الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {ذكر رحمة ربك عبده زكريا}

          ░43▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) أي: في أوَّل مريم ({ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ}) برفع {ذِكْرُ} خبرٌ عن {كهيعص} إن جعلَ اسماً للسُّورة أو للقرآنِ أو خبرُ مبتدأ محذوف نحو: المتلوُّ ذكرُ رحمةِ ربِّك، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ؛ أي: فيما أوحي إليك ذكرُ رحمةِ ربِّك، قال البيضَاويُّ: وقرئ: ▬ذكر رحمة ربك↨ على أنَّ {ذِكْرُ} فعلٌ ماضٍ؛ أي: والكاف مشدَّدةٌ في قراءةِ الحسن ومخفَّفةٌ في قراءة أبي العاليةِ، وقرئ: ذكِّر بتشديد الكاف فعلُ أمر ({عَبْدَهُ}) مفعولُ {رَحْمَةِ}، أو {ذِكْرُ} بناءً على جعلِ الرحمة فاعلاً لهُ اتساعاً كقولك: ذكَّرني جودُ زيد ({زَكَرِيَّا}) بدلٌ من {عَبْدَهُ} أو عطفُ بيان.
          قال في ((الفتح)): وفي زكريَّا أربع لغاتٍ: المدُّ والقصرُ وحذفُ الألفِ مع تخفيفِ الياءِ، وفيه تشديدُهَا أيضاً وحذفها، وقال الجوهريُّ: لا صرفَ مع المدِّ والقصرِ، وقال في ((المنحة)): وهو مصروفٌ في التشديدِ ممنُوعُ الصرفِ في غيرهِ، انتهى فليتأمَّلْ.
          وزكريا هو كما قال ابنُ عساكر في ((تاريخِهِ)): ابن برخيا، قال: ويقال: زكريا ابنُ دان، ويقال: ابنُ أدن بن مسلمِ بن صدوقَ بن تخشان بن داودَ بن سليمانَ بن مسلمِ بن صديفة بن ناخورَ بن شلوم بن بهفاشاط بن أسأ بن أفيا بن رحيم بن سليمانَ بن داود عليهما السلامُ.
          ومثلُه في الثعلبيِّ غير أنَّه لم يذكر ابنَ برخيا.
          وكان زكريا عليه السَّلام نجاراً كما في حديثٍ انفرد بإخراجهِ مسلم، وقال ابنُ إسحاقَ: كان زكريا وابنُه يحيى عليهما السَّلام آخرَ من بعثَ في بني إسرائيلَ من أنبيائهِم قبلَ عيسَى ({إِذْ}) ظرف لرحمة ({نَادَى}) أي: زكريا ({رَبَّهُ نِدَاءً}) بالمدِّ مفعول مطلقٌ لا مفعولٌ به لنادى ({خَفِيّاً}) نعتُ {نِدَاءً}؛ أي: سراً؛ أي: والسرُّ والجهرُ عند الله سيَّان، لكنَّ الإخفاء أشدُّ إخبَاتاً؛ لأنَّه أبعدُ عن الرياءِ أو لئلَّا يلام على طلبِ الولدِ في وقتِ الكبر، أو لئلَّا يطَّلعَ عليه مَواليهِ الذين خافَهُم، أو لأنَّ ضعفَ الهرمِ أخفَى صَوته، واختلفَ في سنِّه حينئذٍ فقيل: ستُّون سنة، وقيل: خمسٌ وستون، وقيل: سبعونَ، وقيل: خمس وسبعونَ سنةً، وقيل: خمس وثمانونَ سنة، ثمَّ فسَّر النداءَ بقوله: ({قَالَ رَبِّ}) أي: ياربِّ ({إِنِّي وَهَنَ}) أي: ضعُفَ ({الْعَظْمُ مِنِّي}) قال البيضَاويُّ: وتخصيصُ الوهنِ به؛ لأنَّه دعامةُ البَدنِ، وأصلُ بنائِهِ ولأنَّه أصلبُ فيه فإذا وهنَ كانَ ما وراءهُ أوهنُ، وتوحيدُهُ؛ لأنَّ المرادَ به الجنسُ، وقرئ: ▬وهن↨ بالضمِّ والكسر ونظيرُه كمل في الحركاتِ الثَّلاثة، وقال قتادةُ: شكى ذهابَ أضراسِه.
          ({وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً}) قال في ((أنوار التنزيل)): شبَّه الشَّيبَ في بياضِهِ وإنارتهِ بشُواظِ النَّار وانتشَارهِ وفشوِّهِ في الشَّعر باشتعَالها، ثمَّ أخرجَ مخرجَ الاستعَارةِ وأسندَ الاشتعَالُ إلى الرَّأس الذي هو مكانُ الشَّيب مبالغةً، وجعلَهُ مميزاً إيضَاحاً للمقصُودِ، واكتفَى باللامِ عن الإضَافةِ للدِّلالة على أنَّ علمَ المخَاطبِ بتعيينِ المرادِ يُغني عن التَّقييدِ، انتهى.
          ومثلُ هذا التَّشبيهِ للشيبِ واقعٌ في كلامهِم كقوله:
واشتَعَلَ المبيَضُّ فِي مُسوَدِّه                     مثْلَ اشتعَالِ النَّارِ في جزْلِ الغَضَا
          (إِلَى قَوْلِهِ) أي: الله تعالى: ({لَمْ نَجْعَلْ لَهُ}) أي: للغلامِ الذي اسمُه يحيى من الحياةِ تفاؤلاً بها، وقيل: لأنَّ اللهَ أحيى بهِ عقرَ أمِّهِ، وقيل: / غيرُ ذلك، وأمُّ يحيى إيشاعُ بنت فاقوذا أختُ حنَّة أم مريمَ بنت عمرانَ بن ناش أو ماتان، وقال الزَّمخشريُّ: إن كان يحيى أعجميًّا وهو الظاهرُ فمنع صَرفه للتَّعريفِ والعجمةِ كموسى وعيسَى، وإن كانَ عربيًّا فللتعريفِ ووزنِ الفعلِ، انتهى.
          {مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً} أي: لم يسمَّى بيحيى أحدٌ قبلَ هذا الغلام، وسقطَ: <إذ نادى> إلى آخر <شيئاً> لأبي ذرٍّ (قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) فيما وصلَهُ ابنُ أبي حاتم في تفسير سميًّا.
          (مِثْلاً) بكسر الميمِ وسكون المثلَّثةِ؛ أي: شبيهاً؛ لأنَّه عليه السلام لم يهمَّ بمعصية فضلاً عن أن يفعلَهَا، ولأنَّه كان سيداً وحصُوراً؛ أي: مبالغاً في حبسِ نفسهِ عن الشَّهوات، وروي عنه أيضاً أنَّه قال في ((تفسيرهِ)): لم يسمَّ يحيى قبلَه غيرُه، وأخرجَهُ الحاكمُ في ((المستدركِ))، قال البيضَاويُّ: وهو شاهدٌ بأن التَّسميةَ بالأسَامِي الغريبَةِ تنويه للمسمَّى، وفيه فضيلةٌ ظاهرةٌ ليحيى حيثُ سمَّاه اللهُ تعالى باسمٍ لم يُسبَقْ إليه ولم يَكِلْ ذلك إلى أحدٍ ولو أبوَيهِ.
          (يُقَالُ رَضِيًّا) أي: من قولهِ تعالى: {وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم:6] أي: (مَرْضِيًّا) أي: ترضَاه أنت وعبادُكَ قولاً وعملاً (عُتِيّاً) أي: من قولهِ تعالى: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} [مريم:8] قرأه حمزةُ والكسائيُّ بكسرِ العينِ والباقونَ بضمِّها (عَصِيًّا) بفتحِ العين وكسرِ الصَّاد المهملَتَين، قال في ((الفتح)): كذا فيه، والصَّواب بالسِّين، انتهى.
          أي: لأنَّه يقال: لغة عسِيَ _بالسِّين_ الشيخُ إذا انتهى سنُّه وكبرَ، وهو مرَادفٌ لقولهِ: (عتَا يَعْتُو) قال الجوهريُّ: عتَا الشَّيخُ يعتُو عتوًّا وعتيَّا _بضمِّ العين وكسرِها_ كبرَ وولَّى، وقال أيضاً في عسي نقلاً عن الأصمعي: عسا الشيءُ يعسُو عَسْواً وعَسِيًّا: ولَّى وكبرَ مثل عتا، انتهى.
          وقال في ((الفتح)) و((العمدة)): روى الطبريُّ بإسنادٍ صَحيحٍ عن ابن عبَّاسٍ قال: ما أدري أكانَ رسولُ الله صلعم يقرأُ: عتياً أو عسيًّا، وقال أبو عبيدة في قولهِ تعالى: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً} كلُّ مبالغٍ في كبرٍ أو كفرٍ أو فسادٍ فقد عتا يعتُو عتيًّا، ومثله عسِيَ، وزاد غيرُهما: شيخٌ عاتٍ وعاسٍ: إذا صارَ إلى حالَةِ اليبسِ والجفَافِ، انتهى.
          وسقطَ لغيرِ أبوَي ذرٍّ والوقتِ: <عتَا يعتُو> ({قَالَ رَبِّ}) أي: يا رب ({أَنَّى}) أي: من أينَ أو كيفَ ({يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وكَانَتِ امرَأتيْ عَاقِراً}) أي: لا تلد ({وَقَدْ بَلَغْتُ مِن الكِبَرِ عتِيًّا} [مريم:8]) قال الثعلبيُّ: ولدَ يحيى وعُمرُ زكريا مائةٌ وعشرونَ سنةً، وقيل: تسعونَ، وقيل: اثنانِ وتسعون، وقيل: مائةٌ إلا سنتَين، وقيل: مائةٌ إلا سنةً (إِلَى قَوْلِهِ: {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [مريم:10]) أي: متتَابعاتٍ على جعله نعتاً لثلاث؛ لأنَّ فعيلاً يستوي فيه المفردُ والمذكَّرُ وغيرهما (وَيُقَالُ: صَحِيحاً) أي: ما بك من خرسٍ ولا بُكمٍ، وهذا التَّفسير على جعلِ {سَوِيًّا} حالٌ من فاعلِ {تُكَلِّمَ} وهذا أصحُّ؛ لأنَّه لم يقدر أن يتكلَّم مع الناسِ إلَّا بذكرِ الله تعالى، وإنَّما ذكر اللَّيالي هنا، وفي آل عمران: ثلاث أيام، للدِّلالةِ على أنَّه استمر عليه المنعُ من كلامِ النَّاس والتجرُّد للذِّكر والشكرِ ثلاثةَ أيَّام ولياليهنَّ، وسقطَ قوله: <{وَكَانَتِ امْرَأَتِي}> إلى آخر <عِتِيًّا> لغير أبي ذرٍّ.
          ({فَخَرَجَ}) أي: زكريا ({عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ}) أي: المصلَّى أو الغرفة ({فَأَوْحَى إِلَيْهِم أَنْ سَبِّحُوا}) {أَنْ} مفسِّرة أو مصدريةٌ؛ أي: صلوا أو نزِّهوا ربَّكم ({بُكْرَةً وَعَشِيّاً}) بنَصبِهِمَا على الظَّرفيَّة لسبِّحوا لا لأوحى، ولعلَّه كان هو وقومه مأمُورينَ أن يسبحوا اللهَ في النهارِ، قال العينيُّ: كان النَّاس من وراءِ المحرابِ ينتظرونَ زكريا أن يفتحَ لهم البابَ فيدخلونَ ويصلُّون معه إذ خرجَ عليهم متغيِّرَ اللَّون، فأنكرُوهُ فقالوا له: يا زكريا مالَكَ فأوحَى إليهِم؛ أي: فأشارَ إليهم بيدِهِ ورأسِهِ، قاله مجاهدٌ، وعن ابنِ عبَّاسٍ: فكتبَ إليهِم، وقيل: كتبَ على الأرضِ.
          ({فَأَوْحَى} فَأَشَارَ) أي: إلى قومِهِ بيدِهِ، / قيل: كانَتِ المسبحَة؛ لقولهِ: {إِلَّا رَمْزاً} وهذا التَّفسيرُ قول مجاهدٍ ومحمد بن كعبٍ ({يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ}) ففي الكلامِ حذفٌ تقديره: ووهبنا له يحيى وقلنا له: يا يحيى خذ الكتاب ({بِقُوَّةٍ} [مريم:12] أي: بجدٍّ واستظهارٍ للتَّوفيقِ (إِلَى قَوْلِهِ {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:15]) والذي بينهما: {وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} إلى آخر {حَيّاً}، والمرادُ بالحكمِ: الحكمةُ، وقيل: التوراة، وقيل: النبوَّة، أكملَ الله عقلَهُ في صبَاه واستنبأَهُ ولم يبيِّنْ مقدَار عَمْرهِ حين أرسلَ، فعن ابنِ عبَّاسٍ: كانَ سبعَ سنين، وعن قتادةَ ومُقاتل: ثلاثُ سنين، وكان ذلك معجزةً له كعيسَى، وقال البَغويُّ: قيل: أرادَ بالحكمِ فهمَ الكتاب، فقرأَ التَّوراة وهو صغيرٌ، وعن بعضِ السَّلفِ: من قرأَ القرآنَ قبلَ أن يبلغَ فهو ممَّن أُوتي الحكمَ صبيًّا.
          ({وَحَنَاناً مِنْ لَدُنَّا}) عطفٌ على {الْحُكْمَ}؛ أي: وآتيناهُ رحمةً منَّا عليه، أو رحمةً وتعطُّفاً في قلبهِ على أبويهِ وغيرهما، قال الحُطَيئةُ لعمرَ بن الخطَّاب:
تحنَّنْ عَليَّ هدَاكَ الملَيْكُ                     فإِنَّ لكُلِّ مَقَامٍ مَقَالاً
          أي: ترحَّم عليَّ.
          ({وَزَكَاة}) قال البَيضَاويُّ: وطهَارةً من الذُّنوبِ وصَدقةً تصدَّق اللهُ بها على أبوَيهِ أو مكَّنَه ووفَّقَه للتصدُّقِ على النَّاس، وقيل: زيادةً في الخيرِ على ما وصَفَ، وقيل: عملاً صالحاً.
          ({وَكَانَ تَقِيّاً}) أي: مطيعاً لمولاهُ متجنباً عن معاصيهِ ({وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيّاً}) أي: عاقًّا أو عَاصياً لربِّه، والجبَارُ المتكبرُ، وقيل: الجبارُ الَّذي يضْربُ ويقتلُ على الغضَبِ، قاله البَغويُّ، ({وَسَلَامٌ عَلَيْهِ}) أي: مِنَ الله تعالى، قال الطيبيُّ: معطوفٌ من حيثُ المعنى على {وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ} كأنَّه قال: وآتيناهُ الحكم صبيَّا وجعلنَاه برًّا بوالدَيهِ، وسلَّمنَاه في تلكِ المواطنِ الموحشَةِ، فعدَلَ إلى الجملةِ الاسميَّة لإرادة الدَّوامِ والاستمرارِ، وهي كالخاتمةُ للكلامِ السَّابق.
          ({يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً}) الظُّروفُ متعلِّقاتٌ بسلام عليهِ، ونصَّ على هذه الأحوالِ لما قاله سفيانُ بن عيينةَ: أوحشَ ما يكون الإنسانُ في هذه الأحوال.
          ({حَفِيّاً}) أي: من قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم:47] أي: (لَطِيفاً) هذا قولُ ابن عبَّاسٍ، وقال أبو عبيدةَ: أي مختفياً، كذا في الشُّروح والأصُولِ، وفيه أنَّ هذه في شأنِ إبراهيمَ عليه السَّلام، ولعلَّ وجه مناسبتهِ لشأنِ يحيى في قوله: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ} الآية، فافهمْ، ثمَّ رأيتُ في بعضِ الأصُولِ: خفيًّا _بالخاء المعجمةِ بدل الحاءِ المهملةِ_ وهي أنسبُ؛ لأنَّها في شأنِ زكريَّا والدِ يحيى، فتأمَّلْ.
          وقال البيضَاويُّ: أي: بليغاً في البرِّ والإلطافِ.
          ({عَاقِراً} [مريم:5] الذَّكَرُ وَالأُنْثَى سَوَاءٌ) يريد أنَّ عاقراً في قوله تعالى: {امْرَأَتِي عَاقِراً} [مريم:5] يستوي فيه المذكَّر والمؤنَّث، فيقال: رجلٌ عاقرٌ وامرأة عاقرٌ؛ أي: لا يولدُ له منها، قال عامرُ بن الطُّفيل:
لَبِئسَ الفَتَى إنْ كنْتُ أَعْورَ عَاقِراً                     جَبَاناً فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ محْضَرِ