الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قصة يأجوج ومأجوج

          ░7▒ (بَابُ قِصَّةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ): كذا وقعَ في نسخٍ تقديمُ: ((قصَّة يأجوجَ ومأجوجَ)) وتأخير قوله: ((باب: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}[الاعراف:73])) عن عدَّة أبوابٍ، والأنسبُ عكسُه كما يظهرُ للمتأمِّل، بل قال في ((الفتح)): إنَّهُ الصَّواب.
          وقال القسطلانيُّ: سقطَ قولُهُ: ((قصَّة... إلخ)) وقد وقعَ في القرآنِ ما يدلُّ على أنَّ ثمودَ كانوا بعد عادٍ كما كانَ عادٌ بعد قومِ نوحٍ.
          بل الأنسبُ وجهُ ذكرِ هذا البابِ هنا منَاسبةً لقصَّةِ ذي القرنينِ، فنجرِي على ذلكَ تبعاً لأكثرِ الشُّرَّاحِ فنقول: ((يأجوجُ ومأجوجُ)) بهمزة ساكنةٍ، وقد تبدَّلُ ألفاً فيهما، وهما كمَا في البيضَاويِّ وغيرِهِ: قبيلتَانِ من ولدِ يافث بن نوحٍ عليه السَّلام، وقيل: يأجوجُ من التُّركِ، ومأجوجُ من الجيلِ والديلم.
          قال عياضٌ: هما مشتقَّانِ من: تأجُّج النار، وهي حرارتها، سمُّوا بذلك لكثرتِهِم وشدَّتِهِم، وهذا على قراءة من همزَ، وقيلَ: من الأجاجِ، وهو الماءُ الشَّديد المُلُوحةِ، وقيل: هما اسمانِ أعجميَّان غير مشتقَّين.
          وفي ((المنتهى)): من همزهمَا جعلَ وزنَ يأجوج: يفعولا، من أجيجِ النَّارِ أو الظَّليم وغيرهما، وجعلَ وزن مأجوج: مفعولاً، ومن لم يهمزْهُما جعلهُمَا أعجميين.
          وقال الأخفشُ: من همزهمَا جعلَ الهمزةَ أصليَّةٌ، ومن لم يهمزهُما جعلَ الألفينِ زائدَتِين، فيأجوجُ فاعولُ من يجَّجْتُ، ومأجوجُ مفعول من مججْتُ الشَّيء من فمِي.
          وقال الزَّمخشريُّ: يأجوج ومأجوج اسمان أعجميَّان بدليل منعِ الصَّرف، وقُرأ مهموزين، وقرأ رؤبة: ▬آجوج ومأجوج↨.
          وزادَ البيضَاويُّ: وقيل: عربيَّان من أجَّ الظَّليمُ: إذا أسرَعَ، وأصلها الهمزةُ كما قرأَ عاصمٌ ومنعَ صَرفها للتَّعريفِ والتَّأنيثِ، انتهى.
          قال العينيُّ وغيره: وهم من ذريَّةِ آدمَ بلا خلافٍ، وكذا من حوَّاءِ على الصَّحيحِ، وقيل: هُم من آدمَ، ولكن من غَيرِ حواءٍ؛ لأنَّ آدمَ نامَ فاحتلَمَ فامتزجَتْ نطفتُهُ بالتُّرابِ، فلمَّا انتبَه أَسِفَ على ذلكَ الماءَ الَّذي خرجَ منه، فخلَقَ اللهُ منه يأجُوجَ ومأجُوجَ، حكاهُ الثَّعلبيُّ والبغويُّ عن كعْبِ الأحبَارِ.
          وذكره النَّوويُّ أيضاً في ((شرح مسلمٍ)) وغيرهُ من العُلماءِ، ولكن ضعَّفُوهُ، حتى قالَ ابنُ كثير: هو جَديرٌ بالتَّضعيفِ إذ لا دليلَ عليه، بل هو مخالفٌ لما ذكرُوا أنَّ جميعَ النَّاس اليوم من ذريَّة نوحٍ بنصِّ القرآنِ، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} [المرسلات:77].
          وقال البغويُّ: قال أهلُ التَّواريخِ: أولاد نوحٍ: سام وحام ويافث، فسام أبو العربِ والعجمِ، وحام أبو الحبشةِ والزِّنج والنوبةِ، ويافثُ أبو التُّرك والخزرِ والصَّقالبَةِ ويأجوجُ ومأجوجُ، وقيل: هم من التُّرك مغل المغلولِ وهم أشدُّ بأساً وأكثرُ فسَاداً.
          واعترضَ العينيُّ القولَ: ((بأنَّ آدم احتلم... إلخ)) فقال: قلتُ: جاءَ في الحديثِ امتناعُ الاحتلامِ على الأنبياءِ عليهم الصَّلاة والسَّلام، انتهى.
          وأقول: سبقَهُ إلى هذا الاعتراضِ غيرُهُ.
          وأجيب: بأنَّ الممتنعِ / الاحتلامُ من رؤيا الشَّيطان، وأمَّا إذا كانَ ناشئاً من امتلاءِ وعاءِ المنيِّ فلا يمتنعُ، وقد يقال: هذا لا يسمَّى احتلاماً ليردَ الحديثُ على القائلِ بهذا القولِ، فتأمَّل.
          وفي البغويِّ وغيرهِ: عن قتادةَ: إنَّ يأجوجَ ومأجوجَ اثنان وعشرون قبيلةٍ، بنى ذو القرنينِ السَّدَّ على إحدَى وعشرين قبيلةٍ، وبقيَتْ قبيلةٌ واحدةٌ، وهم التُّركُ، سمُّوا بالتُّرك؛ لأنَّهم تُركوا خارجينَ عن السَّدِّ.
          وقال ابن عبَّاسٍ: في رواية عطاءٍ: هم عشرةُ أجزاءٍ وولد آدم كلُّهم جزء، وعن حذيفةَ رفعه: ((إنَّ يأجوجَ أمَّةٌ، ومأجوجَ أمَّةٌ، كل أمة أربعمائة ألف أمَّة، لا يموت الرَّجلُ منهم حتى ينظرَ إلى ألفِ ذكر من صلبهِ، كلُّهم قد حملَ السِّلاح، وهم من ولدِ آدم يسيرونَ إلى خرابِ الدُّنيا)).
          وقال هم ثلاثةُ أصنافٍ: صنفٌ منهم أمثال الأَرْزِ _بفتحِ الهمزة وسكون الرَّاء وبالزاي_ شجرٌ بالشَّامِ طوله عشرون ومائة ذراع في السَّماءِ، وصنفٌ منهم عرضهُ وطوله سواء عشرون ومائة ذراع، وهؤلاء لا يقوم لهم جبلٌ ولا حديدٌ، وصنفٌ منهم يفترشُ بإحدى أذنيهِ ويلتحفُ بالأخرى، لا يمرُّون بفيلٍ ولا وحشٍ ولا خنزيرٍ إلَّا أكلوهُ، ومَن ماتَ منهم أكلُوهُ، مقدِّمَتُهم بالشَّام، وساقَتُهم بخراسانَ يشرَبونَ أنهارَ المشرقِ وبحيرة طبريَّة.
          وعن عليٍّ ☺ أنَّهُ قال: منهم من طولُهُ شبرٌ، ومنهم من هو مفرطٌ في الطُّولِ.
          وفي العينيِّ: قال سليمانُ بن عيسى: بلغني أنَّهُم عشرون أمَّة: يأجوج ومأجوج، ويأجيج وأجيج والغيلانيِّن والعسليِّن، والقرانيِّن والغوطنيِّن، وهو الذي يلتحِفُ أذنَهُ، والقَرِيطَين والكنعَانيِّن، والدَّفرَانين والجاجُونيِّن، والإنطَارنيِّن واليعاسيِّن ورؤوسُهم رؤوسَ الكلابِ.
          وعن عبدِ الله بن عُمر بإسنادٍ جيِّدٍ: الإنسُ عشرةُ أجزاءٍ تسعة أجزاءٍ: يأجوجُ ومأجوجُ، وسائرُ النَّاس جزءٌ واحدٌ.
          قال: وعن عطيَّة بن حسَّان: أنَّهم أُمَّتان، في كلِّ أمَّة أربعمائة ألف أمَّة ليسَ فيها أمَّة تشبِهُ الأخرَى، قال: وذكرَ القُرْطبيُّ مرفوعاً: ((يأجوجُ أمَّةٌ لها أربعمائة أميرٍ، وكذلك مأجوجُ صنْفٌ منهم طولُهُ مائة وعشرونَ ذراعاً)) ويروى: أنَّهُم يأكلونَ جميع حشَراتِ الأرضِ من الحيَّاتِ والعقَاربِ، وكلَّ ذي روحٍ من الطَّير وغيرهِ، وليسَ لله خلقٌ ينمَى نماءَهُم في العامِ الواحدِ يتداعونَ تدَاعِي الحمَامِ، ويعوونَ عواءَ الكلابِ، ومنهم من لهُ قرنٌ وذنبٌ وأنياب بارزة يأكلونَ اللُّحومَ النيَّئة، ولهم شعُورٌ تقيهِم الحرَّ والبردَ، وأذان عِظامِ، أحدِهمَا وبرُهُ يشتُّون فيها، والأخرَى جلدُهُ يصبُغونَ فيها.
          وقال ابنُ عبد البرِّ في كتاب ((الأمم)): هُم أمَّة لا يقدرُ أحدٌ على استقصَاءِ ذكرهِم لكثرَتِهم، ومقدار الربعِ العامرِ مائة وعشرون سنة، تسعين منها ليأجُوجَ ومأجوجُ وهم أربعونَ أمَّة مختلفُو الخلقِ والقدودِ في كلِّ أمة مَلِكٌ ولغةٌ، ومنهم من مشيهِ وثبٌ، وبعضُهم يغِير على بعضٍ، ومنهم من لا يتكلَّمُ إلا همهمةً، ومنهم مشوَّهون، وفيهم شدَّةٌ وبأسٌ، وأكثرُ طعامِهِم الصَّيدُ، وربَّما أكلَ بعضُهم بعضاً.
          قال: وذكرَ البَاجيُّ عن عبد الرَّحمن بن ثابتٍ قال: الأرضُ خمسمائة عامٍ منها ثلاثمائة بحورٌ، ومائة وتسعونَ ليأجوجَ ومأجوجَ، وسبعةٌ للحبشَةِ، وثلاثةٌ لسَائرِ النَّاس.
          وروى ابنُ مردويهِ في ((تفسيرهِ)) عن ابنِ عبَّاسٍ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ، قال نبيُّ الله صلعم، وذكر يأجوجَ ومأجوجَ: ((لا يموتُ الرَّجلُ منهم حتى يولدَ لصُلبِهِ ألفَ رجلٍ)).
          وذكرَ أبو نُعيم: أنَّ صنفاً منهم أربعة أذرعٍ طولاً وأربعة أذرعٍ / عرضاً، يأكلونَ مشَائيم نسَائِهم، وعن كعب الأحبَارِ: أن التِّنينَ إذا أذى أهلَ الأرضِ بعثَهُ اللهُ إلى يأجوجَ ومأجوجَ فجعلَهُ رزقاً لهم فيجزرونها كمَا يجزرونَ الإبلَ والبقرَ.
          وروى مقاتلُ بنُ حيَّان، عن عكرمةَ مرفُوعاً: ((بعثني اللهُ ليلةَ أسريَ بي إلى يأجوجَ ومأجوجَ فدعوتُهم إلى دينِ الله، فأبَوا أن يجيبُوني فهم في النَّار معَ من عَصَى من ولدِ آدم وولد إبليسَ)) انتهى.
          وقال القسطلانيُّ بعد ذكرِ كلامِ ابنِ عبد البرِّ في كتاب ((الأمم)) الذي تقدَّم آنفاً: كذا رأيتُهُ، والعهدةُ فيه على ناقلهِ.
          قال: وقال الحافظُ ابنُ كثيرٍ: ذكر ابنُ جرير هنا عن وهبِ بن منبِّه أثراً فيه ذِكرُ ذي القرنين، ويأجوج ومأجوج: فيه طولٌ وغرابةٌ ونكارةٌ في أشكالهم وصفاتِهم، وكذا روى ابن أبي حاتم في ذلكَ آثاراً لا تصحُّ أسانيدُها، وقال عقب ما ذكرَهُ البغويُّ في احتلامِ آدم: قال ابنُ كثير: هذا القولُ غريبٌ جداً لا دليل عليه لا من عقلٍ ولا من نقلٍ، قال: ولا يجوز الاعتمادُ على بعضِ ما يحكيهِ أهل الكتابِ من الأحاديث المفتعلةِ، انتهى.
          وقد أكثرَ المفسرون وغيرُهُم من ذكر ما يتعلَّق بيأجوجَ ومأجوجَ أموراً غريبةً أعرضنا عنها، وسيأتِي بعضُها فيما يتعلَّق بذي القرنين.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) أي: المذكور في أواخرِ سورةِ الكهف بجرِ: ((قول)) عطفاً على ((قصَّة)) ويجوز رفعه على وجهين، فتأمَّل.
          (قَالُوا): أي: القوم الذين من دونِ السَّدَّين، والمراد قال مترجمهم: فلا منافاةَ بينَهُ وبين قولهِ: {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف:93] كما قالهُ البيضاويُّ والبغويُّ وغيرهما.
          وعبارة البغويِّ: فإن قيل: كيف قالوا وهم لا يفقهُون؟
          قيل: كلَّم عنهم مترجمٌ دليلهُ قراءة ابن مسعود: ▬لا يكادون يفقهون قولاً قال الذين من دونهم↨.
          ({يَا ذَا القَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ، وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ} [الكهف:94]) أي: في أرضنا بالقتلِ والتَّخويف وإتلاف الزُّروعِ، قيل: كانوا يخرجونَ أيَّام الرَّبيع فلا يتركونَ أخضرَ إلَّا أكلوهُ، ولا يابساً إلا احتملُوهُ، وقيل: كانُوا يأكلونَ النَّاسَ، قالهُ البيضَاويُّ وغيرهُ.
          و(قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى): بجرِّ ((قول)) أو رفعه كما مرَّ، ولابنِ عسَاكرَ: <باب قولِ اللهِ تعَالى> ({وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي القَرْنَيْنِ}): السَّائل: اليهودُ، وقيل: مشركو مكَّة امتحاناً، والمرادُ بذي القرنينِ اسكندرُ الرُّوميُّ الذي مَلكَ الدُّنيا.
          قال في ((الفتح)): أخرجَ الزُّبير بسندِهِ عن سفيانَ الثَّوريِّ، قال: بلغني أنَّه مَلكَ الدُّنيا كلها أربعةٌ: مؤمنان وكافران، سليمانُ النَّبي وذو القَرْنينِ، ونمرودُ وبختَ نصَّر، ورواهُ وكيعٌ في ((تفسيره)) عن مجاهد أنَّه قال: مَلكَ الأرضَ أربعةٌ وسمَّى من تقدَّمَ.
          وقال البغويُّ: الأسكندرُ؛ أي: الفيلسوفُ بفتحِ الهمزة، ملكٌ قتل داراً وملك البلاد، والإسكندرية ستة عشر موضعاً منسُوبةً إليهِ، انتهى.
          والمراد هنا الإسكندر الرُّومي كما مرَّ، ولُقِّبَ بذِي القرنينِ؛ لأنَّه مَلكَ فارس والرُّوم، وقيل: المشرقُ والمغربُ، ولذلك سمِّي ذا القرنين، أو لأنَّه طافَ طرَفي الدُّنيا شرقَها وغرْبهَا، وقيل: لأنَّهُ انقرضَ في أيَّامهِ قرنانِ من النَّاس، وقيل: لأنَّه كانَ له قرنانِ؛ أي: ضَفِيرتانِ، وقيل: لأنَّه كانَ لتاجِهِ قرنان، قيل: ويحتَملُ أنَّه لقِّبَ بذلك لشَجاعتهِ، كما يقال: الكبشُ للشُّجاعِ، كأنَّه ينطح أقرانهُ، وقيل: لُقِّبَ بذي القرنينِ؛ لأنَّهُ لما دعى قومهُ إلى الإيمانِ ضربوهُ على قرنهِ الأيمن فمات، ثم بعثهُ الله فدعَاهُم فضَربوهُ على قرنهِ الأيسرَ فمات، ثم بُعثَ، وقيل: لأنَّهُ أعطيَ عِلمَي الظَّاهرِ والباطنِ، وقيل: لأنَّهُ رأى في منَامهِ أنَّه أخذَ بقرنَي الشَّمسِ، وقيل: لأنَّهُ كانَ له قرنَانِ حقيقةً، وهذا القولُ أنكرهُ عليُّ بن أبي طالبٍ، / كما في ((الفتح))، وقيل: لأنَّه مَلكَ قرني الشَّمسِ؛ أي: مطلعها ومغربها.
          قال الحافظُ: وقيل: لأنَّهُ كان صفحتَا رأسهِ من نحاسٍ، وقيل: لأنَّه دخلَ النُّور والظُّلمة، وقيل: لأنَّهُ كان كريم الطرفينِ؛ أي: أنَّ أباه وأمَّه من بيت شرفٍ، وقيل: لأنَّه كان إذا قاتلَ قاتل بيديهِ وركابيهِ جميعاً، واختلف في اسمِهِ فروي عن ابن عبَّاس وعليٍّ ☻ بسندٍ ضعيفٍ جدًّا أنه قالا: ذو القرنين عبدُ الله بن الضَّحَّاك بن معد بن عدنان.
          قال في ((الفتح)): وهذا القولُ مباينٌ للقولِ بأنَّه كانَ في زمنِ إبراهيم، فكيفَ يكون من ذريَّتهِ لا سيَّما على القولِ بأنَّه كان بينَ عدنانَ وإبراهيمَ أربعون أباً أو أكثر، وقيل: اسمُهُ الصَّعبُ، وبه جزمَ كعبُ الأحبَار، وذكرَهُ ابنُ هشامٍ في ((التِّيجان)) عن ابن عبَّاس أيضاً، وقيل: اسمُه المنذرُ بنُ أبي القيسِ، أحدُ ملوكِ الحيرَةِ، وأمُّهُ ماوية بنتُ عوف بنِ جُشْم، وقيل: اسمُه: الصَّعبُ بن قرن بنِ همال، من ملوكِ حمير.
          وقال الطَّبريُّ: اسمه سكندروس بن فيليسوف، وقيل: فيليس، وبالثَّاني جزمَ المسعوديُّ، وقيل: اسمه الهميسعُ بن عَمرو بن عريب، ذكره الهمدانيُّ في كتاب ((النسب)) وقال: كنيتُهُ أبو الصَّعب وقيل: اسمه مصعب بن عبدِ الله بن قنان.
          وقال ابنُ هشامٍ: اسمه الصَّعب ذو مراثد، وهو أوَّلُ التتابعة، وقال مقاتلٌ: من حمير وفدَ أبوه إلى الرُّوم فتزوَّج امرأة من غسَّان فولدت له ذا القرنينِ.
          وقال العينيُّ: قد جاء في حديثٍ أنَّه من حمير وأمُّه روميَّة، وكان يقال له الفيلسوف؛ لعقلِهِ.
          وقال ابنُ إسحاق: اسمه مرزبان بن مردويه _بدال مهملة، وقيل: بزَاي_ وهو الإسكندرُ.
          لكن قال السُّهيليُّ: الظَّاهرُ من علمِ الأخبارِ أن المسمَّى بالإسكندرِ اثنان: أحدهما كان على عهدِ إبراهيم، ويقال: إنَّ إبراهيمَ تحاكم إليهِ في بئر السَّبعِ بالشَّام فقضَى لإبراهيمَ، والآخرُ كان قريباً من عهدِ عيسى عليه السَّلام.
          قال في ((الفتح)): لكنَّ الأشبَه أنَّ المذكورَ في القرآنِ هو الأوَّل بدليلِ ما ذكرَ في ترجمةِ الخضرِ حيث جَرَى ذكرهُ في قصَّة موسى أنَّه كان على مقدِّمة ذِي القرنينِ، وثبتَ قصَّة الخضر مع موسَى، وموسى كان قبلَ زمنِ عيسى قطعاً، قال: فهذَا على طريقةِ من يقول: إنَّه الإسكندر، انتهى.
          وقال العينيُّ: قال وهبُ بن منبِّه: اسمُهُ الإسكندر، قلتُ: ومن هنا يشارك هو الإسكندر اليوناني في الاسم، وكثيرٌ من النَّاس يخطؤون في هذا، ويزعمونَ أنَّ الإسكندرَ المذكور في القرآنِ هو الإسكندرُ اليوناني، وهذا زعمٌ فاسدٌ؛ لأنَّ الإسكندرَ اليُوناني الذي بنَى الإسكندرية كافرٌ، وذو القرنينِ مؤمنٌ صالحٌ ملكَ الأرضَ شرقاً وغرباً، حتَّى ذهبَ جماعةٌ إلى نبوَّتهِ منهم: الضَّحَّاك، وابن عَمرو، وقيل: كان رسولاً أيضاً.
          وقال الثَّعلبيُّ: الصَّحيحُ أنَّه كان نبيًّا غيرَ مرسلٍ، ووزيره الخضر فكيفَ يتسَاويان. انتهى.
          وقال في ((فتح الباري)): وحكى السُّهيليُّ أنَّه قيل: إنَّه رجلٌ من ولد يونان بنِ يافث، اسمُه: هرمس، ويقال: هرديس.
          قال: وحكى القرطبيُّ المفسِّرُ تبعاً للسُّهيليِّ: أنَّه قيل: إنَّ اسمَه أفريدونَ، وهو الملكُ القديم للفُرسِ الذي قتلَ الضَّحَّاك الجبَّار، الذي يقول فيهِ الشَّاعر:
فَكَأنَّهُ الضَّحَّاكُ فِي فَتَكَاتِهِ                     بِالعَالَمِينَ وأَنْتَ أَفْرِيدُونُ
          قال: والذي يقولُ: أنَّ ذا القرنينِ هو الصَّعبُ من العربِ؛ لكثرةِ ما ذكروهُ في أشعَارِهِم كقولِ أعشَى بن ثعلبةَ:
والصَّعْبُ ذُو القَرنَيْنِ أَمْسَى ثَاوِياً                     بالحِنْوِ في جَدَثٍ هُنَاكَ مُقِيمُ /
          والحِنْوِ: _بكسرِ الحاء المهملةِ_ موضعٌ بناحيةِ المشرقِ.
          وكقولِ الرَّبيعِ بن ضُبيعٍ:
والصَّعبُ ذُو القرنَينِ عَمَّرَ مُلكَهُ                     أَلفَينِ أمْسَى بَعدَ ذَاك رَمِيماً
          وكقولِ قسِّ بن ساعدةَ:
والصَّعبُ ذُو القرنَينِ أصبَحَ ثَاوِياً                     باللَّحْدِ بَينَ مَلاعِبِ الأَرْيَاحِ
          وكقولِ تُبَّع الحِميَرِيِّ:
قَد كَانَ ذُو القَرنَينِ قَبلِي مُسلِماً                     مَلِكاً تَدِينُ له المُلُوك وتَحشُدُ
مِن بَعدِهِ بَلقِيسُ كانَتْ عَمَّتِي                     مَلَكَتْهُم حتَّى أتَاهَا الهُدهُدُ
          وكقولِ النُّعمانِ بن بَشيرٍ الصَّحابيِّ ابنِ الصَّحابيِّ:
ومَن ذَا يُعَادِينَا من النَّاسِ مَعشَرٌ                     كِرَامٌ وذُو القَرنَينِ مِنَّا وحَاتِمُ
          قال في ((الفتح)): ويؤخذُ من أكثرِ هذِهِ الشَّواهدِ أنَّ الرَّاجح في اسمِهِ الصَّعبُ، ووقعَ ذكرُ ذي القرنينِ أيضاً في شعرِ امرِئ القَيسِ، وأوسِ بن حجرٍ، وطَرفةَ بنِ العَبدِ، وغيرهم.
          قال العينيُّ وغيرُهُ: واختلفوا في أيِّ زمانٍ كان ذو القرنينِ، فقيل: في القرنِ الأوَّلِ من أولادِ يافث بن نوح، ونُسِبَ هذا القولُ لعليٍّ ☺، وأنَّهُ وُلِدَ بأرضِ الرُّومِ، وقال الحسن: كان بعد نمروذ، وقال مقاتلٌ: أنَّهُ من أولادِ إسحاق من ذريَّة العيصِ، وقيل: كان بين موسَى وعيسَى عليهما السَّلام، وقيل: بينَ عيسَى ونبيِّنا محمَّدٍ عليهما الصَّلاة والسَّلام.
          والأصحُّ كما قال العينيُّ وغيرهُ: أنَّه كان في أيَّامِ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام، واجتمع به في الشَّامِ، وقيل: بمكَّةَ.
          وقال في ((الفتح)): وفي إيرادِ المصنِّفِ ترجمةَ ذي القرنينِ قبل إبراهيم إشارةٌ إلى توهِينِ قولِ من زعمَ أنَّه الإسكندر اليونانيُّ؛ لأنَّ الإسكندرَ كان قريباً من زمن عيسَى، وبين إبراهيمَ وعيسَى أكثرَ من ألفي سنة، والذي يظهرُ أنَّ الإسكندر المتأخِّر، لُقِّبَ بذي القرنينِ تشبيهاً له بالمتقدِّم؛ لسعةِ ملكِهِ وغلبتِهِ على البلادِ الكثيرة، أو لأنَّه لمَّا غلبَ على الفرسِ وقتلَ ملكَهُم انتظم له مُلكُ المملكتينِ الواسعتينِ الرُّوم والفرس، فلقِّبَ بذي القرنينِ، والحقُّ أن الذي قصَّ اللهُ نبأهُ في القرآنِ هو المتقدِّم، والفرقُ بينهما من أوجهٍ:
          أحدها: ما ذكرتُهُ، ومنها ما رواهُ الفَاكهيُّ من طريقِ عبيدِ بن عُمير أحد كبارِ التَّابعينَ: أنَّ ذا القرنين حجَّ ماشياً، فسمعَ به إبراهيمُ فتلقَّاه.
          ومن طريقِ عطاء عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ ذا القرنينِ دخلَ المسجدَ الحرامِ، فسلَّمَ على إبراهيمَ وصافحَهُ، ويقال: إنَّهُ أوَّل من صافَحَ، ومن طريقِ عثمانَ بن سَاجٍ: أنَّ ذا القَرنينِ سألَ إبراهيمَ أن يدعوَ له، فقال: وكيفَ، وقد أفسدتم بئري؟ فقال: لم يكن ذلكَ عن أمرِي؛ يعني: أنَّ بعضَ الجندِ فعلَهُ بغير علمِي.
          وذكر ابن هشامٍ في ((التِّيجان)): أنَّ إبراهيمَ تحاكم إلى ذي القرنينِ في شيءٍ فحكم لهُ، وروى ابنُ أبي حاتمٍ من طريق علياء بن أحمر: أنَّ ذا القرنين قَدِمَ مكَّةَ فوجدَ إبراهيمَ وإسماعيلَ يبنيانِ الكعبةَ فاستفهمَهُمَا عن ذلك فقالا: نحن عبدانِ مأمورانِ، فقال: من يشهدُ لكما؟ فقامت خمسةُ أكبُشٍ فشهِدَتْ، فقال: قد صدقتمَا، قال: وأظنُّ الأكبش المذكورة حجارةٍ، ويحتملُ أن تكون غنماً، قال: فهذه الآثارُ يشدُّ بعضُها بعضاً، وتدلُّ على تقدُّمِ عهدِ ذي القرنينِ.
          ثاني الأوجهِ: قال الفخرُ الرَّازي في ((تفسيره)): كان ذو القرنينِ نبيًّا، وكان الإسكندرُ كافراً، وكان معلِّمهُ أرسطا طاليس، وكان يأتمرُ بأمرهِ وهو من الكفَّار بلا شكٍّ.
          ثالثها: كان ذو القرنينِ من العربِ كما تقدَّمَ، والإسكندرُ من اليونانِ، والعربُ كلُّها من ولدِ سام بن نوحٍ بالاتِّفاق، وإن وقعَ اختلافٌ في أنَّهم كلُّهم من بني إسماعيلَ أولاً، / واليونان من ولدِ يافث بن نوحٍ على الرَّاجحِ فافترقا.
          قال: وشبهةُ من قال: إنَّ ذا القرنينِ هو الإسكندر، ما أخرجه الطَّبرانيُّ ومحمدُ بن الرَّبيع الجيزي في كتاب ((الصَّحابةِ الذين نزلوا مصر)) بإسنادٍ فيه ابنُ لهيعةَ: أنَّ رجلاً سأل النَّبي صلعم عن ذي القرنينِ، فقال: ((كان من الرُّوم، فأعطي مُلْكاً فصارَ إلى مصر وبنى الإسكندريةَ، فلمَّا فرغَ أتاه مَلكٌ فعرجَ به، فقال: انظر ما تحتكَ؟ قال: أرى مدينة واحدة قال: تلك الأرض كلُّها، وإنَّما أرادَ اللهُ أن يريكَ، وقد جعلَ لك في الأرضِ سلطاناً، فَسِرْ فيها وعلِّمِ الجاهل، وثبِّتِ العالمَ)) قال: وهذا لو صحَّ لرفعَ النِّزاعُ ولكنَّهُ ضعيفٌ، قال: وقد اختُلِفَ في ذي القرنينِ، فقيل: كان نبيًّا، وهذا مرويٌّ عن ابنَ عَمرو بن العاصِي، وعليه ظاهرُ القرآن.
          وأخرجَ الحاكمُ عن أبي هريرة أنَّهُ قال: قال النَّبي صلعم: ((لا أدري ذو القرنينِ كانَ نبيًّا أو لا)) وذكر وهبُ أنَّه كان عبداً صالحاً، وأنَّ اللهَ بعثَهُ إلى أربعةِ أممٍ أمَّتَينِ منهما طول الأرض، وأمَّتَينِ منهما عرض الأرضِ، وهي ناسك ومنسك وتاويل وهاويل، فذكر قصَّةً طويلةً، حكاها الثَّعلبيُّ في ((تفسيرهِ)).
          وذكر الزُّبير في أوائلِ كتاب ((النسب)) عن أبي الطُّفيلِ قال: سمعتُ ابن الكوَّاء يقول لعليٍّ: أخبرني ما كان ذو القرنين؟ قال: كان رجلاً أحبَّ اللهَ فأحبَّهُ الله، بعثَهُ اللهُ إلى قومِهِ فضربُوه على قرنِهِ ضربة مات منها، ثمَّ بعثَهُ الله إليهم فضربُوه على قرنهِ ضربةً فمات، ثم بعثَهُ الله فسمِّيَ ذا القرنينِ. وفي سندهِ عبد العزيز ضعيفٌ لكن تُوبِعَ على أبي الطُّفيل فأخرجَهُ سفيان بن عيينةَ في ((جامعه)) عن ابنِ أبي حسينٍ، عن أبي الطُّفيل نحوه، وزاد: وناصحَ الله فناصحَه، وفيه لم يكنْ نبيًّا ولا مَلِكاً.
          وسمعناهُ في ((الأحاديث المختارة)) للضِّياءِ بسندٍ صحيحٍ، لكن فيه إشكالٌ؛ لأنَّ قولهُ: لم يكن نبيًّا، مغايرٌ لقولهِ: بعثَهُ الله إلى قومهِ، إلَّا أن يحمل البعثُ على غيرِ رسالة النُّبوَّة، وقيل: كان ذو القرنينِ مَلَكاً من الملائكةِ حكاه الثَّعلبي، وهو مرويٌّ عن عمرَ: أنَّهُ سمعَ رجلاً يقول: يا ذا القرنينِ، فقال: تسمَّيتُم بأسماءِ الملائكةِ.
          وحكى الجاحظُ في ((الحيوان)): أنَّ أمَّهُ كانت من بناتِ آدم، وأن أباهُ كان من الملائكةِ، قال: واسم أبيهِ صري، واسم أمِّهِ عيرى، وقيل: كان من الملوكِ وعليهِ الأكثر، انتهى ما في ((الفتح)).
          واختُلِفَ في أيِّ مكانٍ ماتَ، فقيل: بدَومةِ الجندلِ، قال العينيُّ: لما فاتته عينُ الحياةِ وحَظِيَ بها الخضرُ، اغتمَّ غمًّا شديدًا، فأيقن بالموتِ فمات بدَومةِ الجندلِ، وكانت منزله هناك، هكذا رُوي عن عليٍّ ☺.
          وقيل: مات بشهروز، وقيل: بأرضِ بابل وهو الأصحُّ، وقيل: ماتَ بالقدسِ، ذكره أبو بكرٍ الواسطيُّ في ((فضائل القدسِ)) وكان عددَ ما سارَ في البلاد منذ بعثَهُ الله إلى أن قُبِضَ خمسمائةِ عامٍ.
          وقال مجاهد: عاشَ ألف سنةٍ كآدم عليهما السَّلام، وقال ابنُ عسَاكرَ: بلغني أنَّهُ عاش ستًّا وثلاثين سنة، وقيل: ثنتين وثلاثين سنة.
          وعلى القول بأنَّهُ نبيٌّ بعثه الله تعالى إلى من في مطلعِ الشَّمسِ، ومن في مغربهَا، يقال لهم: ناسكٌ ومنسك، وهاويلٌ وتاويلٌ، وإلى من في عرضِ الأرضِ ووسطها.
          فقد قال البغويُّ: وذكر وهب بن منبِّه: أنَّ ذا القرنينِ كان رجلاً من الرُّوم، ابن عجوزٍ، فلمَّا بلغَ وكان عبداً صالحاً، قال الله لَهُ: إنِّي باعثكُ إلى أممٍ مختلفة ألسنتهُم، منهم أمَّتانِ بينهما طولُ الأرضِ، إحداهما عند مغربِ الشَّمس، / يقال لها: ناسكٌ، والأخرى: عند مطلعهَا، يقال لها: منسكٌ، وأمَّتانِ بينهما عرضُ الأرضِ، إحداهما في القُطرِ الأيمن، يقال لها: هاويل، والأخرى: في قُطرِ الأرضِ الأيسرِ، يقال لها: تاويل، وأممٌ في وسطِ الأرض، منهم الجنُّ والإنسُ، ويأجوجَ ومأجوجَ.
          فقال ذو القرنين: بأيِّ قوة أُكابرهُم؟ وبأيِّ جمعٍ أُكاثرهُم؟ وبأيِّ لسانٍ أُناطقُهم؟ قال الله تعالى: إنِّي سأطوِّقك وأَبسطُ لك لسانكَ، وأَشُدُّ عضدكَ فلا يهولكَ شيءٌ، وأُلبسُكَ الهيبةَ فلا يروعُكَ شيءٌ، وأسخِّرُ لك النُّور والظُّلمة وأجعلهما من جنودِكَ، يهديك النُّورُ من أمَامكَ، وتحوطُكَ الظُّلمةُ من ورائك، فانطلقَ حتَّى أتى مغربَ الشَّمسِ فوجدَ جمعاً وعدداً لا يحصيهِ إلَّا الله.
          فكابرَهُم بالظُّلْمةِ حتى جمعهم في مكانٍ واحدٍ، فدعَاهُم إلى اللهِ تعالى وعبادتِهِ، فمنهم من آمنَ ومنهم من صدَّ عنه، فعمدَ إلى الذين تولُّوا عنه فأدخلَ عليهم الظُّلمةَ، فدخلَتْ أجوافَهم وبيوتَهم فدخلوا في دعوتِهِ، فجنَّدَ من أهل المغرب جُنداً عظيماً فانطلقَ يقودُهُم، والظُّلمةُ تسُوقُهم حتى أتى هاويلَ، فعملَ فيهم كعملِهِ في ناسِكَ، ثمَّ مضَى حتَّى انتهى إلى منسكٍ عند مطلعِ الشَّمسِ، فعملَ فيها وجنَّدَ فيها جنُوداً كفعلِهِ في الأُمَّتين، ثمَّ أخذَ ناحيةَ الأرضِ اليسرى، فأتى تاويلَ فعملَ فيها كعملِهِ فيما قبلها، ثمَّ عَمِدَ إلى الأممِ التي في وسَطِ الأرضِ، فلمَّا كانَ مما يلي منقطع التُّرب نحو المشرقِ، قالت له أمَّةٌ صالحةٌ من الإنسِ: يا ذا القرنينِ إنَّ بين هذين الجبلين خلقاً أشباهَ البَهائمِ يفترسُون الدَّوابَّ والوحوشَ والسِّباعَ، ويأكلون الحيَّات والعقاربَ، وكل ذي روحٍ خلقَ في الأرضِ، وليس يزدادُ خلق كزيادتهم فلا تشكَّ أنَّهم يملؤون الأرضَ، ويظهرون عليها ويفسدُون فيهَا. انتهى.
          وروى ابنُ جريرٍ والأمويُّ في ((مغازيه)) بسندٍ ضعيفٍ من حديث عقبةَ بن عامرٍ: أنَّ ذا القرنين كان شابًّا من الرُّوم، وأنَّهُ بنى الإسكندرية وأنَّهُ علا بهِ مَلَكٌ في السَّماء، وذهبَ به إلى السَّدِّ، ورأى أقواماً وجوهُهُم مثلُ وجوهِ الكلابِ.
          قال ابنُ كثيرٍ: هذا خبرٌ إسرائيليٌّ.
          وقولُهُ: ({قُلْ}): أي: يا محمَّد ({سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا}): أي: سأقصُّ من شأنِهِ وخبرِهِ، وقال البيضاويُّ: خطابٌ للسَّائلين، والهاء لـ((ذي القرنينِ)) وقيل: لله تعالى ({إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ}): أي: بتسهيلِ السَّير فيها، حتَّى بلغَ مشارقَ الأرض ومغاربهَا، قال عليٌّ: سخَّرَ له السَّحابَ فحمل عليهِ وبسط له النُّور، فكان اللَّيل والنَّهار عليه سواءٌ.
          وقال البيضاويُّ: أي: مكنَّا له أوامرَهُ من التَّصرُّفِ فيها كيفَ شاء، فحذف المفعول.
          ({وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}): أي: أرادَهُ وتوجَّهَ إليه ({سَبَبًا}): أي: طريقاً يوصلُهُ إلى مرادِهِ، وقال البيضَاويُّ: أي: وصلة توصلُهُ إليه من العلمِ والقدرةِ والآلةِ، وقال عبد الرَّحمنِ بن زيد: أي: تعليم الألسنةِ، كان لا يغزُو قوماً إلا كلَّمَهم بلسَانِهِم، وقيل: علماً بالطُّرقِ والمسَالكِ، فسخَّرَ اللهُ له أقطارَ الأرضِ كما سخَّرَ لسليمانَ الرِّيحَ.
          وروي عن كعبِ الأحبَار أنَّهُ قال: كان ذو القرنينِ يربطُ خيلَهُ بالثُّريا استدلالاً بهذه الآيةِ، وأنكرَ هذا عليه معاويةُ بنُ أبي سفيانَ.
          قال ابنُ كثيرٍ: وهو إنكارٌ صَحيحٌ، إذ لا سبيلَ للبَشرِ إلى شيءٍ من ذلك، ولا إلى الرُّقيِّ في أسبابِ السَّماواتِ، انتهى، فتأمَّله فإنَّهُ قد يصحِّحه ما نُقِلَ عن عليٍّ من حملِ السَّحابِ له، إن ثبتَ.
          (▬فَاتَّبَعَ سَبَبًا↨): بتشديد / تاء ((اتَّبع)) ووصل الهمزة لنافعٍ وابنٍ كثير وأبي عَمرو، وقرأَ الباقون من السَّبعةِ بقطعِ الهمزة ساكنُ التَّاء، والمرادُ كما قالَ البيضاويُّ: فأرادَ بلوغَ المغربِ فأتبع سبباً موصلةً إليه طريقاً، هذا تفسيرُ أبي عبيدةَ في ((المجاز)).
          وقال في ((القاموس)): السَّببُ: الحبلُ، وكلُّ ما يتوصَّلُ به إلى غيرِهِ.
          (إِلَى قَوْلِهِ: {آْتُونِي زُبَرَ الحَدِيدِ}): قال القسطلانيُّ: بسكون الهمزة، وهي قراءةُ أبي بكرٍ عن عاصم، وقولُهُ: ((إلى قوله)) متعلقٌ بنحو: اقرأ، هكذَا وقعَ للأكثرِ، وفي روايةِ أبي ذرٍّ بعد قولِهِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ}: <إلى قولهِ: {سَبَباً} طريقاً {آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} واحدُه زُبرة>، ولابنِ عسَاكرَ بعد قولِهِ: {ذكراً}: <إلى قوله: {آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}>.
          قال شيخُ الإسلامِ: وساق في نسخةٍ أخرى، الآيات كلَّها فنفسِّرها جميعها على سبيلِ الاختصَارِ، وقولُهُ: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ} [الكهف:86] حتَّى للغاية و{مَغْرِبَ الشَّمْسِ} أي: مكانَ غروبِها {وَجَدَهَا} جواب: {إِذَا} أي: رآها تغربُ، والجملةُ في موضعِ نصبٍ على أنَّها المفعول الثَّاني لـ{وَجَدَهَا} {فِي عَينٍ} متعلِّق بـ{تَغْرُبُ} {حَمِئَة} صفة: {عَينٍ} بفتح الحاء المهملة وكسر الميم فهمزة مفتوحة، الطِّينُ الأسود المنتنُ كالحَمَأَة؛ محرَّكة.
          وقال البيضاويُّ: أي: ذاتُ حمئة من حمئتِ البئرُ: إذا صارَتْ حمأة، وقرأَ ابنُ عامر وحمزةُ والكسَائي وأبو بكر: ▬حامية↨ أي: حارَّة، ولا تنَافي بينهما لجوازِ أن تكون العينُ جامعةَ الوصفَينِ، أو حمئة على أنَّ ياءَها مقلوبةٌ عن الهمزةِ لكسرِ ما قبلها، قال: ولعلَّهُ بلغَ سَاحلَ المحيطِ فرآها كذلك، إذ لم يكُنْ في مسطحِ بصرِهِ غير الماءَ ولذلك قال: {وَجَدَهَا تَغْرُبُ} ولم يقلْ: وكانَتْ تغربُ {وَوَجَدَ} أي: ذو القرنينِ {عِنْدَهَا} أي: عند تلكَ العينِ أو عندَ نهايةِ العُمارة {قَوماً}.
          قال البغويُّ: {قَوماً} أي: أمَّةً، وقال ابنُ جريجٍ: مدينةٌ لها اثنا عشرَ ألف بابٍ، لولا ضَجيجُ أهلِها لسمعَتْ وجبةَ الشَّمس حين تغربُ، ثم نقلَ عن وهبٍ: أن أمَّةً عند مغربِ الشَّمس يقال لها: ناسكٌ، وأخرى عند مطلعهَا، يقال لها: منسكٌ، وأمتان في عرضِ الأرضِ في القطرِ الأيمنِ يقالُ لها: هاويل، وأخرَى في قطرِ الأرضِ الأيسرِ يقال لها: تاويل. وعليه فيصحُّ أن يفسَّرَ القومُ الذين عند مغربهَا: بناسكٍ، والذين عند مطلعهَا بمنسكٍ، فافهم.
          وقال البيضاويُّ: {قَوماً}: قيل: كان لباسُهُم جلودَ الوحشِ، وطعامهُم ما لفظَهُ البحرُ، وكانوا كفَّاراً فخيَّرهُ الله بين أن يعذِّبَهم أو يدعوهم إلى الإيمانِ كما حكي بقولِهِ: {قُلنَا} أي: بالوحِي إليهِ إن كان نبيًّا. قال البغويُّ: والأصَحُّ أنَّهُ لم يكن نبيًّا، فالمرادُ من القَولِ له الإلهام، قال البيضاويُّ: أو على لسانِ نبيٍّ.
          {يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ} أي: بالقتلِ على كفرِهِم {وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} [الكهف:86] أي: بالإرشادِ وتعليمِ الشَّرائِعِ، وقيل: خيَّرهُ الله بين القتلِ والأسرِ، وسمَّاهُ إحساناً في مقابلةِ القتلِ، ولما خيَّره اللهُ تعالى اختارَ دعوتَهُم حيث قال: ويؤيِّد الأوَّلَ قولُهُ: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ} أي: بالكفرِ {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي: بالقتلِ {ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ} أي: في الآخرةِ {فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً} [الكهف:87] أي: منكراً يعني بالنَّارِ، بل هو بهَا أنكرُ من القتلِ، وقال الحسن: كان يطبخهم في القدورِ.
          {وَأَمَّا مَنْ آَمَنَ} أي: باللهِ وحدهُ {وَعَمِلَ صَالِحاً} أي: من الطَّاعاتِ التي يقتضيهَا الإيمانُ {فلَهُ} أي: في الدَّارينِ {جَزَاءً الْحُسْنَى}.
          قال البيضاويُّ: أي: فعلتُهُ الحسنَى، وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص، {جَزَاءً} منوناً منصوباً على الحالِ؛ أي: فله المثوبةُ الحسنَى مجزيًّا بها، أو على المصدرِ لفعلِهِ المقدَّر حالاً؛ أي: يجزى جزاءً، أو التَّمييز، وقرئ منصوباً غير منونٍ على أن تنوينَهُ حُذِفَ لالتقاءِ السَّاكنين، ومنوناً مرفُوعاً / على أنَّه المبتدأُ، و{الحُسْنَى} بدلُهُ، ويجوزُ أن تكونَ {إمَّا} و{إمَّا} للتقسيمِ دون التَّخيير؛ أي: ليكن شأنُكَ معهم إمَّا التَّعذيبَ، وإمَّا الإحسان، فالأوَّل لمن أصرَّ على الكفرِ، والثَّاني لمن تابَ عنه.
          {وَسَنَقُولُ لَهُ} أي: لمن آمن {مِنْ أَمْرِنَا} أي: ممَّا نأمره به {يُسْراً} [الكهف:88] أي: قولاً سهلاً غير شاقٍّ، وقال مجاهدٌ: {يُسْراً} أي: معروفاً، فـ{يُسْراً} مفعول مطلقٌ أو مفعولُ بت، وتقديره: ذا يسرٍ، وقرئ بضمَّتين.
          {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف:89] أي: طريقاً ليوصله إلى المشرقِ، كما سَلَكَ أولاً طريقاً أوصلَهُ إلى المغربِ {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ} أي: الموضعَ الذي تطلعُ عليهِ الشَّمس أولاً من معمورِ الأرضِ، وقرئ: ▬مطلَع↨ بفتح اللام على إضمار مضافٍ؛ أي: مكان طلوعِ الشُّمسِ {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً} [الكهف:90]؛ أي: من اللِّباس، فعن مجاهد: من لا يلبسُ الثيابَ من السُّودانِ عندَ مطلعِ الشَّمس أكثرُ من جميعِ أهل الأرضِ، وقيل: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً} مثلَ السِّترِ الذي جعلناهُ لكُم من الجبالِ والحصُونِ والأبنيةِ والأكنانِ من كلِّ جنسٍ، والثِّيابِ من كلِّ صنفٍ، قالهُ في ((الكشَّاف)).
          أو البناء فإنَّ أرضهم لا تُمسِكُ الأبنية ولا تستقرُّ فيها، أو لأنَّهم اتَّخذوا الأسرابَ بدلَ الأبنيةِ، فيكونون في الأسرابِ إلى أن تزولَ الشَّمسُ عنهم، فإذا زالتْ خرجُوا إلى معايشهِم وأمُورهِم.
          وقال الحسنُ: كانُوا إذا طلعتِ الشَّمسُ يدخلون الماءَ، فإذا ارتفعَتْ خرجُوا فتراعُوا كالبهائمِ.
          قال في ((الكشَّاف)): وعن بعضِهم خرجَتْ حين جاوزَتِ الصِّينَ فسألتُ عن هؤلاءِ، فقيل: بينك وبينهُم مسيرةَ يومٍ وليلةٍ، فبلغتهم فإذا أحدهُم يفرشُ أذنَهُ ويلبسُ الأخرى، ومعِي صاحبٌ يعرفُ لسَانَهم، فقالوا له: جئتَنا تنظرُ كيف تطلعُ الشَّمسُ؟ قال: فبينا نحنُ كذلكَ إذ سمعنَا كهيئةِ الصَّلصَلة، فغشِيَ عليَّ، ثمَّ أفقتُ وهم يمسحونَنِي بالدُّهنِ، فلمَّا طلعتِ الشَّمسُ على الماءِ إذا هي فوقَ الماءِ كهيئةِ الزَّيتِ، فأدخلونا سرباً لهم، فلمَّا ارتفعَ النَّهارُ خرجُوا إلى البحرِ، فجعلُوا يصطَادونَ السَّمكَ ويطرَحونَهُ في الشَّمسِ فينضجُ، انتهى.
          أي: فيأكلونَهُ.
          {كَذَلِكَ} قال البيضَاويُّ: أي: أمر ذي القرنينِ كما وصفناهُ في رفعةِ المكانِ وبسطَةِ المُلكِ، أو أمرُه في أهلِ المشرقِ كأمرِهِ في أهلِ المغربِ من التَّخييرِ والاختيارِ، قال: ويجوزُ أن يكونَ صفةُ مصدرٍ محذوفٍ لـ{وَجَدَ} أو {نَجْعَلْ} أو صفة {قَومٍ} أي: على قومٍ مثلَ ذلك القَبيلِ الذين تغرُب عليهم الشَّمسُ في الكفرِ والحكمِ.
          {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ} أي: من الجنُودِ والآلاتِ والعَددِ {خُبْراً} [الكهف:91] أي: علماً تعلَّق بظَواهرِهِ وخفَاياهُ، والمرادُ: أنَّ كثرةَ ذلكَ بلغَتْ مبلغاً لا يحيطُ به إلَّا علمُ اللَّطيفِ الخَبيرِ، وقال ابنُ الأثير: الخبرُ النَّصيبُ.
          {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف:92] أي: طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرقِ والمغربِ أخذاً من الجنُوبِ إلى الشِّمالِ {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} أي: الجبلين المبنيُّ بينهما سدٌّ، وهما جبلا أرمينية وأذربيجان، وقيل: جبلانِ في آخرِ الشِّمال في منقطعِ أرض التُّركِ ضيِّقان من ورائهمَا يأجوج ومأجوج.
          وقال في ((الكشَّاف)): قيل: بُعدُ ما بين السَّدَّين مائة فرسخ، قال: وعن رسولِ الله صلعم: أنَّ رجلاً أخبرَهُ به، فقال: ((كيفَ رأيته؟)) قال: كالبردِ المحبَّر طريقةٌ سوداء وطريقةٌ حمراء، قال: ((قد رأيتهُ))، انتهى.
          وقرأ نافعٌ وابنُ عامر وحمزةُ والكسائيٌّ وأبو بكرٍ ويعقوبُ: {بَيْنَ السَّدَّيْنِ} أي: بفتح السين، وقرأ الباقون بضمها وهما لغتان، / وقيل: المضمومُ لما خلقَ اللهُ، والمفتوح لما عملَهُ النَّاس؛ لأنَّهُ في الأصلِ مصدرٌ سمِّيَ به حدثٌ يحدِثُهُ النَّاس، وقيل: بالعكس.
          وزاد في ((الفتح)): وقيل: بالفتح ما رأيتَهُ، وبالضم ما توارَى عنك، و{بَيْنَ} هاهنا مفعول به، وهو من الظُّروف المتصرِّفة، قالهُ البيضاويُّ.
          {وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا} أي: أمام السَّدين، قالهُ البغويُّ.
          {قَوْماً} قال الزَّمخشريُّ: هم التُّرك {لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} [الكهف:93] أي: كلاماً لغيرِهِم لغرابةِ لغتهم، ولقلَّة فطنتهم، وقرأ حمزةُ والكسائيُّ: ▬لا يكادون يُفْقِهون↨ بضمِّ التحتيَّةِ وسكونِ الفاء وكسرِ القافِ؛ أي: لا يُفهِمُون السَّامعَ كلامَهُم.
          وقولُهُ: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} تقدَّم الكلامُ عليه أوَّل البابِ، ومنه أنَّ القائلَ مترجمهم لئلا يُنافي قولَهُ: {لا يفقهون قولاً}.
          {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} بفتحِ الخاءِ المعجمةِ وسكونِ الرَّاء؛ أي: جُعلاً، وقرأَ حمزةُ والكسَائي: ▬خَرَاجاً↨ بفتح الخاء والرَّاء بعدها ألف فجيم، وهو بمعنى {خَرْجاً} كالنَّولِ والنَّوال، وقيل: الخراجُ ما كانَ على الأرضِ والذِّمَّة، والخرجُ المصدرُ.
          {عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} [الكهف:94] أي: حاجزاً؛ لئلا يخرجُوا إلينا فيؤذونا، قال البيضَاويُّ: وقد ضمَّهُ من ضمَّ: {السَّدَّينِ} غير حمزةَ والكسَائي.
          {قَالَ مَا مَكَّنِّي} بتشديدِ النونِ للأكثرِ {فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ}.
          قال البيضاويُّ: أي: ما جعلنِي {فِيهِ رَبِّي} مكيناً من الأموالِ والمِلْك {خَيْرٌ} ممَّا تبذلونَ لي من الخراجِ ولا حاجَةَ لي إليهِ، كما قال سليمانُ عليه السَّلام: {فَمَا آَتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آَتَاكُمْ} [النمل:36] وقرأَ ابنُ كثير: ▬مكنني↨ بفكِّ الإدغامِ على الأصْلِ {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي: فعالين أو بما أتقوَّى به من الصُّخورِ والحديدِ والنُّحاسِ.
          {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} [الكهف:95] قال في ((الكشَّاف)): أي: حاجزاً حَصِيناً موثَّقاً، وهو أكبرُ من السَّدِّ من قولهم: ثوبُ مردم: إذا كان رقاعٌ فوق رقاعٍ، قيل: حفرَ الأساسَ حتَّى بلغَ الماءَ، وجعلَ الأساسَ من الصَّخرِ والنُّحاس المُذابُ، والبنيانِ من {زُبَرَ الْحَدِيدِ} بينها الحطبُ والفحمُ، حتَّى سدَّ ما بين الجبلينِ إلى أعلاهما، ثمَّ وضعَ المنافخَ حتَّى صارَتْ كالنَّار، فصَبَّ النُّحاسَ المذابَ على الحديدِ المحمَى، فاختلطَ والتزقَ بعضُهُ ببعضٍ وصارَ جبلاً صلداً.
          {آَتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} بضمِّ الزاي وفتحِ الموحَّدة؛ أي: قِطَعَ الحديدِ الكبارِ، وهذا لا يُنافي ردُّ الخَراجِ والاقتصَارِ على المعونةِ؛ لأنَّ الإيتاء بمعنى: المعونةَ؛ أي: جيئونِي بزبر الحديدِ.
          وقال البيضَاويُّ: عليه قراءةُ أبي بكر: ▬ردماً ائتوني↨ بكسرِ التنوين موصُولة الهمزة، على معنى: جيئوني بزبر الحديدِ، والباءُ محذوفةٌ، حذفها في أمرتك الخيرَ، انتهى.
          فقيَّدَ الزُّبر بقطعِ الحديدِ الكبارِ، لكن المصنِّف أطلقَ فقال: (وَاحِدُهَا) أي: الزُّبر (زُبْرَةٌ) بضمِّ الزاي وسكونِ الموحَّدة فراء فهاء تأنيثٍ (وَهِيَ) أي: الزبرُ لا الزُّبرة؛ لقولِهِ: (القِطَعُ) بكسرِ القافِ وفتحِ الطاء المهملةِ، جمع: قِطْعة _بكسرِ القافِ وسكونِ الطاء_،قيل: زِنَةُ كلِّ قطعةٍ قنطَارٌ دمشقِيٌّ أو تزيد عليهِ ({حَتَّى إِذَا سَاوَى}) قال العينيُّ: قرأَ أبان: ▬حتَّى إذا سوَّى↨ بتشديدِ الواو بدلاً عن الألف ({بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} [الكهف:96]) بفتح الصاد والدال المهملتين، لأكثر الرُّواة والقرَّاءِ، ولغير أبي ذرٍّ: <▬الصُّدُفين↨> بضمها وهي قراءة / ابن كثيرٍ وأبي عمرو وابن عامر، وهي لغةُ قريشٍ، وقرأ أبو بكرٍ: بضمِّ الصَاد وسكونِ الدال، وقرئ بفتحِ الصَّاد وضمِّ الدال.
          قال البيضَاويُّ: وكلُّها لغاتٌ من الصَّدفِ، وهو الجبلُ؛ لأنَّ كلاً منهما مفعولٌ إلى الآخرِ، ومنه التَّصادُفُ: التَّقابلُ (يُقَالُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ) أي: في تفسيرِ {الصَّدَفَينِ} (الجَبَلَيْنِ): وصلَهُ ابنُ أبي حاتمٍ عنه في تفسير: {الصَّدَفَينِ}.
          وقال أبو عبيدةَ: {بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ} بين النَّاحيتينِ من الجبَلينِ، كذا في ((الفتح)).
          وقال القسطلانيُّ: وقال أبو عبيدةَ: الصَّدَف كلُّ بناءٍ عظيمٍ مرتفعٍ، انتهى فتأمَّل.
          (وَالسُّدَّيْنِ الجَبَلَيْنِ): هذا من تتمَّة المرويِّ عن ابن عبَّاس، فعنده: الصَّدفان والسَّدان بمعنى، وتقدَّمَ آنفاً بيان القراءةِ في: {السَّدين}.
          وقال في ((الفتح)): وروى ابنُ أبي حاتمٍ من حديث عقبةَ بن عامرٍ مرفوعاً في قصَّة ذي القرنين، وأنَّهُ سار حتَّى بلغ مطلعَ الشَّمس، ثمَّ أتَى السَّدين، وهما جبلان ليِّنان يزلقُ عنهمَا كلُّ شيءٍ فبنى السَّدَّين، وفي إسنادِهِ ضعفٌ.
          ({خَرْجًا} [الكهف:94]) بفتحِ الخاءِ المعجمةِ وسكونِ الرَّاء (أَجْرًا): أي: أجرَةً، وقال شيخُ الإسلامِ: وفي روايةٍ: <أجراً عظيماً)> ومثله: ▬خراجاً↨ بالألف، وقد مر آنفاً الكلامُ على ذلكَ.
          ({قَالَ}) أي: ذُو القرنين للعمَلَةِ ({انْفُخُوا}) أي: في الأكوارِ والحديدِ ({حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ}) أي: المنفوخُ فيه ({نَارًا}) أي: كالنَّارِ بالإحماءِ بها ({قَالَ آتُونِي}) بمدِّ الهمزةِ المفتوحة أمرٌ للعمَلَةِ ({أُفْرِغْ}) بضمِّ الهمزةِ وسكون الفاءِ وكسرِ الرَّاء ({عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف:96]) بكسرِ القافِ وسكونِ الطاء (أَصْبُبْ) بضمِّ الموحدة الأولى وسكونِ الثانيةِ للأكثرِ، ورواهُ ابنُ عسَاكرَ وأبو ذرٍّ والوقتِ: بموحَّدة مشدَّدة، ورواه أبو ذرٍّ أيضاً وحدَه: <أصبُّ عليه> بزيادةِ: ((عليه)) (رَصَاصًا) بكسر الرَّاء وفتحها (وَيُقَالُ: الحَدِيدُ) أي: المذابُ، وهذا التَّعليق وسابقُهُ: منقولٌ عن أبي عبيدةَ.
          (وَيُقَالُ) أي: في تفسيرِ: {قطراً} (الصُّفْرُ) بضمِّ الصَّاد المهملةِ وكسرها، رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ من طريق الضَّحَّاك، و((الصُّفر)) النُّحاس، وقال في ((المغرب)): ((الصُّفر)): النحاسُ الجيِّد الذي تُعملُ منه الآنيةُ.
          (وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: النُّحَاسُ) وصلَهُ ابن أبي حاتمٍ بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عبَّاس، وحكى ابنُ كثير أن الخليفةَ الواثق أحدُ ملوكِ بني العبَّاس، بعثَ في دولتِهِ بعضَ أمرائِهِ في جيشٍ لينظروا إلى السَّدِّ وينعتُوهُ له إذا رجعوا، فرأوا بناءَهُ من الحديدِ والنُّحاسِ، ورأوا فيه باباً عظيماً عليه أقفَالٌ عظيمَةٌ وبقيَّة اللُّبنِ والعمد في برجٍ هناك، وذكروا أنَّ عنده حرساً من الملوكِ المتاخمةِ له، وأنَّهُ عالٍ منيف شاهقٌ، وأطالَ في ((الخريدة)) من نعتهِ.
          ({فَمَا اسْطَاعُوا}) بهمزةِ الوصلِ وحذف التاء، حذراً من تلاقِي متقارِبَين، وقرأَ حمزةُ بالإدغامِ جامعاً بين الساكنين على غير حدِّهِ، وقرئ بقلبِ السِّين صاداً، ذكره البيضَاويُّ وغيرهُ، ولم أرَ أنَّه قرئ بإثباتِ التاء ولو شذُوذاً ({أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف:97]) أي: أن (يَعْلُوهُ) بالصُّعودِ لارتفَاعِهِ وملاستِهِ، تقولُ: ظهرتُ فوقَ الجبلِ؛ أي: علوتهُ.
          قال البغويُّ: وفي القصَّة أن عرضَهُ كان خمسينَ ذراعاً، وارتفَاعَهُ مائتي ذراع وطولَهُ فرسخٌ.
          (اسْتَطَاعَ) بالتاء قبل الطاءِ، ولأبي ذرٍّ: <اسطاعَ> بحذفها أصلهُ (اسْتَفْعَلَ، مِنْ أَطَعْتُ لَهُ) بهمزة مفتوحةٍ / وفتحِ الطاء، ولأبوي ذرٍّ والوقتِ وابنِ عسَاكرَ: <من طُعْت> بإسقاطِ الهمزةِ وضمِّ الطاء وسكونِ العين.
          قال العينيُّ: لأنَّه من فَعَلَ يَفْعُلُ كنَصَرَ يَنْصُرُ، ولكنَّه أجوفُ واويٌّ؛ لأنَّه من الطَّوعِ، يقال: طاعَ له وطعتُ لهُ، كقالَ له وقلتُ له، ولمَّا نقلَ طاعَ إلى بابِ الاستفعالِ صار: استطاعَ، على وزنِ استفعلَ، ثم حذفَتْ التاء للتخفيفِ بعدَ نقلِ حركتِهَا إلى الهمزةِ فصارَ: أَسْطاعَ _بفتح الهمزةِ وسكون السِّين_،وأشارَ إلى هذا بقولهِ:
          (فَلِذَلِكَ فُتِحَ أَسْطَاعَ) أي: فلأجلِ حذف التاء، ونقلِ حركتِهَا إلى الهمزةِ، قيل: ((أسطاع)) (يَسْطِيعُ) بفتحِ الهمزةِ في ((أسطاع)) الماضِي والياء في يسطيعُ المضَارع وهو فيهما بلا تاءٍ.
          وقال شيخُ الإسلامِ: لكنْ قال بعضُهم في المستقبلِ بضمِّ الياء وهو غريبٌ، انتهى.
          (وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتَطَاعَ يَسْتَطِيعُ) لم أقفْ على تعيينِ هذا البعْضِ، والفعلُ في اللَّفظينِ بالفوقيَّة المفتوحةِ، وحرفُ المضَارعة في الثَّاني مفتوحٌ في الفرعِ وغيرهِ من الأصُولِ وهو ظاهرٌ، وأمَّا قولُ الكرمانيُّ، وتبعه في ((فتح الباري)): قال بعضُهم: أُستطاع _بضمِّ الهمزةِ_،يُستطيع _بضمِّ الياء_،انتهى.
          ففيه شيءٌ لمن تأمَّل فإنَّهما إنْ أرادَا: استطَاعَ يستطيعُ اللَّذين فيهما تاء الافتعَالِ، فلا يصحُّ؛ لأنَّ الهمزةَ في الأولى للوصلِ وحقها الكسرُ، والياء في الثَّاني حقَّها الفتح، وإن أرادا الفعلَ المجرَّدَ من التاء فالضمُّ إنَّما هو في يستطعُ، وعلى ذلك جرى شيخُ الإسلامِ في ((المنحة)) لكن الضَّم غريبٌ، انتهى.
          ({وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ}) أي: للسَّدِّ ({نَقْبًا}) أي: حفراً؛ لثخنهِ وصَلَابتهِ وملاستهِ.
          قال القسطلانيُّ: وظاهرُ هذا أنَّهم لم يقدرُوا على ارتفاعِهِ ولا على نقبِهِ. وقال العينيُّ: يعنَي: لم يتمَكَّنوا أن ينقِّبُوا السَّدَّ من أسفلهِ لشدَّتهِ وصلَابتهِ، قال: ولم أرَ شَارحاً حرَّرَ هذا الموضِعَ كما ينبَغِي، انتهى فليتأمَّل فيما حرَّرهُ وتبجَّحَ به فإنَّه ظاهرٌ.
          ولا يعارضُهُ حديثُ أبي هريرةَ عن رسولِ الله صلعم، المرويُّ عند أحمدٍ: ((أنَّ يأجوجَ ومأجوجَ لَيحفرُونَ السَّدَّ كلَّ يومٍ حتى إذا كادُوا يرونَ شعاعَ الشَّمسِ، قال الذي عليهم: ارجعُوا فستحفرونَه غداً، فيعُودونَ إليه فيجدونَهُ أشدُّ ما كان حتى إذا بلغَتْ مدَّتهم، وأرادَ اللهُ أن يبعثَهم على النَّاس، حفرُوا حتى إذا كادُوا يرونَ شعاعَ الشَّمسِ، قال الذي عليهم: ارجعُوا فستحفرونَه غداً إن شاء الله، ويستثنِي فيعودونَ إليه وهو كهيئتِهِ حين تركوهُ فيحفرونَهُ ويخرجونَ على النَّاسِ ويشربونَ الميَاهَ، ويتحصَّنُ النَّاسُ في حصُونِهم منهم فيرمُونَ بسهَامِهِم إلى السَّماءِ فترجعُ كهيئةِ الدَّمِ، فيقولون: قهرْنَا أهلَ الأرضِ، وعلونا أهلَ السَّماءِ، فيبعثُ اللهُ عليهم نغفاً في أعينِهم فيَهلكون، وإن دوابَّ الأرضِ تسمنُ وتشكرُ من لحومِهِم شكراً)).
          والحديثُ رواهُ ابنُ ماجه والتِّرمذيُّ وقال: غريبٌ لا نعرفُهُ إلَّا من هذا الوجهِ.
          وقال ابنُ كثيرٍ: إسنادهُ جيِّدٌ قويٌّ، ولكن في متنهِ نكارةٌ لمخَالفتِهِ الآيةَ، ورواهُ كعبٌ بنحوهِ، فيحتملُ أنَّ أبا هريرة تلقَّاهُ من كعبٍ، لأنَّه كانَ يجالسُهُ كثيراً، ولمَّا حدَّثَ به أبو هريرة توهَّم بعضُ الرُّواة أنَّه مرفُوعٌ فرفعَه.
          ({قَالَ}) أي: ذو القرنينِ ({هَذَا}) أي: السَّدُّ والإقدارُ ({رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي}) / أي: نعمةٌ من اللهِ تعالى على عبَادهِ غيرَ يأجوجَ ومأجوجَ ({فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي}) أي: وقتُ وعدِهِ بخروجِ يأجوجَ ومأجوجَ، أو بقيامِ السَّاعة بمشَارفتهَا ({جَعَلَهُ}) أي: السَّد والإقدارُ عليه ({دَكًّا}) أي: مَدْكوكاً، مصدر بمعنى المفعولِ منونٌ لأكثر القرَّاءِ، وقرأَ الكوفيُّون: ▬دكاء↨ بالمدِّ ممنوعاً من الصرفِ لألف التأنيث؛ أي جعلَهُ مثلَ الأرضِ المستويةِ مبسُوطاً لازقاً بها.
          فلذا قال: (أَلْزَقَهُ) أي: السَّد (بِالأَرْضِ) و((ألزقه)) بالزاي وقد تبدلُ سيناً أو صاداً (وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ) بالمد (لاَ سَنَامَ لَهَا) أي: مرتفعٌ (وَالدَّكْدَاكُ) بفتحِ الدالِ مبتدأٌ خبرُه مثله (مِنَ الأَرْضِ) حال (مِثْلُهُ) أي: مثل الدكِّ في المعنَى.
          (حَتَّى صَلُبَ): بضمِّ اللامِ، من الأرضِ (وَتَلَبَّدَ) أي: ولم يرتفعْ، ومثلُهُ قولُ الجوهريُّ: الدَّكدَاك من الرَّملِ ما تلبَّدَ منه بالأرضِ ولم يرتفعْ، وسقطَ لأبي ذرٍّ وابنِ عسَاكرَ: <من الأرضِ> ({وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}) أي: واقعاً لا يتخلَّف ({وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ}) أي: بعضَ يأجوج ومأجوج ({يَوْمَئِذٍ}) أي: وقتَ خروجهم من وراءِ السَّدِّ ({يَمُوجُ فِي بَعْض} [الكهف:99]) أي: يضطربُ ويختلطُ بعضُهم بالبعضِ الآخرِ مُزدحمين في الأرضِ، وقيل: المعنَى تركنَا بعضَ الخلقِ من الإنسِ والجنِّ يوم القيامةِ يضطربُ ويختلط ببعضٍ منهم، وهم حيارَى لشدَّةِ هول يومِ القيامةِ، وعلى التَّفسيرِ الأوَّل يكون هذا آخرُ حكايةِ ما يتعلَّق بذي القرنينِ، وعلى الثَّاني يكون آخرها قولُهُ: {حقاً}، فيكون ما بعده ابتداءُ كلامٍ آخرَ، وأيَّد التفسير الثَّاني ما بعده من الآياتِ، فافهم.
          (بابٌ) بإثبات ((بابٌ)) منوناً لابنِ عسَاكرَ، وسقطَ لغيره ({حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء:96]) هذه الآية في أواخرِ سورة الأنبياءِ، واختلف في: {حَتَّى} هذه فجرى الزَّمخشريُّ وابنُ عطيَّة وكثيرون على أنَّها ابتدائيَّةٌ، وجرَى الحُوفِي وآخرون على أنَّها غائيَّة، وعليهما فـ{حَتَّى} مرتبطةٌ بحرامٍ أو بما دلَّ عليه المعنَى من تأسُّفهم على ما فرَّطُوا فيه من الطَّاعةِ حين فاتهم الاستدراكُ، أو بـ{تَقَطَّعُوا} [الأنبياء:93] أو بـ{يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:95].
          واستظهرَ أبو حيَّان ابتدائيتها، قال: لأنَّ {إذَا} تقتضِي جواباً هو المقصودُ، واستبعدَ تعلُّقها بـ{تَقَطَّعُوا} من حيثُ كثرة الفصلِ، وإن كان جيِّد المعنَى؛ إذ المرادُ أنَّهم لا يزالونَ مختلفين على دينِ الحقِّ إلى قُربِ السَّاعةِ، وفي جواب {إِذَا} أوجهٌ:
          أحدها: أنَّه محذوفٌ؛ أي: قالوا: يا ويلنَا أو يبعثون.
          ثانيها: أنَّه {اقْتَرَبَ}.
          ثالثها: جملة: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} والواو زائدة.
          وقولُهُ: {فُتِحَتْ} مبنيٌّ للمفعولِ {يَأْجُوجُ} نائبُ فاعل {فُتِحَتْ} لكنَّهُ على حذفِ مضافٍ؛ أي: سدُّ يأجوج ومأجوج.
          وجملة: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} أي: يسرعونَ الخروجَ، حاليَّةٌ. والحَدَب _بفتحتين_،النَّشرُ والارتفاعُ في الأرضِ.
          (قَالَ قَتَادَةُ) أي: في تفسير ({حَدَبٌ}: أَكَمَةٌ) بفتحات، تجمعُ على أَكَم بحذف التاء، وهي التَّلُّ المرتفعُ، وثبتَ: <{حَدَبٌ}> لأبي ذرٍّ، وهذا التَّعليقُ رواه عبدُ الرَّزَّاق في ((تفسيره))، كما في ((الفتح)).
          وقال القسطلانيُّ: فيما ذكرهُ عبد الرَّحمن في ((تفسيرهِ))، فليتأمَّل.
          (قَالَ) ولأبي ذرٍّ: <وقال> بالواو (رَجُلٌ) لم يعلم اسمه، لكن لا يضرُّ ذلك لأنَّه صحابي (لِلنَّبِيِّ صلعم: رَأَيْتُ) بضم التاء (السَّدَّ) بفتحِ السِّين لغيرِ أبي ذرٍّ، ولهُ بضمها (مِثْلَ البُرْدِ) بضمِّ الموحَّدة وسكونِ الرَّاء، نوعٌ من الثِّياب (المُحَبَّرِ) بضمِّ الميمِ وفتحِ الحاء المهملَةِ وتشديدِ الموحَّدة؛ أي: المخطَّط (قَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم للرَّجل: / (رَأَيْتَهُ) بفتح التاء.
          قال في ((الفتح)): وصلَهُ ابنُ أبي عمر عن رجلٍ من أهلِ المدينةِ أنَّه قال للنَّبيِّ صلعم: يا رسولَ اللهِ، قد رأيتُ سدَّ يأجوجَ ومأجوجَ، قال: ((كيف رأيتَهُ؟)) قال: مثل البُرْدِ المحبَّر طريقةٌ حمراء وطريقةٌ سوداء، قال: ((قد رأيتُهُ)) قال: ورواه الطَّبرانيُّ عن أبي بكرةَ بنحوه، وزاد فيه زيادة منكرةً وهي: ((والَّذي نفسي بيدِهِ، لقد رأيتُهُ ليلةَ أسري بي لبنةً من ذهبٍ، ولبنةً من فضَّةٍ)).