الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

باب: {فلما جاء آل لوط المرسلون. قال إنكم قوم منكرون}

          ░16▒ (بابٌ): بالتَّنوين، هذا البابُ بتفسيره، وحديثه ثابتٌ في أصلِ ((اليونينيَّة)) وفرعها لأبي ذرٍّ عن الحمويِّ والمستمليِّ، وقال في ((الفتح)): هذه التَّفاسير وقعَتْ / من روايةِ المستمليِّ وحدَه، وسقطَ من بعضِ الأصُولِ ({فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ المُرْسَلُونَ}): أي: الملائكةُ المرسَلون من عند الله بعذاب قومٍ مجرمين، وهم قوم لوطٍ، ولم يعرفوهم أنَّهم ملائكةٌ، و{آلَ لُوطٍ} بالنَّصب مفعولٌ مقدَّمٌ على الفاعل، والمراد بـ{آلَ لُوطٍ} لوطٌ نفسَه عليه السَّلام.
          ({قَالَ}): أي: لوطٌ للملائكة المرسَلين ({إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الحجر:61-62]): أي: تُنكركم نفسِي وتنفرَ عنكم؛ لأنَّهم لمَّا هجموا عليه من غير إذنٍ استنكرَهم، وخافَ من دخولهم على هذهِ الحالةِ أن يضرُّوه ويوقعُوا به شرًّا، وهاتان الآيتانِ في أواخرِ سورةِ الحجرِ.
          وقوله: ({بِرُكْنِهِ}): هذا اللَّفظ في آخرِ الذَّاريات، يشيرُ به المصنِّف إلى قولهِ تعالى: {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ. فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ} [الذاريات:38-39]؛ أي: أدبر فرعونُ عن الإيمانِ (بِمَنْ مَعَهُ): أي: من قومهِ (لِأَنَّهُمْ قُوَّتُهُ): بتشديدِ الواو؛ أي: التي يتقوَّى بها كالرُّكن الذي يتقوَّى به البُنيان، كقوله تعالى: {أَو آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، وذكره المؤلِّف هنا استطراداً لقوله في قصَّة لوطٍ: {أَو آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ}، وقيل: إنَّ ذكره هنا وهمٌ، فإنَّها من قصَّة موسى، والضَّمير لفرعون، والسَّبب في ذلك أنَّه وقع تلو قصَّة قوم لوطٍ حيث قال تعالى في آخر قصَّته: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الذاريات:37].
          ({تَرْكَنُوا}): أي: من قولهِ تعالى في أواخرِ سورةِ هود: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود:113]؛ أي: لا (تَمِيلُوا): أي: إلى الظَّالمين، قال أبو عبيدةَ في تفسيرِ الآية: ولا تعدلوا إليهم ولا تميلُوا، تقولُ: ركنتُ إلى قولك؛ أي: أحببته وقبلته، قال في ((الفتح)): وهذه الآية لا تتعلَّق بقصَّة لوطٍ أصلاً، قال: ثمَّ ظهر لي أنَّه ذكر هذه اللَّفظة من أجل مادَّة: رَكَن، بدليل إيرادِهِ الكلمةَ الأخرى، وهي: {لَا تَرْكَنُوا}.
          (فَأَنْكَرَهُمْ): بفتحِ الكاف (وَ{نَكِرَهُمْ}): بكسرها (وَاسْتَنْكَرَهُمْ وَاحِدٌ): أي: هذه الكلمات الثَّلاثة معناها واحدٌ، وهذا تفسيرُ أبي عُبيدة في قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [هود:70]، واعترض هذا بأنَّ الإنكارَ من إبراهيمَ غيرُ الإنكارِ من لوطٍ؛ لأنَّ إبراهيمَ أنكرهم لمَّا لم يأكلوا، ولوطاً أنكرهم لمَّا لم يُبالوا بمجيء قومه إليهم، فلا وجْهَ لذكرِ هذا هنا.
          وأُجيب: بأنَّ لهما تعلُّقاً بقصَّة لوطٍ وإن كانَتْ في إبراهيم.
          ({يُهْرَعُونَ}): أي: في قوله تعالى: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} [هود:78] (يُسْرِعُونَ): تفسير لـ(({يُهْرِعُونَ}))، وقال أبو عُبيدة: {يُهْرِعُونَ إِلَيهِ}؛ أي: يستحثُّون إليه، قال الشَّاعر:
بمُعَجَّلَاتٍ نَحوَهُمْ نُهَارِعُ
          أي: نُسارع، وقيل: يُزعجون معَ الإسراعِ، وسببُ ذلك أنَّ امرأة لوطٍ هي التي أخبرتهم بمجِيء هؤلاء الملائكةِ في صُورة رجالٍ مردٍ فهرعُوا إليهم.
          ({دَابِرَ} آخِرَ): يريد تفسيرَ: {دَابِرَ} في قولهِ تعالى في أواخرِ الحجر: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ}[الحجر:66]؛ أي: آخرهم مقطوعٌ مستأصَلٌ.
          ({صَيْحَةً}: هَلَكَةً): بضمِّ الهاء وسكون اللَّام، تفسير لـ{صَيحَةً} من قوله تعالى في يس: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً}[يس:29]، قال في ((الفتح)): ولم أعرف وجهَ دخوله هنا، لكن لعلَّه أشار إلى قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} [الحجر:73]، فإنَّها تتعلَّق بقوم لوطٍ، انتهى، وبهذا يندفعُ ما قيل: لا وجهَ لذكرهِ هنا؛ لأنَّ الآية لا تعلُّق لها بقصَّة لوطٍ.
          ({لِلْمُتَوَسِّمِينَ}: لِلنَّاظِرِينَ): بالظَّاء المشالة، تفسير: {لِلْمُتَوَسِّمِيْنَ} في قوله تعالى في أواخر سورة الحجر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75]، وهذا تفسير الضَّحَّاك، وقال مجاهدٌ: للمتفرِّسين، وقال أبو عبيدة: للمتبصِّرين المتثبِّتين، وعبارة البيضاويِّ: المتفكِّرين المتفرِّسين الذين يثبتون في نظرهم حتَّى يعرفوا / حقيقة الشَّيء بسمته.
          ({لَبِسَبِيلٍ} لَبِطَرِيقٍ): السَّبيل كالطَّريق وزناً ومعنًى وجمعاً، وهذا تفسير أبي عبيدة، أشار به إلى قوله تعالى في أواخر الحجر: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر:76]، وضمير {وَإِنَّهَا} يعود إلى مدائن قوم لوطٍ، وقيل: على الآيات، وقال البيضاويُّ: {وَإِنَّهَا} وإنَّ المدينة أو القرى {لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} ثابت يسلكه النَّاس ويرون آثارها.