الكلبَ الذي كان معهُم كان كلبَ صَيدٍ، وعن وهَبِ بنِ منبِّهٍ أنَّه كان كلبَ حَرثٍ، وعن مقاتلٍ: كان الكلبُ لكبيرِهِم، وكان كلبَ غنمٍ، وقيل: كان إنساناً طبَاخاً تبِعَهم وليس بكلبٍ حقيقةً، والأولُ هو المعتمَدُ، انتهى ما في ((الفتح)) ملخَّصاً.
          وقال البغويُّ: أكثرُ أهلِ التَّفسيرِ على أنَّه كان من جنْسِ الكلَابِ، ورُويَ عن ابنِ جُريجٍ أنه كانَ أسداً، ويُسمَّى الأسدُ كلباً.
          وذكر الدُّميريُّ في ((حياة الحيَوانِ)) اختلافاً في اسمِ الكلبِ، فقال: قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ ☺: اسمُه ريَّانُ، وقال ابنُ عباسٍ ☺: قِطميرٌ، وقال الأوزاعيُّ: نثو، وقال شعيبٌ اللِّحيانيُّ: حِمرانُ، وقال السُّديُّ: تور، وقال ابنُ سلامٍ: بسيطُ، وقال كعبٌ: صهبا، وقيل غيرُ ذلك، ثم ذكَرَ أنَّ قِطميراً يُكتبُ للنومِ ولبكاءِ الأطفالِ، قال: ومما يُكتبُ لنومِ الصبيانِ ولبكائهِم: أعوذُ بكلماتِ الله التَّاماتِ التي نامَ بها أصحابُ الكهفِ والرَّقيمِ التي يَتوفَّى بها الأنفسَ حين موتِها والتي لم تمُتْ في منامِهَا، فيُمسكُ التي قضَى عليها الموتَ، ويُرسلُ الأخرى إلى أجلٍ مسمًّى، اللَّهمَّ ألقِ النومَ والسَّكينةَ على حاملِ هذا الكتابِ بألفِ لا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيمِ، انتهى.
          وأطال الكلامَ على أهلِ الكهفِ، وكذا المفسِّرون، ولا سيَّما البغويُّ، فراجِعْه.
          ونظَمَ بعضُهم منافعَ أسماءِ أهلِ الكهفِ إذا عُلِّقَتْ على نحوِ الرأسِ، فقال:
لك الأمنُ من حرْقٍ وغرقٍ وقبضةٍ                     ونحج وحفظُ المال منه يرامُ
ودفعُ صُداعٍ أو كِلالٍ لسائرٍ                     ومَن رقَمَ ينجو والصَّبيُّ ينامُ
منافعُ أهلِ الكهف نفعٌ مجرَّبٌ                     رواه إمامٌ بعدَهُ وإمامُ