الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب نزول عيسى ابن مريم عليهما السلام

          ░49▒ (بابُ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليهمَا السَّلامُ): سقطَ لفظُ: <بابُ> لأبي ذرٍّ، فــ<نزولُ> مرفوعٌ خبرٌ لمحذوفٍ، ولفظُ: ((عليهما)) بالتَّثنيةِ في الأصُولِ لعيسى ومريمَ، ولا كراهةَ في ذلك بالنِّسبةِ لمريمَ؛ لأنَّه قيلَ بنبوَّتِها، أو لأنَّه وقعَ تَبعاً لعيسى، وفي بعضِ الأصولِ: <عليه السلام> بإفرادِ الضَّميرِ، وفي بعضٍ آخرَ: <صلواتُ اللهِ عليه> وعلى هذا فينبغي أن يُضمَّ السلامُ لذلك، والمرادُ بنزولِه نزولُه من السماءِ الثَّانيةِ؛ لأنَّه فيها كيحيى، كما ثبتَ في حديثِ الإسراءِ: ((إلى الأرضِ)) أي: أرضِ دمشقَ على منارةِ جامعِها الكبيرِ الشَّرقيةِ البيضاءِ المعروفةِ الآن بمنارةِ عيسى، وقد يدلُّ لذلك أحاديثُ، أو على منارةِ بابِ شرقيٍّ من دمشقَ، كما قد يدلُّ له أحاديثُ أيضاً، / وقد رجَّحَ كلَّ واحدٍ طائفةٌ.
          ويكونُ نزولُه والناسُ في صلاةِ العصرِ، فيتنحَّى الإمامُ، ويتقدمُ عيسى فيصلِّي بالناسِ إماماً بهم على سنَّةِ محمدٍ صلعم، ولا يُشكلُ بما في ((الصَّحيحَين)) أنَّ: ((عيسى يقتدي بالمهديِّ في صلاةِ الصُّبحِ ويقولُ له: إنَّها لك أُقيمَت)) لأنَّ هذا بعد ذهابِ عيسى لبيتِ المقدسِ عَوناً للمسلمين، والأوَّلُ عند نزولِه بدمشقَ، والإمامُ: أميرُ المهديِّ، والصلاةُ: العصرُ، فافترقا.
          وجاء أنَّ المهديَّ يظهرُ قبل نزولِ عيسى بأكثرَ من ثلاثين سنةً، ويتأخرُ عنه عيسى بضعاً وثلاثين؛ لِما وردَ في المهديِّ أنَّه يمكُثُ أربعينَ سنةً، وفي عيسى يمكُثُ خمساً وأربعين، فمدَّة اجتماعِهما سبعٌ أو تسعٌ، والباقي مدَّةُ افتراقِهما، وجاءت أحاديثُ كثيرةٌ في وجودِ المهديِّ آخرَ الزَّمانِ بلغَتْ مبلَغَ التَّواترِ المعنويِّ، وأنَّه من عترةِ رسولِ اللهِ صلعم، وأنَّ اسمَه: محمَّدٌ، وأبوه: عبدُ اللهِ، وكنيتُه: أبو القاسمِ، وأمَّا اسمُ أمِّه فلم يُعلَمْ، وأمَّا حديثُ: ((لا مهديَّ إلا عيسى)) فهو مع ضعفِه محمولٌ على أنَّه لا مهديَّ معصوماً مطلقاً، وإلا فالمهديُّ معصومٌ في الأحكامِ فقط، أو لا مهديَّ بعد عيسى، ولا يُغترُّ بما قد يُفهمُ من كلامِ التَّفتازانيِّ في ((شرح العقائد)) من نفيِه، فتدبر.
          وقال شيخُنا في ((الإشاعة)) بعد ذكرِ ما تقدَّمَ: ومن ثَمَّ وردَ: ((مَن كذَّبَ بالدجالِ فقد كفرَ، ومَن كذَّبَ بالمهديِّ فقد كفرَ)) رواه أبو بكرٍ الإسكافُ في ((فوائدِ الأخبارِ)) وأبو القاسمِ السُّهيليُّ.
          وقد أطال شيخُنا بالإجازةِ العلامةُ السيدُ محمَّدٌ البَرزَنجيُّ في كتابِهِ ((الإشاعةِ في أشراطِ الساعةِ)) فعليك به، فإنه استوفى الكلام على المهدي وعلى الدَّجال مع شيءٍ من أخبارِ عيسى عليه السلام، وسيأتي إن شاءَ الله تعالى شيءٌ من الكلامِ عليهما في محلِّه؛ كعيسى عليه الصلاةُ والسلامُ، والكلامُ على المهديِّ مفرَدٌ بالتَّأليفِ كــ((القولِ المختصَرِ في أحوالِ المهديِّ المنتظَرِ)) وكــ((العُرفِ الورديِّ في أخبارِ المهديِّ)).