الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث أبي مسعود: إن مما أدرك الناس من كلام النبوة

          3483-وبالسند قال: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ) بنونٍ قبل السِّين المهملةِ؛ أي: اليربوعيُّ الكوفيُّ، ونسبَه لجدِّه، وإلَّا فأبوه: عبدُ الله (عَنْ زُهَيْرٍ) بالتَّصغيرِ؛ أي: ابنِ معاويةَ الكوفيِّ، قال: (حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ) أي: ابنُ المعتمِرِ الكوفيُّ (عَنْ رِبْعِيِّ) بكسرِ الرَّاء وسكون الموحدة (ابْنِ حِرَاشٍ) بكسرِ الحاءِ المهملةِ وتخفيفِ الرَّاء فألف فشين معجمة، قال: (حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ) بسكونِ القافِ، الصَّحابيُّ البدريُّ، كذا في نُسخٍ، ووقعَ في بعضِها بدَلَ: ((حدثَنا أحمدُ)) <حدثَنا آدمُ، حدثَنا شعبةُ عن منصورٍ، قال: سمعتُ رِبعيَّ بنَ حِراشٍ يحدِّثُ عن ابنِ مسعودٍ> (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى، إِذَا لَمْ تَسْتَحِي فَافْعَلْ مَا شِئْتَ) ووقعَ في بعضِ الأصُولِ المعتمَدةِ الجمعُ بين السَّندينِ، وتأخيرُ: <حدَّثنا آدمُ>، وذكرُ الحديثِ فيهما بلفظٍ واحدٍ، وعليها شرحَ القسطلانيُّ، ثم قال عقِبَ الثاني: وهذا الحديثُ ثابتٌ في الفرعِ، وسابقُه مكتوبٌ في الهامشِ من ((اليونينيَّة))، ساقطٌ في كثيرٍ من الأصُولِ، وفي إثباتِهِ فوائدُ: التَّصْريحُ بسمَاعِ منصُورٍ من رِبعيٍّ، وكونُه من طريقِ آدمَ عن شعبةَ عن منصورٍ، وفيه: ((فاصنَعْ)) بدلَ قولِه: ((فافعَلْ))، انتهى.
          أي: وزيادةُ: ((الأولى)) في الأولِ، ولفظُ: ((لم تستحِ)) في الأولِ _بكسرِ الحاء من غير ياء بعدها تخفيفاً_ في الفرعِ وأصلِهِ على مَن قال: استحَى يستحِي، بياء واحدة حُذفتْ للجازمِ، وفي الثاني: بسكونِ الحاءِ وتحتية بعدَها مكسورة مجزوم بحذف الياء التي هي لامُ الفعلِ، على مَن قال: استحيَا يستحيي _بياءين_،وهو الأكثرُ، وبه جاءَ التنزيلُ في: {إنَّ الله لا يَسْتَحْيِيْ أن يَضْرِبَ مَثَلَاً} [البقرة:26] وآدمُ: هو: ابنُ أبي إياسٍ، وشعبةُ: أي: ابنُ الحجَّاجِ، وباقي رجالِ السندِ ذكَرْنا الكلامَ عليه، والصحابيُّ في السَّندَين هو: أبو مسعودٍ، عقبةُ بنُ عمرٍو البدريُّ ☺.
          قال في ((الفتح)) و((العمدة)): وكونُ صحابيِّه أبا مسعودٍ المذكورَ هو المحفوظُ، وحكى الدَّارقطنيُّ في ((العللِ)) أنَّه روايةُ رِبعيِّ بنِ حِراشٍ عن حذيفةَ، ولا يبعُدُ أن يكونَ رِبعيُّ سمِعَه من أبي مسعودٍ ومن حذيفةَ جميعاً، انتهى ملخصاً.
          ونتكلَّمُ على الحديثِ فنقولُ: قال النَّبيُّ صلعم: ((إنَّ ممَّا أدركَ الناسُ)) بكسرِ همزةِ: ((إنَّ)) المشدَّدة، وبرفعِ: ((الناسُ)) في جميعِ الطُّرقِ، ويجوزُ نصبُه؛ أي: ممَّا أدركَه الناسُ، أو ممَّا بلغَ الناسَ، كذا في ((الفتح)) و((العمدة)).
          واسمُ: ((إنَّ)) الجملةُ الشَرطيةُ على تقديرِ لفظِ أو قولِ: / ((إذا لم تستحي فاصنَعْ ما شئتَ))، وخبرُها متعلَّقُ: ((مما أدرَكَ))، ويحتمِلُ أن تُقدَّرَ: ((مِن)) اسماً بمعنى: بعضٍ في محلِّ نصبِ اسمِ: ((إنَّ))، والجملةُ الشرطيةُ وجوابُها خبرُها، و((الناسُ)) بالرفع، فاعلُ: ((أدركَ))، ومفعولُه محذوفٌ؛ أي: أدركه، وبالنصبِ مفعولُه، وأمَّا فاعلُه فهو ضميرٌ عائدٌ إلى: ((ما)) الموصولةِ أو النكِرةِ الموصوفةِ، هذا حاصلُ ما ذكرَه الشرَّاحُ.
          ويجوزُ جعْلُ اسمِ: ((إنَّ)) ضميرَ الشأنِ، و((ممَّا أدركَ الناسُ)) خبراً مقدَّماً، والجملةُ الشرطيةُ بتقديرِ القولِ: مبتدأٌ مؤخَّرٌ، والجملةُ: خبرُ: ((إنَّ))، فتأمل.
          والمراد بـ((كلامِ النُّبوَّةِ)) أي: ((الأولى)) كما زاده أحمدُ وغيرُه، بل هو في بعضِ أصُولِ هذا الصَّحيحِ: ما اتَّفقَ عليه الأنبياءُ ولم يُنسخْ من شرائعِهم، ولم يُبدَّلْ فيما بدَّلَه أهلُ ملَّتِهم، واتَّفقتِ العقولُ على حُسنِه من لدُنْ آدمَ إلى نبيِّنا عليهما السَّلام.
          والأمرُ في قولِه: ((فاصنَعْ)) أو ((افعَلْ)) بمعنى: الخبرِ، أو أمرُ تهديدٍ؛ أي: اصنَعْ ما شئتَ، فإنَّ اللهَ تعالى يجازيكَ بفعلِكِ، أو المعنى: انظُرْ إلى ما تريدُ أن تعملَه، فإن كانَ ممَّا لا يُستحيا منه بحسَبِ الدينِ فافعَلْه، وإلَّا فلا تفعَلْه، ولا تُبالي بالخلقِ في الحالَين، أو الأمرُ لبيانِ فضيلةِ الحَياءِ والحثِّ عليه؛ يعني: لمَّا لم يجُزْ فعلُ ما شئتَ، لم يجُزْ تركُ الاستحياءِ، كما قال عليه السلامُ: ((والحياءُ من الإيمانِ))، ورواه الطبرانيُّ في ((الأوسطِ)) عن أبي الطُّفيلِ رفعَه بلفظِ: ((كان يُقالُ: إنَّ مما أدركَ الناسُ من كلامِ النبوَّةِ الأولى: إذا لم تستحِي فاصنَعْ ما شئتَ)).
          وما أحسَنَ ما قيل:
إذَا لم تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي                     ولم تَستَحِ فاصْنَعْ مَا تَشَاءُ
فلَا واللهِ مَا فِي العَيْشِ خَيرٌ                     ولَا الدُّنيَا إذَا ذَهَبَ الحيَاءُ
          تنبيه: في الحديثِ من أنواعِ البديعِ _كما قال السيوطيُّ في ((شرحِ عقودِ الجُمانِ))_ التوجيهُ، قال: وعرَّفَه قومٌ بأنَّه: ما يحتمِلُ وجهَين احتمَالاً مطلَقاً من غيرِ تقييدٍ بمدحٍ أو ذمٍّ أو غيرِه، وعرَّفَه آخرون بما يحتمِلُ المدحَ والذَّمَّ، ثم قال: والذي عليه حُذَّاقُ الصَّنعةِ من أصحابِ البديعيَّاتِ أنَّ هذا تفسيرٌ للنَّوعِ المسمَّى بالإبهامِ _بالموحدة_،قال: وذكَرَ من أمثلتِهِ حديثَ البخاريِّ: ((إذا لم تَسْتَحِ فاصنَعْ ما شئتَ))، فإنَّه يحتمِلُ مدحاً وذمًّا:
          الأولُ: إذا لم تفعَلْ فعلاً يُستحيا منه فاصنَعْ ما شئتَ.
          والثاني: إذا لم يكُنْ لك حياءٌ يمنعُكَ فاصنَعْ ما شئتَ.
          وحديثُ أحمدَ أنَّ النَّبيَّ صلعم ذُكرَ عنده شُريحٌ الحضرَميُّ، فقال عليه السلامُ: ((ذاك رجلٌ لا يتوسَّدُ القرآنَ)) يحتمِلُ مدحاً؛ وهو أنَّهُ لا ينامُ اللَّيلَ في تلاوةِ القرآنِ، فلا يكونُ القرآنُ متوسِّداً معه، وذمًّا؛ وهو أنَّهُ لا يحفَظُه، فإذا نام لا يتوسَّدُ القرآنُ معه، انتهى.
          وحديثُ البابِ أخرجَه المصنِّفُ في الأدبِ أيضاً، وكذا أبو داودَ وابنُ ماجه في الزهد.