الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسنى الضر}

          ░20▒ (بابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): أي: الواقع في أواخِر سُورة الأنبياء ({وَأَيُّوبَ}): مفعولٌ لمحذوفٍ نحو: واذكر أيُّوب ({إِذْ نَادَى رَبَّهُ}): أي: ربَّ أيُّوب مستغيثاً به ({أَنِّي}): بفتحِ الهمزة؛ أي: بأنِّي، / قال البيضَاويُّ: وقُرئ بالكسرِ على إضمارِ القول أو تضمين النِّداء معناه ({مَسَّنِيَ الضُّرُّ}): وسقطَ لأبي ذرٍّ من قوله: <{أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ...}> إلخ، وقال بعدَ قوله: {رَبَّهُ}: <الآية>، وقرأ حمزة: ▬مَسَّنِي الضُّرُّ↨ بسكون الياء، وقرأ الباقون بفتحها، و{الضُّرُّ} بضمِّ الضَّاد: الضَّرر في البدنِ من مرضٍ وهوان، وبفتحها: الضَّرر في كلِّ أمرٍ.
          وجملة: ({وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]): حاليَّةٌ، تعريض إلى سؤال ربِّه حيث وصفَه بأشدِّ الرَّحمة بعد ذكره نفسه بما يُوجبها، فاكتفَى بذلك عن التَّعريضِ بالمطلوبِ لطفاً في السُّؤال، و{أَيُّوبَ} مفعولٌ لمحذوفٍ نحو: اذكُر، والجملةُ معطوفةٌ على الجملةِ المقدَّرة في قوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78]، وهو ممنوعٌ من الصَّرف للعلميَّة والعجمة.
          وذكرهُ الله تعالى في القرآنِ في خمسة مواضعَ، واختُلِف في نسبهِ فقيل: أيُّوب بن أموص _أو موص بلا همزة_ ابن رزاح بن رومَ بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السَّلام، رُوي هذا عن كعبٍ وابن إسحاق، وقيل: هو أيُّوب بن ساري بن رغوال بن عيصو، وقيل: أيُّوب بن أموص بن زبرح بن رعويل بن عيصو، وقيل: أيُّوب بن رازح بن موص بن عيصو، وقيل غير ذلك، قال العينيُّ: والمشهور الأوَّل.
          قال في ((الفتح)): وزعمَ بعضُ المتأخِّرين أنه من ذرِّيَّة روم بن عيصو، ولا يثبتُ، وحكى ابنُ عساكرَ أنَّ أمَّه بنت لوطٍ عليه السَّلام، وأنَّ أباه كان ممَّن آمن بإبراهيم، وعلى هذا فكانَ قبلَ موسى، وقال ابنُ إسحاق: الصَّحيحُ أنَّه كان من بني إسرائيلَ، ولم يصحَّ في نسبهِ شيءٌ إلَّا أنَّ اسمَ أبيهِ: أمص، وقال الطَّبريُّ: كانَ بعدَ شعيب، وقال ابنُ أبي خيثمةَ: كان بعدَ سليمان، وكان عيصو تزوَّج بشمت بنت عمِّه إسماعيل، فرُزق منها رغوال بغينٍ معجمة، انتهى.
          وقال العينيُّ: والمشهور أنَّه من ذرِّية إبراهيم؛ لقوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ...} [الأنعام:84] الآية، والمشهور أنَّ الضَّمير عائدٌ على إبراهيم دون نوحٍ عليهما السَّلام، وكانت أمُّه من ولدِ لوط بن هاران، وقال ابنُ الجوزيِّ: وأمُّه بنت لوطٍ عليه السلام، وكان أيُّوب في زمن يعقوب، وتزوَّج ابنة يعقوبَ، واسمها: رحمة، وقيل: دنيا، وقيل: ليا، وقيل: إنَّما تزوَّج رحمة بنت ميشا بنِ يوسف بنِ يعقوبَ، وقيل: رحمة بنتَ أفراثيم بن يوسفَ، ومثله في ((الفتح)) وقال: يُقال لها: أمُّ زيد.
          وقال ابن الجوزيِّ في ((التَّبصرة)): كان زمن يَعقوب، ولكن لم ينبَّأ إلَّا بعد يوسف، وقيل: كان بعد سليمان عليه السَّلام، قال الطَّبريُّ وابن الجوزيِّ: كان عمره حين مات ثلاثاً وتسعين سنةً، وقيل: مائةً وستَّة وأربعين سنةً، ودُفن في الموضعِ الذي ذهبَ فيه بلاؤُه، وهو بالشَّام في البثنيَّة فيها بالجولان بقرية يُقال لها: أيُّوب قرب نوى، وقبرُه ظاهرٌ يُزار، وقد زرتُه ولله الحمدُ، ومدحتُه بأبياتٍ من قصيدةٍ مقصُورةٍ حين ذهبنَا لزيارةِ الأهلِ ولزيارتهِ كالنَّوويِّ والشَّيخ سعد المشهور بالأسمر، نفعنا اللهُ ببركاتهِ، وكان معي ولداي رحمني وإيَّاهما مولاي، ومطلعُ القصيدةِ:
رَكِبْنَا ظُهُورَ الخَيلِ نَستَعْذِبُ النَّوَى                     وسِرْنَا سَحِيْراً ذَاهِبِيْنَ إِلَى نَوَى
نَوَى بَلْدَةٌ قَدْ شَرُفَتْ وتَفَاخَرَتْ                     بِيحْيَى النَّوَاوِيِّ حَيْثُ أَخْلَصَ مَا نَوَى
          ومنها قولنا كان الله لنا:
وَمِنْهُ قَصَدْنَا لِلنَّبِيِّ جِوَارَهُ                     لِأَيُّوبَ مَنْ لِلصَّبْرِ قَدْ حَمَلَ اللِّوَا
وَمَنْ أَخْبَرَ الرَّحْمَنُ عَنْهُ بِأَوْبِهِ                     إِلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ جَلَّ عَنْ توَى
وَأَعْطَاهُ فَضْلاً ضِعْفَ مَا قَدْ أَزَالَهُ                     لِرحمَائِهِ مِنْهُ وَذِكْرَى مَنِ اسْتَوَى
          وكان أيُّوب عليه السَّلام رجلاً غنيًّا له خمسمائةِ فدَّان يتبعها خمسمائة أو ستِّمائة عبدٍ، / ولكل عبدٍ امرأةٌ وولد، ولكلِّ فدَّان أتانٌ واحدٌ، ولكلِّ أتان ولدٌ من اثنين أو أكثر، وكان له ثلاثة عشر ولداً، وكان يحبُّ الضِّيفان على طريقة إبراهيم عليهما السَّلام، وكان يكفل الأرامل والأيتامَ، ويحمل المنقطعين، وما كان يشبعُ حتَّى يُشبِع الجائعَ، ولا يَكتسِي حتى يكسوَ العاري.
          وقال البغويُّ: وأعطاه الله أهلاً ومالاً وولداً من رجالٍ ونساء، كان له سبع بناتٍ وثلاث بنين، وقيل: كان له سبع بنين وسبع بناتٍ، وكان برًّا تقيًّا رحيماً بالمساكين، يطعمهم ويكفل الأرامل والأيتامَ، ويُكرم الضَّيفَ، ويبلِّغ ابن السَّبيل، وكان شاكراً لأنعُم الله، مؤدِّياً لحقوقها، منعه الله من عدوِّه إبليس أن يصيبَه بما أصابَ أهل الغنى من الغفلة والتَّشاغل عن أمرِ الله بما له من الدُّنيا.
          وقال هو وغيرُه من المفسِّرينَ والشُّرَّاح: ابتلاه الله تعالى بهلاك أهله وأمواله، فانهدم بيتٌ على أهله وأولاده فماتوا، وسلَّط الله على أمواله فهلكت جميعُها، وابتلاهُ بالمرضِ في ظاهرِ بدنهِ ثمانية عشرة سنةً، وقيل: ثلاثة عشرة سنةً، وقيل: سبعَ سنين وسبعةَ أشهرٍ وسبع ساعاتٍ، رُوي أنَّ امرأتَه ماضرَ بنت ميشا بن يوسف، أو رحمة بنت أفراثيم بن يوسف، قالت له: لو دعوتَ اللهَ، فقال لها: كم كانت مدَّة الرَّخاءِ؟ فقالت: كانت ثمانين سنةً، فقال: أستحي من اللهِ أن أدعوه وما بلغت مدَّةُ بلائِي مدَّةَ رخائِي.
          وقال في ((الفتح)): وقال وهبٌ: ثلاث سنين، وقال الحسن وقتادة: سبع سنين، وقيل: سبعين سنةً، فقد جاء: أنَّ امرأته قالت له: ألا تدعو الله ليُعافيك؟ فقال: قد عشتُ صحيحاً سبعين سنةً، أفلا أصبرُ سبع سنين؟! وروى الطَّبريُّ أن مدَّة عمره كانت ثلاثاً وتسعين سنةً، فيكون عاش بعد أن عُوفيَ عشر سنين، والصَّحيح أنَّه لبث في البلاء ثلاثة عشر سنة، انتهى ما في ((الفتح)) ملخَّصاً.
          وقال القسطلانيُّ: إنَّ اللهَ ابتلاهُ بالمرضِ في بدنهِ، فخرجَ من قَرنه إلى قدمهِ ثآليل مثل أليات الغنم في سائرِ بدنهِ، ولم يبْقَ منه شيءٌ سليم سوى قلبه ولسَانه يذكرُ بهما اللهَ ╡، ووقعَتْ فيه حكَّةٌ لا يملكها، فكان يحكُّ بأظفارهِ حتَّى سقطَتْ كلُّها، ثمَّ حكَّ بالمسوحِ الخشنةِ حتَّى قطعها ثمَّ بالفخَّار والحجَارةِ الخشنةِ حتَّى تقطَّع لحمه، وتساقط حتَّى لم يبق إلَّا العظام والعصب، وتغيَّر وأنتنَ، فأخرجَه أهلُ القريةِ، وجعلوهُ على كنَاسةٍ وجعلوا له عريشاً، ورفضَه النَّاس كلُّهم إلَّا امرأته رحمة بنت أفراثيم بن يوسف، فكانت تُصلِح أمورَهُ، وتختلفُ إليه بما يصلحه، وهو في كلِّ ذلك صابرٌ يحمدُ الله، ويُحسِنُ الثَّناء عليه، ولذا كان عبرةً للصَّابرين، وذكرى للعابدينَ، انتهى.
          وسبقَه إلى ذلك البغويُّ وزاد: فلمَّا رأى ثلاثةٌ من أصحابه _وهم يقن ويلدد وصافر_ ما ابتلاهُ الله به اتَّهمُوه ورفضُوه من غيرِ أن يتركُوا دينه، فلمَّا طالَ به البلاءُ انطلقُوا إليه فبكتُوه ولامُوه، وقالوا له: تُبْ إلى الله تعالى من الذَّنبِ الذي عُوقِبْتَ به، قال: وحضرَ معهم فتًى حديث السِّنِّ قد آمنَ به وصدَّقه، فقال لهم: إنَّكم قد تكلَّمتُم أيُّها الكهول، وكنتُم أحقَّ بالكلامِ منِّي لأسنانِكُم، ولكن قد تركتُم من القولِ أحسنَ من الذي قلتُم، ومن الرَّأي أصوبَ / من الذي رأيتُم، ومِن الأمرِ أجلَّ من الذي أتيتُم، وقد كان لأيُّوب عليكم من الحقِّ والذمَارِ أفضلَ من الذي وصفتُم، فهل تدرون أيُّها الكهول حقَّ مَن انتقصتُم وحرمَةَ من انتهكتُم، ومَن الرَّجل الذي عبتُم واتَّهمتُم؟! ألم تعلموا أنَّ أيُّوب نبيُّ الله وخيرتُه وصفوتُه من أهلِ الأرضِ يومكُم هذا؟! ثمَّ لم تعلمُوا ولم يُطلِعَكُم الله على أنَّه قد سخطَ شيئاً من أمرهِ منذُ آتاهُ اللهُ ما آتاهُ إلى يومكُم هذا، ولا نزع منه شيئاً من الكرامةِ التي أكرمكُم اللهُ بها، ولا أنَّ أيُّوب قال على الله غيرَ الحقِّ طولَ ما صحبتُمُوه إلى يومكم هذا، فإن كان البلاءُ هو الذي أزرَى به عندكم، ووصفه في أنفسِكُم فقد علمتُم أنَّ الله تعالى ابتلا المؤمنين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين، وليس بلاؤُه لأوليائه بدليل سخطهِ عليهم ولا لهُوانه لهم، ولكنَّها كرامةٌ وخيرة لهم، ولو كان أيُّوب ليسَ من اللهِ بهذه المنزلةِ إلَّا أنَّه أخ أحببتُمُوه على وجهِ الصُّحبةِ لكان لا يجملُ بالحكيمِ أن يعذلَ أخاهُ عند البلاء، ولا يعيِّره بالمصيبةِ، ولا يَعيبه بما لا يعلمُ، وهو مكروبٌ حزين، ولكنَّه يرحمه ويبكِي معه ويستغفرُ له، ويحزن بحزنهِ، ويدلُّه على مراشدِ أمرهِ، وليسَ بحكيمٍ ولا رشيدٍ مَن جهلَ هذا، فاللهَ الله أيُّها الكهول، وقد كان في عظماءِ الله وجلاله وذكر الموت ما يقطعُ ألسنتَكُم ويكسر قلوبَكُم.
          ألم تعلموا أنَّ للهِ عباداً أسكتَتْهُم خشيةٌ من غير عمًى ولا بكمٍ؟! وأنَّهم لهُمُ الفصَحاءُ البلغاءُ النُّبلاءُ الألبَّاءُ العالمونَ به، ولكنَّهم إذا ذكرُوا عظمةَ اللهِ انقطعَتْ ألسنتَهُم، واقشعرَّتْ جلودُهُم، وانكسرَتْ قلوبُهم، وطاشَتْ عُقولهم إعظَاماً لله وإجلالاً، فإذا استفَاقُوا من ذلك استبقوا إلى الله بالأعمَالِ الزَّاكيَة، يعدُّونَ أنفسَهُم معَ الخاطئين، ولا يرونَ براءً مع المقصِّرين المفرِّطين، وإنَّهم لأناسٌ أقوياء.
          فقال أيُّوب: إنَّ اللهَ يزرعُ الحكمةَ بالرَّحمة في قلبِ الصَّغير والكبير، فمتى شبَّت في القلبِ يُظهِرها اللهُ على اللِّسانِ، وليست الحكمةُ تكونُ من قِبَل السِّنِّ والشَّيبة، ولا بطولِ التَّجربة، وإذا جعلَ الله العبدَ حكيماً في الصِّبا لم تسقطْ منزلتُه عندَ الحكمَاء، ثمَّ أعرضَ عنهم أيُّوب عليه السَّلام وأقبلَ على ربَّه مستَغِيثاً به متضرِّعاً إليه، فقال: ربِّ لأيِّ شيءٍ خلقتَنِي؟! ليتَنِي إذ كرهتَنِي لم تخلُقْني، يا ليتَ عرفْتُ الذَّنبَ الذي أذنبتُ والعملَ الذي عملت فصرفْتَ وجهَك الكريمَ عنِّي... إلى آخرِ ما قال.
          ثمَّ ذكرَ كلام الرَّبِّ سبحانه له، ومنه: قُمْ فأدلِ بعذرك، وتكلَّم ببراءتك، وخاصِم عن نفسِكَ، واشدُدْ إزارك، وقُم مقام جبَّارٍ يخاصم جبَّاراً إن استطعْتَ، فإنَّه لا ينبغِي أن يخاصمني إلَّا جبَّارٌ مثلي، لقد منَّتْك نفسُك يا أيُّوب أمراً ما يبلغ بمثل قومك، أين أنت منِّي يوم خلقتُ الأرضَ ووضعتها على أساسِهَا؟ هل كنت معي تمدُّ أطرافها؟ هل علمت بأيِّ مقدارٍ قدَّرتها، أم على أيِّ شيءٍ وضعتُ أكنافَها؟ أبطاعتِكَ حمل الماءُ الأرضَ، أم بحكمتِكَ كانت الأرضُ للماء غطاءً؟ أين كنتَ يوم رفعتُ السَّماء سقفاً في الهوَى لا يعلقُ بسببٍ من فوقها ولا يقلُّها دعمٌ من تحتها؟ هل يبلغُ من حكمتك أن تجرِي نورها / أو تسيِّر نجومَها أو يختلف بأمركَ ليلها ونهارُها.
          إلى غير ذلك من كلامٍ كثيرٍ من آثارٍ قدرتهِ ذكرَها تعالى لأيُّوب، فقال أيُّوب: صغُرَ شأني وكَلَّ لسَاني وعقلِي ورأيي، وضعُفَتْ قوَّتي، إلهِي قد علمتُ أنَّ كلَّ الذي ذكرتَ صُنعَ يديكَ، وتدبيرَ حكمتِكَ، وأعظمُ من ذلك وأعجبُ، لو شئتَ عملتَ لا يحجرُك شيءٌ، ولا يخفَى عليك مني خافيةٌ، إلهي قد تكلَّمت ولم أتملَّك، وكان البلاءُ هو الذي أنطقَني، فليتَ الأرضَ اتَّسعَتْ لي فذهبتُ فيها ولم أتكلَّم بشيءٍ يُسخِط ربِّي، وليتني بغمِّي في أشدِّ بلائي قبل ذلك، إنَّما تكلَّمْتُ حين تكلَّمتُ لتعذرني، وسكتُّ حين سكتُّ لترحمَني، أعوذُ بكَ اليوم منكَ، وأستجيرُكَ من جهدِ البَلاء فأجرني، وأستغيثُ بك من عقَابكَ فأغثني، وأتوكَّل عليكَ فاكفنِي، وأعتصمُ بكَ فاعصمْنِي، وأستغفرك فاغفرْ لي فلن أعودَ لشيءٍ تكرهه منِّي.
          قال اللهُ تعالى: يا أيُّوب [نفذَ فيكَ] علمِي وسبقَتْ رحمتِي غضَبِي، فقد غفرْتُ لكَ ورددْتُ عليكَ أهلكَ وولدَكَ ومثلهم معهم؛ لتكونَ لمن خلفَكَ آيةً، وتكون عبرةً لأهل البلاء وعزاءً للصَّابرين، فاركضْ برجلِكَ هذا مغتسلٌ باردٌ وشرابٌ، فيه شفاؤك، وقرِّب عن أصحابك قُرباناً فاستغفر لهم، فإنَّهم قد عصَوني فيكَ، فركضَ برجلِهِ فانفجرَتْ له عينٌ، فدخلَ فيها فاغتسَلَ، فأذهبَ اللهُ كلَّ ما كانَ به من البلاءِ، ثمَّ خرجَ فجلسَ، فأقبلت امرأتُهُ تلتمسُهُ في مضجعِهِ فلم تجدْهُ، فقامَتِ كالوالهِ متبدِّدةً، ثمَّ قالت: يا عبدَ اللهِ، هل لك علمٌ بالرَّجلِ المبتلَى الذي كان هاهنا؟ قال: نعم، وما لي لا أعرفُهُ، فتبسَّمَ وقال: أنا هو، فعرفته بمضحَكهِ فاعتنقتْهُ.
          قال ابن عبَّاسٍ: فوالذي نفس عبدِ الله بيدِه، ما فارقتهُ من عناقهِ حتَّى مرَّ بهما كلُّ مالٍ لهمَا وولدٍ، وذلك قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83].
          واختلفُوا في السَّببِ الذي قالَ لأجلهِ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} فقيل: ما مرَّ من قولِ الذين كانُوا على طريقهِ، وأنَّهم عنَّفوهُ فدعا حينئذٍ بما ذكرَ، وقيل: لطولِ البلاءِ عليه كما تقدَّم، وقيل: لأنَّه خافَ على امرأتهِ أن يفتنَها إبليسُ عن دِينهَا، فقد جاءَ أنَّ إبليسَ قال لامرأة أيُّوب: لو أنَّ صاحبَك أكلَ طعاماً، ولم يُسَمِّ الله تعالى لعوفي ممَّا به، وقيل: لِما في بعضِ الكتب الإسرائيليَّات أنَّ إبليسَ قال لها: اسجُدي لي سجدةً حتى أردَّ عليكِ المال والأولاد وأعافي زوجَك، فرجعت إلى أيُّوب فأخبرته بما قال لها إبليس، فقال لها أيُّوب: لقد أتاكِ عدوُّ الله إبليس ليفتنَك عن دينك، ثمَّ أقسم إن عافاه الله ليضربنَّها مائة، فقال عند ذلك: ربِّ أنِّي مسَّني الضُّرُّ؛ أي: مِن طمع إبليس فيه وفي امرأته، وقيل: إنَّ إبليس اتَّخذ تابوتاً وجعل فيه أدويةً، وقعد على طريق امرأته يداوي النَّاس، فمرَّت به امرأة أيُّوب فقالت له: إنَّ لي مريضاً أفتداويه؟ قال: نعم، ولا أريد إلَّا أن يقول إذا شفيته: أنت شفيتَني، فذكرته لأيُّوب فقال: هو إبليس، قد خدعك، وحلف إن شفاه الله ليضربنَّها مائة جلدةٍ، ثمَّ إن الله تعالى رحم امرأة أيُّوب بصبرها معه على البلاء، وخفَّف عنها، وأراد أن تبرَّ يمينه.
          (فأَمَرَهُ أنْ يَأخُذَ ضِغْثاً): مشتملاً على مائةِ شمراخٍ فيضربها به ويبرَّ يمينَه، وقيل: لأنَّه رأى دودةً وقعت من فخذه فردَّها إلى موضعها، وقال: كُلي، قد جعلني اللهُ طعامك، فعضَّته عضَّةً زاد ألمها على جميع ما قاسى من عضِّ الدِّيدان، فدعا الله حينئذٍ، / وقال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وليس هذا شكايةً بل دعاء، على أنَّ المحظورَ الشِّكاية إلى الخلقِ لا إلى الخالقِ تعالى، كما قال يعقوبُ: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]، وقد وصفَه الله تعالى بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44]، واستجابَ دعاءَهُ بقوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء:84]، رُوي أنَّه لمَّا قال له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص:42] الآية ضربَ بها الأرض فنبعت عينُ ماءٍ، فاغتسلَ منها، فذهبَ جميعُ ما في ظاهرِ جسدِهِ، ثمَّ مشى أربعين خطوةً، فأمره أن يضرب برجله الأرض مرَّةً أخرى، فنبع عين ماءٍ بارد، فشرب منها، فذهب كلُّ داءٍ كان بباطنه {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} [الأنبياء:84]، قال أكثر المفسِّرين: ردَّ الله إليه أهله وأولاده بأعيانهم أحياهُم الله وأعطاهم مثلَهم معهم، وهذا ظاهر القُرآن، وقال بعض المفسِّرين والحسَن: آتاه المثل من ماله.
          ({ارْكُضْ}: اضْرِبْ): يريد تفسيرَ {ارْكُضْ} من قوله تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص:42] بـ((اضرب))، قال في ((القاموس)): الرَّكض: تحريك الرِّجل، ومنه: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ}، انتهى، قال في ((الفتح)): روى ابن جريرٍ عن قتادة في قوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} قال: ضرب برِجله الأرضَ فإذا عَينان تنبعان، فشربَ من إحداهما واغتسلَ من الأخرى، قال العينيُّ: أشار إلى ما في قولِه تعالى في قصِّة أيُّوب عليه السَّلام: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}، المعنى: اضرب برجلك الأرضَ، وفيه إضمارٌ تقديره: فركضَ فنبعَت عينٌ، فقيل: هذا مغتسلٌ؛ أي: هذا ماءٌ مغتسَلٌ باردٌ وشراب؛ أي: ماءٌ يُغتَسل به ويُشرَب منه، ولمَّا أمره الله تعالى بذلك ركض برجله الأرض فنبعت عينُ ماءٍ، فاغتسل فيها، فلم يبقَ عليه شيءٌ من الدَّاء، وعاد إليه شبابه وجماله أحسنَ ما كان، ثمَّ ضرب برجله فنبعَت عينٌ أخرى، فشرِب منها فلم يبقَ في جوفه داءٌ إلَّا خرج، فقام صحيحاً وكُسِي حلَّةً.
          وقال السدِّيُّ: جاءه جبريل عليه السَّلام بحلَّةٍ من الجنَّة فأُلبِسها، وإنَّما لم يكتف بركضةٍ واحدة؛ لأنَّ الأولى لزوال الضَّرر بالاغتسال منها، والثَّانية للفرح والطَّرب بالعافية بشربه منها، وخصَّ الرِّجل بالرَّكض؛ لأنَّ العادة جاريةٌ بأن ينبع الماء من تحت الرِّجل، فكان ذلك معجزةً له
          ({يَرْكُضُونَ}: يَعْدُونَ): بفتح التَّحتيَّة أوَّله وسكون العين المهملة، فسَّر المصنِّف به {يَرْكُضُونَ} من قوله تعالى في أوَّل سورة الأنبياء: {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء:12]، وفسَّره الفرَّاء بيهربون، وأخرج الطَّبريُّ عن مجاهدٍ في تفسير قوله: {لَا تَرْكُضُوا} [الأنبياء:13] اليوم؛ أي: لا تفرُّوا، قال العينيُّ: وجه ذكر هذا كون {ارْكُضْ} و{يَرْكُضُونَ} من مادَّةٍ واحدة.