الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب طوفان من السيل

          ░26▒ (بَابٌ، طُوفَانٌ): أي: في قولهِ تعَالى في الأعرافِ: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} [الأعراف:133] الآية؛ أي: (مِنَ السَّيْلِ): أي: الطُّوفان من كثرةِ الأمطارِ، وفي نسخةٍ: <باب طوفان من السَّيل> بإضافة ((باب)) إلى ((طوفان))، وقال في ((الفتح)) بعد ذكر ((باب)): كذا لهم بغيرِ ترجمةٍ، وهو كالفصلِ ممَّا قبله وتعلُّقه به ظاهرٌ، وسقطَ جميعُه من رواية النَّسفيِّ، انتهى.
          وقال العينيُّ: ليس قوله: ((طوفان من السَّيل)) بترجمةٍ، وإنَّما هو كالفصلِ من قوله، انتهى فتدبَّر.
          (ويُقَالُ لِلْمَوْتِ الكَثِيرِ): أي: المتتابع (طُوفَانٌ) وقال شيخُ الإسلام: وفسَّره غير المصنِّف: بكثرةِ الأمطارِ المغرقة المُتلِفة للزَّرع والثِّمار، وبكثرةِ الموتِ، وبالماء، والطَّاعون، وقال البيضَاويُّ: وقيل: الجدري، وقيل: الموتان.
          (القُمَّلُ): بضمِّ القاف وتشديد الميم فلام، قال الكرمانيُّ: دُوَيبةٌ من جنس القردان إلَّا أنَّها أصغر منها تركب البعير عند الهزال (الحَمْنَانُ): مبتدأٌ وخبرٌ، وهو بفتحِ الحاء وسكونِ الميم ونونَين بينهما ألفٌ (يُشْبِهُ صِغَارَ الحَلَمِ): بفتحِ الحاءِ المهملةِ واللَّام، وهو القرادُ العظيمُ، وقال في ((القاموس)): الحمْنُ والحَمْنانُ: صغار القردان، واحدهما بهاء، وأرضٌ محمَنَةٌ ومحمنٌ كثيرته.
          وعبارة ((الصِّحاح)): الحَمنة _بالفتح_:اسمُ امرأةٍ، والحمنانةُ قرادٌ، قال الأصمعيُّ: أوَّله قَمقَامةٌ صغيرة جدًّا ثمَّ حمنانة، ثمَّ قراد، ثمَّ حلمة، ثمَّ عَلٌّ وطلحٌ، انتهى.
          وفسَّر غيرُ البخاريِّ ((القُمَّل)) بالسُّوس الذي يخرجُ من الحنطَةِ، وبالبراغيثِ.
          ({حَقِيقٌ} [الأعراف:105]): قال أبو عُبيدة: (حَقٌّ): وهذا على قراءة تشديد ▬عَلَيَّ↨، وقوله: ({سُقِطَ}): أي: في قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف:149]، وفسَّره المصنِّف بقوله: (كُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ سُقِطَ فِي يَدِهِ): قال في ((القاموس)): وسُقِط في يده وأُسقِطَ مضمومتَين: زلَّ وأخطأ وندم وتحيَّر، فإنَّ النادم المتحيِّر يعضُّ يده غمًّا فتصير يده مسقوطاً فيها؛ لأنَّ فاه قد وقع فيها؛ وقيل: مِن عادة النَّادم أن يُطأطئ رأسه ويضع ذقنه على يده معتمداً عليها ويصير على هيئةٍ لو نُزِعت يدُه لسُقط على وجهه، فكأنَّ اليد مسقوطٌ فيها، ومعنى ((في)): على، فمعنى {فِي أَيْدِيهِمْ}: على أيديهم، وهذه اللَّفظة قد اضطربَتْ أقوالُ أهل اللُّغة في أصلها.
          فقال أبو مروان بن سراج اللُّغويُّ: قول العربِ سقطَ في يدهِ ممَّا أعياني معناه، وقال الواحديُّ: لم أرَ لأهل اللُّغة شيئاً في أصلهِ وحدِّه أرتضيه إلَّا ما ذكره الزَّجَّاج أنَّه بمعنى ندم، وأنَّه نظمٌ لم يُسمَعْ قبل القرآن، ولم تعرفْه العربُ ولم يوجَدْ في أشعَارها، ويدلُّ على صحَّةِ ذلك أنَّ شعراء الإسلام لمَّا سمعُوا هذا النَّظم واستعمَلوهُ في كلامِهِم خفيَ عليهم وجه الاستعمالِ؛ لأنَّ عادتهم لم تجرِ به، قال أبو نوَّاس:
وَنَشْوَةٌ سُقِطْتُ مِنْهَا فِي يَدِي
          وأبو نوَّاس هو العالم النِّحريرُ، فأخطأَ في استعمالِ هذا اللَّفظ لأنَّ فُعِلْت لا يُبنَى إلَّا من فعلٍ متعدٍّ، وسقط لازمٌ لا يتعدَّى إلَّا بحرفٍ، لا يقال: سُقِطْت، كما لا يقال: رُغِبْتُ، وإنَّما يقال: سقط / في كذا ورغب في كذا، غير أنَّ سُقِط لا يستعمل إلَّا مبنيًّا للمفعول، وقال أبو حاتمٍ: سقط فلانٌ في يدهِ بمعنى ندمَ، وهو خطأٌ، كقول أبي نوَّاس المذكور: ولو كان كذلك لكان لفظ القرآن الشَّريف: ولمَّا سُقِطوا في أيديهم، كذا نقله ابنُ عادل في ((اللُّباب))، فتأمَّل.
          وقال في ((الصِّحاح)): وسُقِطَ في يدِه؛ أي: ندمَ، ومنهُ قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف:149]، وقال الأخفش: وقرأ بعضهم: ▬سَقَط↨ كأنَّه أضمرَ النَّدمَ، وجوَّز أسقطَ في يديهِ، وقال أبو عَمرو وأحمد بنُ يحيى: لا يقال: أُسقِطَ بالألفِ على ما لم يسمَّ فاعله، انتهى.