الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب قول الله تعالى: {وإن يونس لمن المرسلين}

          ░35▒ (باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): ثبتَ لفظَ: <باب> في ((اليونينيَّة)) وسقطَ فقط من فرعِهَا، وفي بعضِ الأصُولِ: <باب قولِ اللهِ تعالى: ({وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى قوله {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:139-148]> وفي بعضِ الأصُولِ: <{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} إلى قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات:139-142]> ووقعَ في بعض الأصُولِ: <{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}> وذكر الآيات إلى قوله: <{وَهُوَ مُلِيمٌ}> ولام {لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} للتَّأكيد، و{مِنَ الْمُرْسَلِينَ} متعلِّق بمحذوفِ خبر لأن، ولا يحتاجُ لقولِ القسطلانيِّ خبراً لمحذوفٍ، فتأمَّل والجملة خبر ((إنك)) والمراد: إنَّه لمن المرسلين حتى وقتَ كونِهِ في بطنِ الحوتِ، ويونسُ فيه ستُّ لغاتٍ مثل يوسف، والمقر به بضمَّ النون في السَّبعِ، وقُرئ في الشَّواذِّ بكسرِها، هو ابن مَتَّى _بفتحِ الميمِ وتشديدِ التاء_ مقصُوراً اسمُ أبيه على الصَّحيحِ كما تقدَّم وسيأتي، لا اسمُ أمِّه كما وقعَ لعبدِ الرَّزَّاق في ((تفسيره))، قال في ((الفتح)): ولم أقفْ في شيءٍ من الأخبارِ على اتصالِ نسبِهِ، وقد قيل: إنَّه في زمنِ ملوكِ الطَّوائفِ من الفرسِ، انتهى.
          وفي العينيِّ: قيل: إنَّه من بني إسرائيل، وإنَّه من سبطِ بنيامين، وعلى القولِ بأنَّ متَّى أمَّه، قيل: لم يشتهرْ نبيٌّ بأمه غير يونسَ وعيسى عليهما السلام.
          وقال العزيزيُّ: كان متى رجلاً صالحاً من أهل بيتِ النبوَّة ولم يكن له ولدٌ ذكرٌ، فقامَ إلى العينِ التي اغتسلَ فيها أيوبُ فاغتسلَ هو وزوجتُه منها وصلَّيَا ودعوا الله تعالى أن يرزقَهُما الله رجلاً مباركاً فيبعثُه الله في بني إسرائيلَ فاستجابَ اللهُ دعاءهما ورزقَهُما يونسَ، وتوفِّي متى ويونسُ في بطنِ أمِّه وله أربعةُ أشهرٍ، وذهبَ جماعةٌ إلى أنَّ نبوَّته بعد خروجِهِ من بطنِ الحوتِ، وقال كثيرون: كان يونسَ من أهلِ قريةٍ من الموصلِ، يقال لها: نينَوى، وكان قومُه يعبدونَ الأصنامَ، وروي عن عليِّ بن أبي طالب ☺ أنَّه قال: بعَثَ اللهُ يونسَ بن متَّى إلى قومِهِ، وهو ابنُ ثلاثينَ سنة فأقامَ فيهم يدعوهُم إلى الله تعالى ثلاثاً وثلاثين سنةً فلم يؤمنْ به إلَّا رجلانِ / أحدُهما: روبيل، وكان عالماً حكيماً، والآخرُ: تنوخاً، وكان زاهداً عابداً، وقوله: ((إلى قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ})) متعلِّق بنحو: اقرأ منتهياً، والذي بينَه وبينَ صدرِ الآية: {إذ أبق}... الخ.
          فقوله: {إذْ أَبْقَ} أي: هربَ، وأصله الهربُ من السيد لكن لمَّا كان هربُه من قومهِ بغيرِ إذنِ ربه حسنَ إطلاقُه عليه {إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي: المملوء {فَسَاهَمَ} أي: فقارعَ أهله {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} أي: فصارَ من المغلوبينَ بالقرعةِ، وأصلُه المزلفُ عن مقامِ الظَّفر، روي أنَّه لما وعدَ قومَه بالعذابِ خرجَ من بينهِم قبلَ أن يأمرَه الله تعالى به فركبَ السَّفينة فوقفَتْ فقالوا: هنا عبدٌ آبقٌ فاقترَعوا فخرجَتْ القرعةُ عليه، فقال: أنا الآبقُ فرمَى نفسَه في الماء {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} أي: فالتقمَه من اللُّقمةِ، {وَهُوَ مُلِيمٌ}؛ أي: داخلٌ في الملامةِ أو آتٍ بما يلامُ عليه أو مليمٌ نفسَه، وقال الطبريُّ: المليمُ هو المكتسبُ اللَّوم، وقرئ بالفتحِ مبنياً من لَيم كمَشيب من مَشوب، وقوله: قال مجاهدٌ: مذنب تفسير لمليم رواهُ ابن جرير عن مجاهدٍ، والمرادُ بفعلِه خلافَ الأولى.
          ({المَشْحُونُ}) هو بالحاءِ المهملةِ (المُوقَرُ) بفتحِ القافِ المخفَّفة؛ أي: المملوء هذا تفسيرُ ابنِ عباسٍ، وفسَّره مجاهدٌ بالمملوءِ وهما بمعنى، وقيل: معنى الموقرِ المجهز ({فلَولَا أنَّهُ}) أي: يونس ({كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} الآية)، وفي بعضِ الأصُولِ حذف: <الآيةِ>، وذكر {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:144] بدلها والمرادُ بالمسبِّحينِ الذَّاكرينَ اللهَ كثيراً بالتَّسبيحِ مطلقاً أو في بطنِ الحوتِ وهو قولُه: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] وقيل: المرادُ بالمسبِّحينَ المصلِّين، قال النَّسفيُّ: الظاهرُ لبثُه حياً إلى يوم القيامة، وقال قتادةُ: لكانَ بطنُ الحوتِ قبراً له إلى يوم القيامةِ، وكان لبثُه في بطنِ الحوتِ أربعينَ يوماً، وقال الضحَّاك: عشرين يوماً وقال عطاء: سبعةَ أيام، وقيل: ثلاثةَ أيام، وعن الحسنِ البصريِّ: لم يلبثْ إلا قليلاً، ثمَّ أخرجَ من بطنِهِ بعيدَ الوقت الذي التقمَ فيه، وقيل: التقمَهُ ضحى ولفظه عشيَّة.
          ({فَنَبَذْنَاهُ}) أي: فطرحنَاهُ، نسبَ تعالى النَّبذَ لنفسِهِ مع أنَّه بفعلِ الحوتِ إيذاناً بأنَّ فعل العبد مخلوقٌ له تعالى وباعتنائهِ تعالى بيونس ({بالعَرَاءِ}) بفتحِ العينِ والمدِّ، قوله: (بوَجهِ الأَرضِ) تفسيرٌ للعراءِ، وهذا معنى قولِ قتادةَ: هو ظهرُ الأرضِ، وقال الأخفشُ: هو الفضَاءُ، وقال السُّديُّ: هو السَّاحل، وقال الفرَّاء: العراءُ: المكانُ الخالي، وقيل: العراءُ الأرضُ الخاليةُ من الشَّجر والنباتِ، ومنه قيل للمُتَجرِّد: عريان، قال الشَّاعر:
وَنَبَذْتُ بالبَلدِ العَرَاءِ ثِيابِي
          واختلفَ في تعيينِ الموضعِ الذي نبذَ فيه فقيلَ على جانبِ دجلةَ، وقيل: بأرضِ اليمنِ، وقيل: بإسكندريَّة مصرَ، وفي ((تفسير الشُّربيني)): ثمَّ إن الحوتَ خرجَ إلى نيل مصرَ، ثمَّ إلى بحرِ فارسَ، ثمَّ إلى البطائحِ، ثمَّ إلى دجلةَ وصعدَ به ورماهُ في أرضِ نصيبين، وقال: ورويَ أن يونسَ لما ابتلعَهُ الحوتُ ابتلعَهُم حوتاً آخرُ أكبر منه.
          وجملة: ({وَهُوَ سَقِيمٌ}) حاليَّة؛ أي: عليل ممَّا حصلَ له، قيل: صارَ بدنُه كبدنِ الطِّفلِ، وقيل: كالفرخِ الممعوطِ، وقيل: بليَ لحمُه ورقَّ عظمُه فلم يبقَ له قوَّة ({وأنبَتنَا علَيهِ}) أي: على يونسَ، قال البَغويُّ: أي: أنبتنا له، وقيل: عندَه ({شجرةً}) أي: واحدةُ الشَّجرِ، وتجمعُ أيضاً على أشجارٍ وهو ما له ساقٌ صلبٌ يقومُ به كالنَّخلِ وغيرهِ، قاله في ((المصباح)).
          ({مِن يَقطِينٍ}) صفةُ شجرةٍ (مِنْ غَيْرِ ذَاتِ أَصْلٍ) يعني: مِن غيرِ سَاقٍ / بل ينبسِطُ على وجهِ الأرضِ، وبهذَا التَّفسيرِ يندفِعُ قولُ البرمَاويِّ: صوابُه: غير ذات ساقٍ.
          واستشكلَ تسميةَ اليقطينِ شجراً؟ وأُجيبَ بأنَّ اللهَ تعالى جعلَ لها سَاقاً على خلافِ العادةِ معجزةً ليونس.
          (الدُّبَّاءِ) بالمدِّ مجرورٌ بدلٌ من يقطين لا عطفُ بيانٍ له، كما قالَ القسطلانيُّ، ويجوزُ رفعُه خبراً لمحذُوفٍ، وكذا نصبُه، قاله العينيُّ وليسَ بمضافٍ إليه.
          (وَنَحْوِهِ) أي نحو اليَقْطينِ كالقثَّاء والبطيخِ، وقال البَغويُّ: اليقطينُ القرعُ عندَ جميعِ المفسِّرين، وقال الحسنُ ومقاتل: كلُّ نبتٍ يمتدُّ وينبسطُ على وجهِ الأرضِ ليسَ له ساقٌ، ولا يبقَى على الشِّتاءِ نحو: القرعِ والقثَّاء والبطيخِ فهو يقطينٌ، انتهى.
          وقال سعيدُ بنُ جُبيرٍ: هو كلُّ نبتٍ ينبتُ ثمَّ يموت في عامِهِ، وقيل: هو يفصلُ من قطَنَ بالمكان أقامَ به إقامَةَ زائلٍ لا إقامةَ ثابتٍ، ومن خوَاصِّ اليقطينِ أنَّ الذُّبابَ لا يقرَبهُ، وقيل لرسولِ الله صلعم إنَّك لتحبُّ القرعَ؟ قال: ((أجَلْ هي شجرةُ أخِي يونس))، وقيل: هي التِّينُ، وقيل: شجرةُ الموز يغطَّى بأوراقِها ويستظلُّ بأغصَانها، ويفطرُ على ثمارها.
          وفي البَغويِّ: قال مقاتلُ بن حيَّان: كان يونسُ يستظلُّ بالشَّجرةِ، وكانتْ وعلةٌ تختلفُ إليهِ فيشربُ من لبنهَا بكرةً وعشيَّة حتى اشتدَّ لحمُه ونبتَ شعرهُ وقوي، فنامَ نومةً فاستيقَظَ، وقد يبسَتْ الشَّجرةُ فحزنَ حزناً شديداً، وأصَابهُ أذى الشَّمسِ، فجعلَ يبكِي فبعثَ الله إليهِ جبريلَ، وقال: أتحزنُ على شَجرةٍ ولا تحزنُ على مائةِ ألفٍ من أمَّتك وقد أسلمُوا وتابُوا، أردتَ أن تهلكَهُم.
          قال: فإن قيل: قال هاهنا: {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ} [الصافات:145] وقال: في موضع آخرَ {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم:49] فهذا يدلُّ على أنَّه لم ينبذْ.
          قال: ((لولا)) هناك ترجعُ إلى الذمِّ والمعنى: لولا نعمةٌ من ربِّه لنبذَ بالعراءِ وهو مذمومٌ، ولكن تداركَتْه النِّعمةُ فنبذَ وهو غير مذمومٍ.
          ({وأرسَلنَاهُ إلَى مائَةِ ألفٍ}) هم أهلُ نينوى الذين هربَ منهم من أهلِ الموصلِ قبلَ أن يصيبَه ما أصابَه، وهذه الجملةُ معطُوفةٌ على ما قبلهَا، أو حاليَّة، فتقتَضِي أن يكون مرسلاً قبلَ التِقَامِ الحوت لهُ قال البَغويُّ: وقيل: كان إرسَاله إليهم بعد خروجِهِ من بطنِ الحوتِ، وقيل: إلى قومٍ آخرين ({أو يَزيدُونَ}) أي: بل يزيدونَ فـ{أو} بمعنى: بل، وقيل: {أو} بمعنى الواو، كقوله تعالى: {عُذْراً أَوْ نُذْراً} [المرسلات:6] وقيل: أو للشَّكِّ في تقديرِ المخلوقين وظنِّهم، واختلفَ في مقدارِ الزيادةِ، فقال ابنُ عبَّاسٍ ومقاتل كانت عشرين ألفاً، وقال الحسنُ والربيعُ: بضعٌ وثلاثون ألفاً، وقال سعيدُ بنُ جُبير: سبعينَ ألفاً.
          ({فَآَمَنُوا}) أي: قومُ يونسَ بعدَ معاينةِ العذابِ بما جاءَ به يونسَ ({فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:148]) أي: إلى أجلهم المسمَّى، وسقطَ لغير أبي ذرٍّ قوله: <إلى قوله: {وَهُوَ مُلِيمٌ}> إلى آخر قوله: <فَآَمَنُوا> ({وَلَا تَكُنْ}) أي: يا محمَّد.
          ({كَصَاحِبِ الْحُوتِ}) إضَافةً إليه لابتلاعهِ لهُ، فالمرادُ به يونسُ عليه السَّلام؛ أي: ولا تكنْ مثله في الضَّجرِ والعَجَلةِ والغضَبِ ({إِذْ نَادَى}) أي: في بطنِ الحوتِ؛ لقوله: ({وَهُوَ مَكْظُومٌ}) والجملة حاليَّة (كَظِيمٌ) يعني: أن {مَكْظُومٌ} بمعنى: كظيم، وقوله: (وَهُوَ مَغْمُومٌ) / بالغينِ المعجمةِ، من الغمِّ، وتفسيرُ {مَكْظُومٌ} بكظيمٍ لفظيٌّ، وبمغمومٍ معنويٌّ، وقيل: محبوسٌ عن التُّصرُّف، وسقطَ لفظ: <وهو> من بعضِ النُّسخِ، وحاصلُ قصَّة يونسَ عليه السَّلام الواقعةِ له مع قومهِ أنَّ الله بعثهُ إلى أهلِ نينَوى _بكسر النون الأولى_ قريةٌ من قُرى الموصِلِ فدَعاهُم إلى توحيدِ اللهِ وطاعتِه فكذَّبوه فوعَدهُم بنزولِ العَذابِ في وقتٍ معيَّن ففارقَهُم إذ لم يتُوبوا فلمَّا دنا الموعدُ غيَّمَتِ السَّماء أسودَ ذا دخانٍ شديدٍ، فهبطَ الغيمُ حتى غشيَ مدينتَهم فخافُوا فطلبوا يونسَ فلم يجدوهُ فأيقنوا بصدقهِ فلبسوا المسوحَ وبرزوا إلى الصَّعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهِم وفرَّقوا بينَ الوالدة وولدِها فحنَّ بعضها إلى بعض وعَلَتِ الأصواتُ وارتفعَ العجيجُ وأخلصُوا التَّوبة وأظهرُوا الإيمانَ وتضرَّعوا إلى اللهِ تعالى فرحمهُم وكشفَ عنهم وأمَّا يونسُ فلم يعرِفْ أنه كذَّبهم فغضبَ من ذلك وذهبَ يمشِي، حتى ركبَ مع قومٍ في سفينةٍ فوقفَتْ السفينةُ، فقال لهم يونسُ إنَّ معكم عبداً آبق من ربِّه، وإن السَّفينةَ لا تسيرُ حتى تلقوهُ، فاقترعُوا فخرجَتْ القرعةُ عليه، فعلوا ذلك ثلاثَ مرَّاتٍ، فقال: إني أنا الآبقُ فرمَى نفسَه في البحرِ وزجَّ فيه حتى التَقَمهُ الحوتُ وبلغَ به قرارَ أرض البحرِ، وأوحَى الله إلى ذلك الحوتِ لا تأكلْ له لحماً ولا تهشمْ له عظماً، فإنَّه ليسَ لك رزقاً وإنَّما بطنك له سجناً، فلمَّا انتهى بهِ إلى قعرِ البحر سبَّحَ الله تعالى، وفي روايةٍ سمعَ تسبيحَ الحصى فسبَّحَ اللهَ ونادى في الظُّلماتِ ظلمةِ بطنِ الحوتِ، وظلمةِ البحرِ، وظلمةِ الليلِ، فقال: لا إله إلا أنت سبحانكَ إني كنتُ من الظَّالمينَ.
          وروى ابنُ أبي حاتمٍ عن ابن مسعودٍ بإسنادٍ صَحيحٍ إليه نحو ذلك، وفيه: وأصبحَ يونس فأشرفَ على القريةِ فلم ير العذابَ وقعَ عليهم، وكان في شريعتِهِم أنَّ من كذَّب قُتِلَ فانطلقَ مغاضباً حتى ركبَ سفينةً القصَّة.
          وفي البَغويِّ: قال ابنُ عبَّاسٍ ووهب: كان يونس وعدَ قومَه العذابَ فلمَّا تأخَّرَ عنهم العذابَ خرجَ كالمشُورِ منهم فقصَدَ البحرَ فركبَ في سفينةِ فاحتبسَتِ السَّفينةُ فقال الملَّاحونَ: هاهنا عبدٌ آبق من سيِّده فاقترعُوا فوقعَتِ القرعةُ على يونسَ فاقترعُوا ثلاثاً، فوقعَتْ على يونسَ، فقال يونسُ: أنا الآبقُ وزجَّ في الماء، قال: وروي في القصَّة أنَّه لما وصلَ إلى البحرِ كانت معه امرأتُه وابنان له فجَاءَ مركبٌ، وأرادَ أن يركبَ معهم فقدَّمَ امرأتَهُ ليركبَ بعدَها فحالَ الموجُ بينه وبينَ المركبِ وذهبَ المركبُ ثمَّ جاءتْ موجةٌ أخرى فأخذَتْ ابنَه الأكبرَ وجاءَ ذئبٌ فأخذَ ابنهُ الأصغرَ فبقيَ فريداً، فجاءَ مركبٌ آخر فركبَ فيه فقعدَ ناحيةً من القومِ، فلمَّا مرَّت السَّفينة في البحرِ ركدَتْ فاقترعُوا؛ أي: فخرجَتِ القُرْعةُ عليه فزجَّ نفسَه في البحرِ فأخذَهُ الحوتُ وابتلعَهُ ونزلَ به إلى قعرِ البحرِ، فظنَّ أنَّه قد مات فحرَّك رجليهِ فتحرَّكَتا فسجدَ مكانَه ولما انتهَى به إلى أسفلِ البحرِ سمعَ يونس حنيناً فقال: ما هذا فأوحَى اللهُ إليه هذا تسبيحُ دوابِّ البحرِ فسبَّحَ فسمعتِ الملائكةُ تسبيحَه، فقالوا: يا ربنا إنَّا نسمعُ صوتاً ضعيفاً بأرض غريبةٍ، قال: فذلك عبدي يونس عصَاني فحبستُه في بطن الحوتِ فشفِعوا له فأمرَ اللهُ / الحوتَ فقذَفه في السَّاحلِ وهو كهيئةِ الفرخِ الممعوطِ الذي ليسَ عليهِ ريشٌ.
          قال أبو هريرة: وهِبَ له أرويةٌ وحشيةٌ تأكلُ من خشَاشِ الأرضِ، فتفسخَ عليه فترويهِ من لبنها بكرةً وعشيَّة، كما تقدَّم.