الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أتشفع في حد من حدود الله

          3475- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ) تصغيرُ: قَتَبةَ _بفتحِ القاف والتاء_ (ابْنُ سَعِيدٍ) أي: البلخيُّ، و((سعيدٍ)) بوزنِ: أميرٍ، وسقطَ: ((ابنُ سعيدٍ)) لأبي ذرٍّ، قال: (حَدَّثَنَا لَيْثٌ) أي: ابنُ سعدٍ، ويقالُ فيه: الليثُ بـ((الـ)) التي للَّمحِ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) بكسرِ الشين المعجمةِ، هو: محمد بنُ مسلمٍ الزُّهريُّ (عَنْ عُرْوَةَ) أي: ابنِ الزُّبيرِ (عَنْ عَائِشَةَ) هي: خالةُ عروةَ (أُمِّ المُؤْمِنِيْنَ ♦ أَنَّ قُرَيْشاً) هي: القبيلةُ المشهورةُ (أَهَمَّهُمْ) بتشديدِ الميمِ الأولى؛ يعني: أحزنَهم (شَأْنُ) أي: أمرُ (الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ) أي: لأنَّها منهم، وهي _بفتحِ الميمِ وسكونِ الخاءِ وضمِّ الزاي المعجمتين_، وهي: فاطمةُ بنتُ الأسودِ بنِ عبدِ الأسودِ، بنتُ أخي أبي سلمةَ بنِ عبدِ الأسودِ، قُتلَ أبوها كافراً يومَ بدرٍ، وكان حلَفَ لَيكسِرَنَّ حوضَ رسولِ الله صلعم، فتأمل، حتى وصلَ إليه فأدركَه حمزةُ ☺ وهو يكسرِه، فقتَلَه، فاختلطَ دمُه بالماءِ.
          وأما ابنتُه المذكورةُ، فأسلمَتْ وبايعَتْ، وقطعَ النبيُّ يدَها لمَّا سرقَتْ، ولم يشفِّعْ أسامةَ فيها مع أنَّه كان يقبَلُ شفاعتَه، فلمَّا أقبلَ أسامةُ قال له النَّبيُّ صلعم: ((لا تكلِّمْني يا أسامةُ؛ فإنَّ الحدودَ إذا انتهَتْ إليَّ فليس لها مترَكٌ، ولو كانت بنتَ محمَّد لَقطَعتُها))، كذا في: ((الإصابةِ)).
          وقوله: (الَّتِي سَرَقَتْ) أي: في غزوةِ الفتحِ، وكان المسروقُ حُليًّا (فَقَالَ) بالإفراد (وَمَنْ) بالواو، ولأبي ذرٍّ عن الكشميهنيِّ: <فقالوا> بواو الجمع <مَن> بحذف الواو (يُكَلِّمُ) بتشديد اللام المكسورة، ولأبي ذرٍّ عن الحمويِّ والمستمليِّ: <فقال> بالإفرادِ <من> بغيرِ واوٍ، وضميرُ: <قالوا> بالجمع والإفراد لقريشٍ باعتبارَين، / والجملةُ الاسميةُ بعد مقولِ: ((قالَ)).
          (فِيهَا) أي: في المرأةِ المخزوميَّةِ التي سرقَتْ (رَسُولَ اللَّهِ صلعم) بنصبِ: ((رسولَ)) مفعولِ: ((يُكلِّمُ)) (فَقَالُوا) وسقطَتِ الفاءُ من بعضِ النُّسخِ؛ أي: قريشٌ، لكن القائلُ منهم كما عندَ ابنِ أبي شيبةَ: مسعودُ بنُ الأسودِ (وَمَنْ يَجْتَرِئُ) بفتحِ التَّحتيَّة والفوقيَّة بينهُمَا جيمٌ ساكنةٌ فراء فهمز آخره، والاستفهامُ للنَّفيِ؛ أي: لا يتجاسَرُ (عَلَيْهِ) أي: على رسولِ الله صلعم (إِلَّا أُسَامَةُ) أي: بطريقِ الإذلالِ، والاستفهامُ للنفيِ على حدِّ: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56].
          و((أسامةُ)) بضمِّ الهمزةِ وبالسَّين المهملةِ (ابْنُ زَيْدٍ حِبُّ) بكسرِ الحاءِ المهمَلةِ وتشديدِ الموحَّدة، مرفوعٌ، نعتٌ لـ((أسامةُ)) أي: محبوبُ (رَسُولِ اللَّهِ صلعم) ويجوزُ جرُّ: ((حِب)) نعتٌ لـ((زيدٍ))؛ لأنَّهُ أيضاً حِبُّ رسولِ الله.
          تنبيه: جملةُ: ((ومَن يجترئُ...)) إلخ، مقولُ: ((قالوا))، والواو للاستئنافِ، وقال القسطلانيُّ: والعطفُ على محذوفٍ تقديرُه: لا يجترِئُ عليه منا أحدٌ لمَهَابتِه، وأنَّه لا تأخذُه في دينِ الله رأفةٌ، وما يجترِئُ عليه إلَّا أسامةُ، انتهى، وعلى ما قلناه لا حذفَ.
          (فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ) أي: في العفوِ عن قطعِ يدِ السارقةِ (فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم) أي: لأسامةَ (أَتَشْفَعُ) بسكون الشين المعجمة (فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تعالى) والاستفهامُ إنكاريٌّ للتوبيخِ (ثُمَّ قَامَ) أي: رسولُ الله صلعم، أي: على المنبرِ (فَاخْتَطَبَ) بزيادة فوقية للمبالغة؛ أي: فخطَبَ الناسَ (ثُمَّ قَالَ) ولعل التراخيَ غيرُ مُرادٍ (إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مَن قَبْلَكُمْ) أراد بني إسرائيلَ، وسقطَتْ: ((مَن)) في بعضِ الأصولِ، وفيه المطابقةُ.
          (أنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ) أي: من غيرِ إقامةِ حدٍّ عليه (وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَايْمُ اللَّهِ) بوصل الهمزةِ وقد تقطَعُ، اسمٌ موضوعٌ للقسَمِ، وفيه لغاتٌ أخرى مرَّتْ (لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ) يعني: نفسَه الشريفةَ صانها اللهُ تعالى من ذلك، ولأبي ذرٍّ: <بنتَ محمد> (سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا) أي: من الكُوعِ امتِثالاً لقولِه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38].
          وإنما ضربَ عليه السلامُ المثَلَ بفاطمةَ ♦؛ لأنَّها كانت أعزَّ أهلِه عليه، ثم إنَّها كانت توافِقُها في الاسمِ.
          وفي الحديثِ النهيُ عن الشَّفاعةِ في الحدودِ، وذلك بعد بلوغِهِ إلى الإمامِ.
          وقد أخرجَه المصنَّفُ في الحدودِ، وفي فضلِ أسامةَ، وأخرجه مسلمٌ وأبو داودَ والنسائيُّ وابنُ ماجه في الحدودِ.