الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {وإلى ثمود أخاهم صالحًا}

          ░17▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): أي: في سورةِ الأعرافِ ({وَإِلَى ثَمُودَ}): بالمنعِ من الصَّرفِ للعلميَّة والتَّأنيث باعتبارِ القبيلةِ، وهي من العربِ، سُمُّوا باسمِ أبيها ثمودَ الأكبر بنِ عابر بنِ آرم بنِ سام بنِ نوحٍ عليه السَّلام، وقال الجوهريُّ: ثمود: قبيلةٌ من العربِ الأولى، وهم قومُ صالحٍ، وكذلك قال الفرَّاء: سُمِّيت بذلك لقلَّة مياهها، وقال الزَّجَّاج: الثَّمد: الماء القليل الذي لا مادَّة له، وقيل: ثمود: اسم رجلٍ، وقال عكرمة: هو: ثمود بن جابر بن آرم.
          وقال الكلبيُّ: كانت هذه القبيلةُ تنزلُ في وادِي القرى إلى البحرِ والسَّواحل وأطراف الشَّام، وكانت أعمارهُم طويلةً، وكانوا يبنون المساكن فتنهدمُ، فلمَّا طالَ ذلك عليهم اتَّخذوا من الجبالِ بيوتاً ينحتونها، وعملوهَا على هيئة الدُّور، ويقال: كانت منازلهم أوَّلاً بأرض كوش من بلاد عالج، ثمَّ انتقلوا إلى الحجرِ بين الحجاز والشَّام إلى وادي القرى، وخالفُوا أمرَ اللهِ وعبدوا غيرَهُ، وأفسدُوا في الأرضِ، فبعثَ الله إليهم صالحاً نبيًّا، فدعاهم إلى الله تعالى حتَّى شمط، ولم يتَّبعه منهم إلَّا قليلٌ مستضعفون، ويجوز في ثمود الصَّرف.
          وقال البيضاويُّ: وقرئ مصروفاً بتأويل الحيِّ أو باعتبارِ الأصلِ أنَّه اسم رجلٍ، وقوله: {وَإِلَى ثَمُودَ}...إلخ معطوفٌ على {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [الأعراف:65] المعطوف على {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [الأعراف:59]، أو هو متعلِّقٌ بأرسلنا مقدَّراً يدلُّ عليه {أَرْسَلْنَا} السَّابق.
          وقوله: ({أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف:73]): بنصب: {أَخَاهُمْ} بالعطف على ((عاد)) أو بأرسلنا المقدَّر، و{صَالِحًا} بدلٌ أو عطف بيانٍ على {أَخَاهُمْ}، وهو كما قال البيضاويُّ: صالح بنُ عبيدِ بنِ آسف بنِ ماشح بنِ عبيدِ بنِ حاذرِ بنِ ثمود، وقال في ((الفتح)): هو: صالحُ بنُ عبيد بنِ أسيفِ بنِ ماشح بنِ عبيد بنِ ماحر بنِ ثمود بنِ عابر بنِ آرم بنِ سام بنِ نوح، وقال العينيُّ: هو صالحُ بنُ عبيد بنِ جاثر بن آرم بنِ سامِ بنِ نوح عليه السَّلام، وقيل: صالحُ بنُ عبيد بنِ يوسف بنِ شالخ بنِ عبيد بنِ جاثر بنِ ثمود، قاله مجاهدٌ، وقيل: صالح بن عبيد بنِ أنيف بنِ ماشح بنِ جادر بنِ جاثر بنِ ثمود، قاله مجاهدٌ، وقيل: صالح بن كانوه، قاله الرَّبيع.
          قال مجاهدٌ: كان بينه وبين ثمود مائة سنةٍ، وكان في قومه بقايا من قوم عادٍ، على طولهم وهيآتهِم، وكان لهم صنمٌ من حديدٍ يدخلُ فيه الشَّيطان في السَّنة مرَّةً واحدة ويكلِّمُهم، وكانَ أبو صالحٍ سادنه، فغارَ لله وهَمَّ بكسرهِ، فناداهُم الصَّنمُ: اقتلوا كانوه فقتلوهُ ورموه في مغارةٍ، / فبكتْ عليه امرأته مدة فجاءها ملكٌ، فقال: إنَّ زوجك في المغَارة الفلانيةِ، فجاءتْ إليه وهو ميِّتٌ فأحياهُ الله تعالى، فقامَ إليها فوطئها في الحال، فعلقَتْ بصالحٍ من ساعتها، وعادَ كانوه ميتاً بإذنِ الله تعالى، ولمَّا شبَّ صالحٌ بعثَه اللهُ تعالى إلى قومه، فقيل: قبل البلوغِ، ولكنَّه قد راهقَ، قاله وهبٌ.
          وقال ابن عبَّاسٍ: لمَّا تمَّ له أربعون سنةً أرسله الله إليهم، وذكرَه اللهُ في القرآنِ في خمسةِ مواضع، وبيَّن قصَّته مع قومه، فلمَّا أهلك الله قومه نزل صالحٌ بفلسطين وأقام بالرَّملة، وقال السُّدِّي: أتى هو ومَن معه من المؤمنين إلى مكَّة، فأقاموا يتعبَّدون حتَّى ماتوا، فقبورهم غربي الكعبةِ بين دار النَّدوة والحِجْر.
          وقال ابنُ قتيبة: أقام صالحٌ في قومه عشرين سنةً، وماتَ وهو ابنُ مائةٍ وثمان وخمسين سنةً، وقيل: ابن ثلاثمائةٍ وستَّةٍ وثلاثين سنةً، وحكاهُ الخطيبُ عن ابن عبَّاسٍ، وهو الأظهرُ، ويقال: إنَّ صالحاً مات باليمن، وقبره بموضعٍ يقال له: الشَّنبوه، وذكر الفربريُّ: أنَّ صالحاً خرجَ مع المؤمنين إلى الشَّام فسكنُوا فلسطين وماتَ بها، وقد زرته في الرَّملة، وعليه مشهدٌ عظيمٌ في جانبِ جامعها الكبيرِ المسمَّى بجامع صالحٍ عليه السَّلام، وكان ذلك سنة أربعةٍ وثلاثين ومائةٍ وألف، وكان بينَ صالحٍ وبين هود مائة سنةٍ، وبين صالح وإبراهيم ستُّمائة سنة وثلاثون سنةً.
          وقوله: ({كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ}): في آخر سورة الحجر وجميع الآية: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ}[الحجر:80]، وثبت: <قوله> في بعضِ الأصولِ، وسقطَ من أكثرِها، قال البيضَاويُّ: يعني: ثمود كذَّبوا صالحاً، ومن كذَّبَ واحداً من الرُّسل فكأنَّما كذَّبَ الجميعَ، قال: ويجوزُ أن يُراد بـ{الْمُرْسَلِينَ}: صالح ومَن معه من المؤمنين.
          (الحِجْرُ: مَوْضِعُ ثَمُودَ): مبتدأٌ وخبرٌ ومضافٌ إليه، وسقطَ لفظ: <الحجر> لغير أبي ذرٍّ، وهو كما قال المفسِّرون والشُّرَّاح: وادٍ بين المدينةِ والشَّام يسكنُه قومُ صالحٍ، وهم ثمودُ.
          (وَأَمَّا {حَرْثٌ حِجْرٌ}: حَرَامٌ): يريد أنَّ ((حرام)) تفسيرٌ لقوله: {حِجْرٌ} الواقعُ في الأنعامِ في قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ}[الأنعام:138]، وأصل ((حرام)): فحرام بالفاء؛ لكونه جواب ((أمَّا))، لكنَّه حذفها على قلَّةٍ مع حذف مبتدأ أولاً، والتَّقدير على الأوَّل، فمعناه حرام، ثمَّ ذكر ضابطاً كلِّيًّا فقال: (وَكُلُّ مَمْنُوعٍ): أي: وكلُّ شيءٍ ممنوع منه (فَهُوَ حِجْرٌ مَحْجُورٌ): أي: حرامٌ محرَّمٌ، وهذا كسابقه تفسير أبي عبيدةَ في قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان:22]، قال البيضاويُّ: أي: حراماً محرَّماً.
          (وَالحِجْرُ: كُلُّ بِنَاءٍ): بالمدِّ (بَنَيْتَهُ): بتاء الخطاب في آخره، ولأبي ذرٍّ: <تبنيه> بتاءٍ في أوَّله مضارع، ثمَّ ذكر أمراً كلِّيًّا فقال: (وَمَا حَجَرْتَ عَلَيْهِ) بتخفيف الجيم ويجوز تشديدها كما هو في أكثر الأصول (مِنَ الأَرْضِ): بيان لـ((ما)) (فَهُوَ حِجْرٌ): أي: محجورٌ، وهذه الجملة خبر ((ما)) (وَمِنْهُ): أي: ومن قبيل مادَّة الحجر (سُمِّيَ): بالبناء للمفعول (حَطِيمُ البَيْتِ حِجْرًا): برفع ((حطيم)) نائبُ فاعل ((سُمِّي))، و((حجراً)) مفعوله الثَّاني، و((البيت)) أي: الحرام، وهو الكعبة زادها الله شرفاً، والحَطِيم بفتح الحاء وكسر الطَّاء المهملتين، وهو الحائط القصير المستدير إلى بعض جَوانب البيت، وهو حِجْر إسماعيل، قال في ((الفتح)): وقيل: الحطيم: ما بين الرُّكن والباب، سُمِّي حطيماً؛ لازدحام النَّاس فيه، انتهى.
          وعلى الأوَّل: (كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ مَحْطُومٍ): بسُكون الحاءِ المهملةِ (مِثْلُ قَتِيلٍ مِنْ مَقْتُولٍ): أي: في الوزنِ، وفي أنَّه بمعنى مفعول، وفي بعض النُّسخ: <مثل قتيلٍ ومقتول>، قال في ((المنحة)) تبعاً لـ((العمدة)): أراد بذلك أنَّ فعيلاً بمعنى: مفعولٍ، لا أنَّه مشتقٌّ منه اصطلاحاً، قال: ومعنى المحطوم: المكسور، وكأنَّ الحطيم سُمِّي به؛ لأنَّه كُسِر من الكعبة؛ / أي: أُخرج عنها.
          وقال في ((الفتح)): هذا على رأي الأكثر، وقيل: سُمِّي حطيماً؛ لأنَّ العرب كانت تطرحُ فيه ثيابها التي تطوف فيها وتتركها حتَّى تتحطَّم وتفسد بطول الزَّمان، قال: وسيأتي هذا في ما بعدُ عن ابن عبَّاسٍ، فعلى هذا فعيل بمعنى فاعل، وقيل: سمِّي حطيماً؛ لأنَّه كان من جملة الكعبة فأُخرج عنها، فكأنَّه كُسر منها، فيصحُّ لهم فعيل بمعنى مفعول، انتهى.
          وليس الحطيمُ هو الشَّاذروان وإن كانَ محطوماً من البيتِ، قال في ((التُّحفة)): وهو بعض جدار البيت، نقضه ابن الزُّبير من عرض الأساس لمَّا وصل أرضَ المطاف لمصلحة البناء، ثمَّ سنم بالرُّخام؛ لأنَّ أكثر العامَّة كان يطوف عليه، ومن ثمَّ صنَّف المحبُّ الطَّبريُّ في وجوب ذلك التَّسنيم، صوناً لطواف العامَّة؛ أي: عن الفساد، وهو من الجهة الغربيَّة واليمانية، وكذا من جهة الباب، قال: وهذا هو المراد بالشاذروان في الجميع، فهو عامٌّ في كلِّها حتَّى عند الحَجَر الأسود وعند اليمانيِّ، ثمَّ لمَّا ذكر الحِجر _بكسر الحاء_ وقال: إنَّه ما بين الرُّكنين الشَّاميَّين، عليه جدارٌ قصيرٌ بينه وبين كلٍّ من الرُّكنين، قال: ويُسمَّى: حطيماً، ولكنَّ الأشهر أنَّ الحطيم ما بين الحَجَر الأسود ومقام إبراهيم، وهو أفضل محلٍّ بالمسجد بعد الكَعبة وحِجرها بكسر الحاء، انتهى فاعرفه.
          واشتهر الآن أنَّ الحطيم هو السُّلَّم العريض الذي يُصعد عليه إلى البيتِ في بعضِ الأوقاتِ، وهي تسميةٌ حادثةٌ.
          (وَيُقَالُ): ولأبي الوقتِ: <ويقول> (لِلْأُنْثَى مِنَ الخَيْلِ الحِجْرُ): ولأبوي ذرٍّ والوقتِ وابنِ عساكرَ: <حِجر> بحذفِ أل وليسَ آخره هاء تأنيثٍ على الوجهين، وإن كانت العامَّة تقول لأنثى الخيل: حجرة وجمع حجر _بلا تاء_ حجورة بإثباتهَا (وَيُقَالُ لِلْعَقْلِ: حِجْرٌ): كقولهِ تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:5]؛ أي: عَقْل؛ لأنَّه يَعقِل ويَحجر صَاحبَه من الوقوعِ في المكارِهِ (وَحِجًى): بكسرِ الحاءِ وفتحِ الجيم والقصر منوَّناً، وهو في الأصلِ بمعنى: السَّتر، ومنه حديث: ((من باتَ على ظهرِ بيتٍ ليسَ عليه حجًى فقد برئِتْ منه الذِّمَّة)).
          (وَأَمَّا حَجْرُ اليَمَامَةِ): بفتحِ الحاءِ المهملةِ وسكونِ الجيمِ (فَهُوَ مَنْزِلٌ): أي: لثمودَ بينَ الحجَاز واليمن، ذكرهُ البخاريُّ استِطراداً؛ لأنَّه بفتحِ الحاء المهملةِ، نبَّه على هذا في ((الفتح))، ولأبي ذرٍّ: <فهو المنزل> بأل، وقال في ((المنحة)): ((فهو منزل)) أي: منزلُ ثمودَ بناحِيةِ الشَّام عندَ وادِي القرَى، قال: وبتفسيرَي المنزلِ بما ذُكِر حصلت المناسبةُ بين ما ذكره والتَّرجمة، انتهى، وكأنَّه أراد الجواب عن قول شيخه الحافظ ومَن تبعه: إنَّ ذكْرَ هذا استطراداً لأنَّه بفتح أوَّله، فتأمل.
          قال في ((العمدة)): ومِن مكسُور الحاء غير ما ذكره البخاريُّ: حِجر القميص، فإنَّه جاء بالكسر، وفتحُه أفصح، ومنه حِجر الإنسان ففيه لُغتان الكسر والفتح، كما قاله ابن فارسٍ، ويُجمع على حُجُور، قال: وجاء في الحِجر الذي بمعنى: الحرام، الكسرُ والضمُّ والفتح، وقال الجوهريُّ: الكسر أفصحُ، والحجَر _بفتحتين_:معروفٌ واسم رجلٍ أيضاً، ومنه أوس بن حَجَر الشاعر، وأمَّا الحَجْر _بفتح الحاء وسكون الجيم_ فهو مصدر حَجَر القاضي على الشَّخص: منعَه من التصرُّف في ماله، وحُجْر _بضمِّ الحاء وسكون الجيم_ نبتٌ مرٌّ، واسم رجل أيضاً، وهو: حُجْر الكنديُّ الذي يقال: له آكل المرار، وحُجْر بن عديٍّ الذي يقال له: الأدبر، انتهى فتأمَّله.
          تنبيه: قال العينيُّ: وقع في بعض النُّسخ هذا الباب _أعني: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف:73]_ عقب قوله السَّابق: باب قول الله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65]، واستصوبَه بعضهم؛ يعني: الحافظ ابن حجرٍ في ((الفتح))، / قال: ثمَّ أيَّد كلامه بما حكاه أبو الوليد الباجيُّ عن أبي ذرٍّ الهروي أنَّ نُسخة الأصل من البخاريِّ كانت أوراقاً غير محبوكةٍ، فربَّما وُجِدت الورقة في غير موضعِها، فنُسِخت على ما وُجِدت، فوقع في بعض التَّراجم إشكالٌ بحسب ذلك، وإلَّا فقد وقع في القرآن ما يدلُّ على أنَّ ثمود بعد عادٍ، كما أنَّ عاداً بعد قوم نوحٍ، انتهى.
          وقال العينيُّ بعد هذا، قلتُ: الاعتمادُ على هذا الكلامِ ممَّا يستلزمُ سوء التَّرتيبِ بين الأبوابِ، وعدمَ المطابقةِ بينَ الأحاديثِ والتَّراجم معَ الاعتناء الشَّديد في كُتبِ البخاريِّ على ترتيبِ ما وضعَه في تلك الأيَّام، ولا يستلزم وقوع قصَّة ثمود بعدَ قصَّة عادٍ في القرآن عدم لزومِ رعايةِ التَّرتيب فيه، انتهى.