الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {ولوطًا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون}

          ░15▒ (بابٌ): بالتَّنوين ({وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [النمل:54-58]): كذا لأبي ذرٍّ، ووقعَ لغيرهِ ذكر الخمس آيات، فنتكلَّمُ عليها على سبيلِ الاختصَارِ فنقولُ: قولُهُ تعالى: {وَلُوطًا} بالنَّصبِ عطفاً على {صَالِحًا} في قوله تعالى وهي في سورةِ النَّمل قبله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [النمل:45]؛ أي: وأرسلنا لوطاً، أو عطفاً على {الَّذِينَ آمَنُوا} [النمل:53]؛ أي: وأنجينا لوطاً، أو بـ((اذكر)) مضمرة، قاله القسطلانيُّ، وفي الوجهِ الأوَّل ما لا يخفَى لمن تأمَّل، فالذي ينبغِي بدله قول البيضاويِّ: وأرسلنا لوطاً لدلالة {أَرْسَلْنَا} عليه، انتهى فافهم.
          ولوط هو: ابنُ هارانَ بنِ تارح _بالحاء المهملة_ وهو: آزر والدُ إبراهيم، فلوط هو ابنُ أخي إبراهيمَ عليهما السَّلام، وهو اسمٌ أعجميٌّ مصروفٌ؛ لسكونِ وسطه، وقيل: عربيٌّ من لاط: تعلَّق ولصقَ بالشيء؛ لأنَّ حقَّه تعلَّق ولصقَ بقلبِ إبراهيمَ عليهما الصَّلاة والسَّلام، وكان أصلُ إبراهيم ولوطٍ من العراقِ، فلمَّا هاجرَ إبراهيمُ إلى الشَّام هاجرَ / معه لوطٌ، فبعثَ الله لوطاً إلى أهل سدوم، وهُم ليسُوا من عشيرتهِ، فلذا قال لقومهِ: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80]، وذكرَ الله لوطاً في القرآنِ في سبع عشرة موضعاً.
          وقال العينيُّ: وكان ممَّن آمن مع إبراهيمَ وهاجرَ معه إلى مِصر، ثمَّ عادَ معه إلى الشَّام، فنزلَ إبراهيمُ فلسطين، ونزل لوطٌ الأردنَ، ثمَّ أرسلَه اللهُ تعالى إلى أهل سَدُوم وهي عدَّة قرى، وقال مقاتلٌ: وبلادهُم ما بين الشَّام والحجاز بناحيةِ زغر، وكانت ثنتي عشرة قريةً، وتُسمَّى: المؤتفكاتُ، من الإفكِ، وكانوا يعبدونَ الأوثان ويأتونَ الفواحشَ، ويسافدُ بعضُهم بعضاً على الطَّريقِ، ولهم غيرُ ذلك من المفاسدِ، انتهى.
          وقوله: {إِذْ قَالَ}: بدل على الأول وظرف على الثاني؛ من {لُوطًا} أو ظرفٌ لـ{أَرْسَلْنَا}، واعترضَ الطِّيبيُّ البدليَّة فقال: لا يجوزُ أن يكونَ بدلاً؛ إذ لا يستقيمُ {أَرْسَلْنَا} وقتَ قوله: {لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} أي: الفعلة القبيحَةَ، وهي اللواطةُ، وجملة: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}: حاليَّةٌ من فاعلَ: تأتون أو من {الْفَاحِشَةَ} والعائد محذوفٌ، والاستفهامُ للإنكارِ التَّوبيخيِّ؛ أي: تعلمونَ فُحشَها أو تُبصِرُونها، لستم عُمياً عنها جاهلين بها، واقتراف القبائحِ من العالِم بقبحها أقبحُ، أو يبصرها بعضُكم من بعضٍ؛ لأنَّهم كانوا يعلنونَ بها فتكون أفحشَ.
          {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً}: مفعولٌ لأجله وبيانٌ لإتيانهم الفاحشة، وتعليله بالشَّهوة للدَّلالة على قُبحه والتَّنبيه على أنَّ الحكمة في المواقعة طلبُ النَّسل لا قضَاء الوطر {مِنْ دُونِ النِّسَاءِ}: أي: التي خُلقْنَ لذلك {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}: تفعلون فعلَ من يجهلُ قُبحَها، أو يكون سفيهاً لا يُميِّز بين الحسنِ والقبيحِ، أو تجهلونَ العاقبةَ، والتَّاء فيه لكون الموصُوفِ به في معنى المخاطبِ.
          تنبيه: صرَّح بذكرِ الرجالِ معرَّفاً بلام الجنسِ؛ للإشارةِ إلى أنَّ الرُّجوليَّة منافيةٌ لهذه الحالةِ، وقيَّده بالشَّهوة التي هي أخسُّ أحوال البهائم، وقد تقرَّر عند أرباب البصائر أنَّ إتيان النِّساء لمجرَّد الشَّهوة مسترذلٌ فكيف بالرِّجال؟! وضمَّ إليه: {مِنْ دُونِ النِّسَاءِ} وأذن بأنَّه ظلمٌ فاحش، ثمَّ أضرب عن الكلِّ فقال: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} فجعلهم قوماً جاهلين موبِّخاً معبراً.
          ولمَّا بيَّن جهلهم بيَّن أنَّهم أجابوا بما لا يصلح أن يكون جواباً فقال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}: بنصب {جَوَابَ} خبر {كَانَ} مقدَّمٌ {إِلَّا أَنْ قَالُوا}: المصدرُ المنسبِكُ من {أَنْ} والفعلِ اسم {كَانَ} مؤخَّر {أَخْرِجُوا}: بقطع الهمزة {آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}: أي: يتنزَّهون عن أفعالنا التي هي إتيانُ أدبار الرِّجال، قالوه تهكُّماً واستهزاءً {فَأَنْجَيْنَاهُ}: أي: لوطاً {وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغَابِرِينَ}: أي: الباقين في العذاب {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ}: أي: على قومه {مَطَرًا}: وهي الحجارة، فـ{مَطَرًا} مفعول به {فَسَاءَ}: أي: قَبُح {مَطَرُ المُنْذَرِينَ}: بفتح الذَّال المعجمة؛ أي: مطرهم، فالمخصُوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ.
          واعلم أنَّ هذه الآيات وغيرها من الآياتِ التي قصَّ قضيَّة لوطٍ مع قومه في الأعرافِ وهود والشُّعراء والنَّمل والصَّافَّات وغيرها، وحاصلُهَا: أنَّهم ابتدعُوا / وطء الذُّكور، فدعاهُم لوطٌ إلى التَّوحيدِ وإلى الإقلاعِ عن الفاحشةِ، فأصرُّوا على الامتناعِ، ولم يتَّفق أن يُساعده منهم أحدٌ، وكانت مدائنهم تسمَّى: سدوم، وهي بغور زغر من البلادِ الشَّاميَّة، فلمَّا أراد اللهُ إهلاكُهُم بعثَ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ إلى إبراهيمَ فاستضَافوهُ، وكان ما قصَّ الله في سورةِ هود، ثمَّ توجَّهوا إلى لوطٍ فاستضَافوهُ، فخافَ عليهم من قومِهِ، وأرادَ أن يُخفي عليهم خبرهم، فنمَّت عليهم امرأتُه، فجاؤوا إليه وعاتبُوه على كتمانهِ أمرهُم، وظنُّوا أنَّهم ظفرُوا بهم، فأهلَكُهم اللهُ على يدِ جبريلَ، فقلبَ مدائنهم بعدَ أن خرجَ عنهم لوطٌ بأهلِ بيتهِ إلَّا امرأته، فإنَّها تأخَّرت معَ قومهَا، أو خرجَتْ مع لوطٍ فأدركها العذابُ، فقلبَ جبريلُ المدائنَ بطرفِ جناحِهِ، فصارَ عاليهَا سافلهَا، وصارَ مكانها بحيرةٌ منتنةٌ لا يُنتفَع بمائها ولا بشَيءٍ ممَّا حولها.