الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت}

          ░44▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) سقطَ:<باب> لأبي ذرٍّ، فـ<قولُ> مرفوعٌ، ووقعَ في بعضِ الأصولِ: <بابٌ قالَ اللهُ تعالى> أي: في سورةِ كهيعص ({وَاذْكُرْ}) أي: يا محمدُ ({فِي الْكِتَابِ}) أي: القرآنِ ({مَرْيَمَ}) أي: قصَّةَ مريمَ أمِّ عيسى بنتِ عمرانَ بنِ ماثانَ، لا عِمرانَ والدِ موسى وهارونَ، فإنَّه ابنُ يصهَرَ، وتقدَّمَ أنَّ بين العِمرانَين ألفاً وثمانِمِائةِ سنةٍ ({إِذْ انْتَبَذَتْ}) {إِذْ} بسكون الذال، ظرفٌ، وحرِّكَ بالكسرِ لالتقاءِ الساكنَين، بدلٌ من: {مَرْيَمَ} بدلَ اشتمالٍ أو كلٍّ، فيكونُ مفعولاً به، و{انْتَبَذَتْ}: اعتزلتِ للعبادةَ.
          ({مِنْ أَهْلِهَا}) أي: عنهم، أو هي على أصلِها، وقال البيضاويُّ في {إِذْ} أو ظرفٌ لمضافٍ مقدَّرٍ، وقيل: {إِذْ} بمعنى: أنِ المصدريَّةِ؛ كقولِك: لا أكرمتُكَ إذ لم تكرِمني، فتكونُ: {إِذْ} بدلاً لا محالةَ.
          وقوله: ({مَكَاناً}) ظرفٌ لـ{انْتَبَذَتْ} أو مفعولٌ به على تضمُّنِه معنى: أتت ({شَرْقِيّاً} [مريم:16]) أي: شرقيَّ بيتِ المقدسِ، أو شرقيَّ / دارِها، ولذلك اتَّخذ النَّصَارى المشرقَ قِبلةً، وقال البغويُّ: وكان يوماً شاتياً شديدَ البردِ، فجلَسَت في مشرَقةٍ تفلِّي رأسَها، وقيل: كانت طهُرَتْ من الحيضِ فذهبتْ لتغتسِلَ.
          وقوله: (و{إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ} [آل عمران:45]) هذا في سورةِ آل عمرانَ، والواو ليست من التِّلاوةِ، بل هي من المصنِّفِ لعطفِ ما بعدها على: {وَاذْكُرْ} قبلَها، وسقطت لغيرِ أبي ذرٍّ، فيكونُ ما بعدَها من التَّعدادِ؛ كقولِه: ({إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ...} [آل عمران:33]) الآياتِ، فالجميعُ من التَّرجمةِ، وهي كما في ((الفتح)) معقودةٌ لأخبارِ مريمَ عليها السَّلامُ، والمرادُ بقوله {بِكَلِمَةٍ}: هو: عيسى المسيحُ المذكورُ بعدها، وسمِّيَ كلمةً؛ لأنَّ وجودَه بها؛ وهي قولُه تعالى: {كُنْ}، وهو من إطلاقِ السَّبب على المسبَّبِ مجازاً مرسَلاً، وكلٌّ من الآياتِ المذكُورةِ فيه مريمَ عليها السَّلامُ، وتقدَّم شيء من أخبَارِها قريباً في بابِ قولِ اللهِ تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} إلى قوله: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم:11-12] وهي: مريمُ بنتُ عِمرانَ بنِ ماثانَ، كما في البيضَاويِّ، وقال في ((الفتح)): ابنِ ناشِي، وتقدَّمَ بقيَّةُ نسبِها في ذلك البابِ، وهي أم عيسى عليه السَّلامُ.
          قال الكرمانيُّ: حملَتْ به ولها ثلاثةَ عشرةَ سنةً، وعاشَتْ بعدَما رُفعَ ستًّا وستِّين سنةً، وماتتْ ولها مائةٌ واثنتا عشْرةَ سنةً، وفيه اختلافٌ، انتهى.
          وهي في الأصلِ بالسُّريانيَّة: الخادِمُ، ثمَّ جُعلَت علَماً، ويقالُ: مريمُ بلسَانِ العربِ: مَن تُكثرُ زيارةَ الرجالِ، كالزِّيرِ؛ وهو: مَن يُكثرُ زيارةَ النِّساءِ، قال: واستشهدَ مَن زعمَ هذا بقولِ رؤبةَ: قلتُ لزيرٍ لم تصِلْه مريمُ، قال: وفيه نظرٌ.
          وتقدَّمَ الكلامُ على آدمَ ونوحٍ وآلِ إبراهيمَ، وكذا آلُ عمرانَ إن أُريدَ بهم موسى وهارونُ وأتباعُهمَا، والمرادُ هنا: عيسَى وأمُّه عليهما السَّلامُ؛ وهي: مريمُ بنتُ عِمرانَ بنِ ماثانَ بنِ أبيغارارَ بنِ أبي ثورٍ، إلى آخرِ ما في البيضاويِّ، وهو من نسلِ سليمانَ بنِ داودَ، وتقدَّمَ أنَّه كانَ بين العِمرانَينِ؛ عِمرانِ موسى وهارونَ، وهو متقدِّمٌ، وعِمرانِ والدِ مريمَ أمِّ عيسى ألفٌ وثمانِمائةِ سنةٍ.
          ({عَلَى الْعَالَمِينَ}) متعلِّق بــ{اصْطَفَى}، وفي هذه الآيةِ دليلٌ كما قالوهُ على أنَّ البشرَ أفضلُ من الملائكةِ (إِلَى قَوْلِهِ: {يَرْزُقُ}) أي: اللهُ {مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي: بغيرِ تقديرٍ لكثرتِه، أو بغيرِ استحقَاقٍ، بل تفضُّلاً منه تعالى (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) ممَّا وصلَه ابنُ أبي حاتمٍ عنه (وَآلُ عِمْرَانَ الْمُؤْمِنُونَ) خبرُ: ((آلُ عِمرانَ)) (مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ وَآلِ يَاسِينَ) بجرِّ يس بالفتحةِ لمنعِه من الصرفِ (وَآلِ مُحَمَّدٍ صلعم) فالآيةُ وإن كانَ ظاهرُها العمومَ في الكافرين والمؤمنين، لكن المرادُ خصُوصُ المؤمنينَ منهم.
          قال الكرمانيُّ: فإن قلتَ: ما حاصلُ هذا الكلامِ وآلُ عِمرانَ كيف يكونونَ بعضَ آلِ عمرانَ؟
          قلتُ: حاصلُه أنَّ المؤمنينَ هم آلُهم، ثم الكلُّ متناسِلونَ بتشعُّبِ بعضِهم من بعضٍ، والمرادُ بـ((آلِ ياسينَ)): هم المذكورونَ في قولِهِ تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:123] وقيل: هو إدريسُ.
          ثم قال: فإن قلتَ: مرَّ في بابِ إبليسَ، وقال: غيرُ عيسى، ولم يذكُرْ أمَّه، وهنا أبطلَ الحصرَ بزيادةِ الأمِّ.
          قلتُ: ذلك بالنِّسبةِ إلى الطَّعنِ بالأصبعِ في الجَنبِ، وهذا بالنسبةِ إلى المسِّ، وهما مختلفانِ، أو العطفُ تفسيريٌّ، والمقصودُ: الابنُ، وذلك قبلَ أن يوحى إليه بأنَّ حُكمَ أمِّ عيسى كحُكمِهِ، انتهى.
          واعتَرضَ في ((الفتح)) كونَه من العطفِ التَّفسيريِّ بأنَّه تعسُّفٌ، واعترضَ الكورانيُّ الأوجُهَ الثَّلاثةَ بأنَّها خلط، وبيَّنه بحسَبِ زعمِهِ، فراجِعهِ وتأمَّله.
          (يَقُولُ) أي: ابنُ عباسٍ ({إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران:68]) بفتح لامِ: {الَّذِيْنَ} لوقوعِهَا في خبرِ: {إنَّ} للتَّأكيدِ، وضميرُ: {اتَّبَعُوهُ} لـ{إِبْرَاهِيمَ}، وجملةُ: / ({وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ}) مستأنفةٌ أو حاليَّةٌ، فمَنْ لم يكُنْ مؤمناً فليس من آلِ مَن ذكرَ ({وَيُقَالُ: آلُ يَعْقُوبَ: أَهْلُ يَعْقُوبَ}) فقلبُوا الهاءَ همزةً والهمزةَ ألفاً (فَإِذَا) ولأبوي ذرٍّ والوقتِ: <إذا> (صَغَّرُوا {آلَ}) بنصبِ: {آلَ} من غيرِ تنوينٍ لحكايتِهِ (ثُمَّ رَدُّوهُ) أي: {آلَ} (إِلَى الأَصْلِ) أي: أصلِهِ؛ وهو: الهاءُ، وجملةُ: (قَالُوا: أُهَيْلٌ) جوابُ: ((إذا صغَّروا))، وسقطَ لأبوَي ذرٍّ والوقتِ لفظُ: <ثم>؛ أي: فيكونُ: ((ردُّوه)) هو الجوابُ، والجوابُ بدلٌ منه، فافهم.
          وما ذكرَه المصنِّفُ في: {آلَ} أحدُ وجهَين، كمَا أشارَ إلى ذلك الشَّاطبيُّ بقوله:
فَإِبْدَالُهُ مِنْ هَمْزَةٍ هَاءٌ اَصْلُهَا                     وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ وَاوٍ ابْدِلَا